ما بال قلبهِ ينبضُ مضطرباً بدقات مجنونة تكاد تصرعه ... روحه التي جاهد لسنين طويلة يلملمها و يداوي جراحها عادت لتنزف و تنتفض داخل صدره ... أفكار و هواجس تمزقه و تبعثره في محراب الحيرة و الضياع ....يشعر بخطاه ثقيلة كما لو أن الحياة أصبحت فرضاً يكابد لتأيدته مجبراً .. تخيل عودة غيداء بألف صورة ... و لكن ان تكون على هذا الشكل !!! متعرضة لضربٍ وحشي ..فاقدة للذاكرة .... مذعورة و خائفة ... ترفض وجوده حولها كما كانت من قبل ... خمس سنوات طويلة لازالت مجهولة .... و هذا الصوت الماكر و اللئيم يلح عليه ..يرسم الشر.. يعذب ضميره :
_ لما عادت ؟ ستفسد حياتك ... ستدك حصونك ... ستضرب أستقرارك و عائلتك ... لما تسمح لها بدخول عالمك من جديد ... تلك الليلة قبل خمس سنوات وضعت لها حداً و طردتها مع انتقامها و شرورها ... أخرجتها من حسابتك و غسلت يدك من أي أمل بصلاحها ... لقد خانتك و خدعتك
تعلق "وسن" المفاجيء بذراعهِ فور دخوله القصر قطع لجة أفكاره و هي تقول بفضول:
_ هل حقاً عادت " غيداء " ؟؟
نظر إليها بطرف عينه و هو يقول :
_ من أين ظهرتي يا مدللة ؟؟
زمت شفتها بغضب طفولي و هي تهمس قائلة :
_ كتيبة الإعدام تنتظرك بالمكتب و " قيس " يبدو غاضباً للغاية ... لقد تشاجر مع حنان و أمي و غيث و الخدم ... و يبدو مترنحاً بشدة ...و رائحة الكحول تفوح منه بطريقة مقرفة تثير الغثيان ...
زفر "تيم" بغضب و هو يضغط بطرف أصابعه على جبينه مغمضاً عينيه :
_ يا الله .. لن ينتهي هذا اليوم أبداً ... هل علم التوأم ؟؟
هزت رأسها تنفي الأمر و هي تقول :
_ " حنان " حرصت على إبعادهما عن هذا الحشد الغاضب و هي تجلس معهما في غرفة " ريناد "
أخذ " تيم " نفساً عميقاً و أراد الدخول لولا وقوف "وسن" أمامه و هي تتمسك بذراعه قائلة بحنان و زرقة عيناها تلمعان :
_سأكون معك بأي قرار تتخذه و "غيث" كذلك لا تقلق
ابتسم لها و هو يقول بعاطفة أب فخور :
_ لقد كبرتِ صغيرتي ...
قبل جبينها و هو يدخل المكتب و هي تتبعه و عيون عائلة الأكحل تتعلق به ... وضع يديه بجيبه و هو يحدق بهم معتصماً بالصمت قال " قيس" بعصبية مرتجفاً يسأل بتوجس :
_ تلك المرأة في المشفى .. هل هي " غيداء " ؟؟؟
قال تيم بهدوء يخالف العواصف التي تهدر بصدره .. عالماً بأن الحسابات القديمة ستشتعل بوجهه :
_ نعم ... هي " غيداء "
تحرر مارد الغضب من صدر " قيس " مهاجماً " تيم " .. يطبق بيده على رقبته ليسقطا معاً على الأرض وسط صراخ " وسن" و " أمينة " ... :
_ أين هي الآن ؟؟.. أخبرني ..سأقتلها ... سأقتل تلك الأفعى
لم يحاول " تيم " الدفاع عن نفسه متقبلاً غضب أخيه الأكبر .. حاول فك حصار يديه عن عنقه فقط ... أقترب "غيث" بكرسيهِ المتحرك يحاول إبعاده ... لكن "قيس" دفعه بقوة دون وعي أو إدراك ..
سقط "غيث " عن كرسيه المتحرك .. ارتطم