هذا القدر من الفرح و الارتياح

579 10 0
                                    

  لم يكن الوقت في صالح جيسيكا، فالرجل الممدد في غرفة العمليات مصاب بنزيف داخلي، و الممرضة المساعدة تشير إلى أن نبضه يضعف بصورة مطردة. ما تحتاجه هو خمس دقائق أخرى قد تنقذ حياة إنسان و تنشله من براثن الموت.
حتى دان الواقف قربها لم يستطع أن يفعل شيئاً، فتفادى الاثنان النظر إلى بعضهما البعض و حتى التكلم منهمكين في محاولة يائسة لانقاذ المصاب. و دأبت على الالتفات بين الحين و الآخر إلى جهاز التنفس يخف تدريجياً منذراً بوقوع الكارثة. يداها المغطتان بقفازين ملوثين بالدماء، لم تتوقفا عن العمل لثانية واحدة تحاول في احداهما إبقاء مجرى الدم مفتوحاً بين العمل لثانية واحدة تحاول في احداهما ابقاء مجرى الدم مفتوحاً تحطم الاعصاب و القلب، و في الاخرى معالجة التمزق الذي احدثه تحطم الاضلاع من جراء السقطة. لكن الوقت لا يرحم تمضي ثوانيه بسرعة مقربة المصاب من حتفه.
رفعت الممرضة كمامتها الملطخة بالدماء و همست بيأس و خيبة:
- لقد مات يا دكتورة نيل.
التفتت جيسيكا بهلع إلى الشاشة السوداء المعلقة قربها، تطلق صوتاً رتيباً متواصلاً معلنة توقف قلب المريض عن الخفقان. لقد خذلها الوقت فلم يمهلها دقائق خمساً لينتصر في النهاية، فتراجعت مهزومة تغسل يديها. بينما أعطى دان تعليماته إلى الممرضة المساعدة:
- لقد انتهى الأمر، فاجري اللازم يا آنسة، و اعملي على ابلاغ ذويه.
لحق دان بجيسيكا إلى غرفة الملابس منادياً باسمها، لكنها لم تشعر برغبة في التكلم معه، و ضاعفت خطواتها تهرباً من مواجهته. تريد أن تختلي بنفسها و لو لدقائق معدودة تلتقط فيها انفاسها، فما ان وصلت إلى الحمام حتى قفلت الباب خلفها بقوة حابسة نفسها مع الحزن و الخيبة.
استعادت هدوءها رويداً رويداً من غير أن تتمكن من مسامحة نفسها على ما فعلته في غرفة العمليات. لابد من أنها أخطأت. لكن كيف؟ حدقت في يديها تستعيد مراحل العملية علها تكتشف شيئاً، لكن ذاكرتها أبت التعاون تاركة اياها فريسة الندم و الشرود. فجأة و هي تخلع ثوب الجراحة، تذكرت حادثة بسيطة سبقت صدور ذلك الصوت عن آلة التنفس، و لاحت صورة المصاب امامها من جديد تعيدها إلى واقعها الحزين. لقد غاب عن بالها ما رأته قبل أن تعلن تلك الآلة اللعينة الخبر المشؤوم. لقد تلوث قميصها و قفازاها ببقع الدم المجمد في الوقت الذي بدأ المضبع يشق طريقه في صدر المصاب. مما يعني أن عنصر الوقت هو الذي قضى على المريض و ليس مضبعها. لو كان بامكانها إيقاف الزمن أو اختلاس بضع دقائق أخرى فربما كانت كافية لمنع قلب ذلك المسكين عن التوقف.
عند خروجها وجدت دان واقفاً في وسط الرواق قاطعاً عليها المرور. ما يزال مرتدياً ثوب الجراحة الملوثة و على وجهه أكثر من سؤال:
- هل أنت بخير؟
- إني... إني على ما يرام.
- هذه الأمور تحدث دائماً يا جيسيكا.
- أعلم ذلك.
- لقد فعلت ما بوسعك.
أدارت وجهها ناحية النافذة و عيناها تكادان تدمعان:
- لكن... آه، علي أن أملأ بعض المستندات و أتهيأ لمقابلة ذوي المريض.
حط يده على كتفها تمنعها من التحرك:
- جيسيكا... إياك أن تخاطري بحياتك مرة أخرى.
التقت نظراتهما لثوان اعادت إليهما تلك الدقائق الرهيبة التي قضتها في الشاحنة المتأرجحة على حافة الوادي.
احست أنه يقاسمها خوفها على نفسها، فالقلق البادي في عينيه ربما كان صادقاً و ارتعاش أنامله فوق كتفها يؤكد ظنها.
- طبت مساء يا دان.
شعرت بنظراته تتبعها حتى نهاية الرواق لكنها لم تجرؤ على الاستدارة، مخافة أن يلاحظ الدمع و قد خطط أهدابها بعد أن لبت عيناها نداء قلبها الموجوع.
في صباح اليوم التالي، جلست جيسيكا على شرفتها ترشف قهوتها و تنظر إلى الصحيفة الموضوعة أمامها مبرزة في صفحتها الأولى خبر قيامها بذلك العمل البطولي لانقاذ سائق الشاحنة.
لم تحتمل قراءة تفاصيل النبأ، فهي لا تعتبر ما قامت به عملاً خارقاً يستحق كل هذه الضجة، لقد أدت واجبها تجاه انسان بحاجة للمساعدة، لكنها فشلت في انقاذ حياته. فأين البطولة في ذلك؟
لم ينقطع هاتفها عن الرنين طوال النهار، فالناس تريد معرفة تفاصيل الحادث منها شخصياً. فانهمرت عليها اسئلتهم بالحاح مستفسرين حيناً و مهنئين حيناً آخر. لكنها في نهاية المطاف اضطرت إلى نزع شريط الهاتف لتهنأ بقسط ضئيل من الراحة.
عند المساء سمعت جيسيكا طرقاً خفيفاً على باب منزلها، و لما فتحته وجدت دان ترافورد متكئاً على حافة الباب. ابتسم ملقياً التحية:
- مرحباً يا جيسيكا. كنت...
قاطعته قبل أن ينهي عبارته:
- دعني اتكهن بما ستقول. لقد كنت ماراً فرأيت أنوار المنزل مضاءة و فكرت بأن تعرج لتناول القهوة. أليس كذلك؟
لم ينتظر دعوتها له و دخل الغرفة و الابتسامة لا تفارق وجهه:
- أنت تقرأين أفكاري يا جيسيكا.
سارت أمامه نحو المطبخ هاتفة:
- هذا ما لن أفعله أبداً.
وقف بالقرب منها يراقبها تحضر القهوة ثم سأل بمكر:
- هل نامت ميجان؟
- أجل لكن ليس هنا. قد يستدعونني إلى المستشفى في أية لحظة،فارتأيت أن تقضي ليلتها عند بيتر و فيفيان.
جلس على كرسي قريب من الطاولة فوضعت فنجان القهوة أمامه و جلست في مواجهته.
- يبدو أن ميجان تمضي معظم عطلتها مع فيفيان بدلاً من ان تمضيها معك.
- هذا لأني منهمكة بالعمل هذه الايام وفيفيان مولعة بالاطفال عدا ان بقاءها مع فيفيان كان الحل المناسب في الوقت الذي اضطر فيه للبقاء في العيادة.
- لاشك في ذلك.
لم تعجبها لهجته الساخرة فانتفضت بانفعال سائلة:
- الى ماذا ترمي يادان؟
- اعتقد ان جلب ميجان الى هنا كان خطة مدروسة.
- حقاً؟
- اجل فــ فيفيان وبيتر لم يرزقا اولاداً وميجان فتاة يتيمة وان نحن جمعنا الحالتين معاً نكوّن عائلة مثالية.
- لكني يا دان...
قاطعها وكأنه يدرك مايجول في خاطرها:
- لن أضيف كلمة أخرى ان كان هذا ماتخشينه كل ما أريده هو التأكد من صحة ظني.
تململت جيسيكا في مقعدها:
- كيف عرفت؟
- الأمر في منتهى البساطة فـ بيتر لم يترك مناسبة الا وتحدث فيها عن ميجان وعن الاوقات الممتعة التي يقضيانها معاً وهذا مادفعني الى التساؤل عن حقيقة المدة التي أمضتها معك انها أدلة كافية على ماحاكت يداك.
- حل رائع لكلا الطرفين. ألا توافقني الرأي؟
- بكل تأكيد انما لايغب عن بالك استحالة التلاعب بمشاعر العالم كما يحلو لك.
تعلم انه على حق في مايقول لكنها لم ترد الاعتراف بذلك واحست بكرهها له فأجابت بعناد:
- انه الحل الافضل.
افرغ فنجانه دفعة واحدة ودفعه بعيداً عنه ثم تطلع اليها ساخراً:
- وماذا سيحصل في حال فشلت خطتك الذكية؟
- سيخيب ظني طبعاً.
- والصغيرة المسكينة سترسل في أول قطار الى الميتم الذي جائت منه كطرد بريدي غير مرغوب فيه.
- لاتتكلم عنها بهذه الطريقة.
- واجهي الحقيقة ياجيسيكا جعلت الصغيرة تدرك معنى الحرية وترى مايوجد خارج جدران سجنها أعدتها الى اجواء العائلة التي عرفتها مرة واحدة منذ زمن بعيد ومن الاجحاف ان تعيديها من جديد الى واقعها المرير في الميتم.
استدارت لتواجهه لكنها فوجئت به وقد وقف خلفها مباشرة فاستندت الى الحائط تبرر موقفها:
- لقد حسبت حساب كل شئ ان اخفقت خطتي فأنا من ستتحمل تأنيب الضمير ولا احد غيري.
- يسعدني سماع ذلك لأني للمرة الاولى لن أشاركك هذا العبء.
أجابت بحدة من غير ان تتمكن من السيطرة على ارتعاشها:
- لم أتوقع ان يشاركني احد ذلك.
- انت جميلة حين تغضبين!
- اصمت. ارحل من هنا وأتركني وشأني.
- هل يمكنني ان اخفف من تأنيب ضميرك؟
رفعت وجهها بثقة:
- ضميري مرتاح.
- حقاً؟ لن يظل طويلاً على هذه الحالة.
اجابت بسرعة تحاول مقاومة نظراته المزعجة:
- أرحل قبل ان ...
لم تقوى على اكمال تهديدها فقد عانقها بحرارة طال لهيبها كل جسمها.
حاولت الافلات لكن يده انسلت الى عنقها تمنع عليها الحراك فوضعت راحتيها على صدره تجاهد في الامتناع عن التجاوب. لكن مقاومتها لم تدم طويلاً واختلطت دقات قلبيهما بعدما فقدت السيطرة على أحاسيسها لكنها ما ان افلتها من طوق ذراعيه حتى احست بجسامة ما ارتكبته.
- لم تكملي عبارتك ياجيسيكا.
احست بالاهانة التي حمّلها جملته فتراجعت خجلة تجاهد في السيطرة على اضطرابها:
- من الأفضل ان ... ان تذهب.
تقدم منها وكأنه لم يسمع ماقالت هامساً في اذنها:
- أهذا أمر؟
أحست بشحنات كهربائية تسري في عروقها دفعتها الى دفن وجهها في صدره. انه سيد الموقف ويدرك تماماً مايفعله فهتفت بصوت متهدج:
- أرجوك يادان... أرجوك توقف.
سلط عليها نظرات سافرة وقال وهو يترك يديها المرتجفتين:
- حسناً، كان الامر يستحق المحاولة.
خرج من غير ان يزيد كلمة أخرى وبقيت جيسيكا مسمرة حيث تركها تلعن نفسها على الضعف الذي اظهرته مع هذا الطبيب المراوغ انها تشعر بميل هائل اليه وقد يكون حباً لكنه لايشكل مبرراً لاستسلامها له بهذه الطريقة السهلة. اتكأت على الكرسي الخشبي خلفها تتكهن برأيه فيها بعد الذي حصل منذ دقائق. لم تفكر يوماً ان تنافس فتاة أخرى على قلب رجل وخاصة سيلفيا سامرز. وان لم تتحكم أكثر بعواطفها في المستقبل فان دان سيظن انها تسعى لانتزاعه من حياة سيلفيا.
في الأيام التي تلت انهمكت جيسيكا بالعمل فلم تسنح لها الفرصة لتهتم بمشاكلها العاطفية لكن الشئ الوحيد الذي لم تستطع التخلي عن التفكير به كان قضية ميجان وكلام دان عن امكانية فشل خطتها فعطلة الصغيرة شارفت على الانتهاء من غير ان تفاتحها فيفيان برأيها فيها.
ارتأت التحقق من حقيقة الأمر بنفسها فدعت ميجان الى منزلها لتمضية السهرة وبعد العشاء انتقلتا الى غرفة الجلوس حيث تمددت جيسيكا على الاريكة الطويلة وطوقت الصغيرة بذراعيها مستفهمة بحنان:
- كنت عابسة الوجه طوال الوقت هل هناك مايزعجك؟
أجابت ميجان من غير تردد وقد ازداد تجهم وجهها:
- سأغادر هذا المكان غداً.
- هل استمتعت بعطلتك؟
اغرورقت عينا الصغيرة بالدموع:
- آه كثيراً لكن ... كم اتمنى ان أبقى الى الأبد.
رفعتها جيسيكا بذراعيها تضمها الى صدرها برفق وتمسح دموعها:
- ما الذي اعجبك اكثر في هذه العطلة؟
- كل شئ لكن صداقة فرانسين تبقى الأفضل فهي حقاً نعم الصديقة واتفقت معها على تبادل الرسائل و ... آه لقد نسيت العمة فيفيان والعم بيتر لقد احببتهما كثيراً وكأنهما والداي.
- هل انت متأكدة من أحساسك هذا؟
اسندت الطفلة رأسها إلى كتف جيسيكا و طوقت عنقها بذراعيها:
- ليتني أبقى هنا و لا أعود إلى ذلك الميتم الكريه. سأشتاق إليهم و إليك أنت أيضاً.
ضمتها جيسيكا إلى صدرها تاركة شعر الصغيرة الناعم يخفي دموعاً ترقرقت على وجنتيها.
- و أنا أيضاً سأشتاق إليك، سآخذك إلى سريرك.
أدخلت جيسيكا الصغيرة إلى غرفتها، و بعد أن تأكدت من أنها غفت نزلت إلى الطابق السفلي و تسللت من باب المطبخ إلى الحديقة متجهة إلى منزل آل اوبريان. لم تقرر بعد كيف ستفاتح بيتر بالأمر و لكنها لن تلغي خطتها و تترك الأمور كما هي عليه.
ما زالت مكتبة بيتر مضاءة، فأتجهت على مهل إلى نافذة المكتبة ووقفت تسترق النظر الى الداخل. فيفيان بين ذراعي زوجها تشهق بالبكاء كمن حلت به مصيبة. لم يسبق أن رأتها بهذه الحالة فالصقت أذنها بالنافذة تحاول التنصت إلى ما يدور بين الزوجين.
- لا يمكنني أن ادعها تعود يا بيتر.
اكتفت جيسيكا بهذا القدر من التجسس خشية أن ينتبه أحدهما لوجودها، و قفلت راجعة إلى مسكنها. لا بد و أن فيفيان تعني الطفلة بكلامها، فأغلقت الباب خلفها بهدوء و جلست في غرفة الجلوس تتوقع أن يقرع بابها بين اللحظة و الأخرى.
و حدث ما توقعته، فبعد نصف ساعة سمعت قرعاً خفيفاً على باب المطبخ فسارعت إلى اشعال النار تحت غلاية الماء قبل أن تفتح الباب.
ابتسمت للزائرين مرحبة:
- تفضلا، كنت أحضر فنجاناً من الشاي و يسعدني أن تشاركاني.
- سنشربه معك هنا، في المطبخ.
حضرت الأكواب بينما جلس بيتر و فيفيان إلى الطاولة ساكتين.
نجحت فيفيان في إزالة آثار الدموع عن عينيها، من غير أن تفلح في اخفاء اضطرابها عن جيسيكا و هي تقدم لها كوب الشاي.
- جيسيكا... في ما يختص بميجان

رواية ( المجهول )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن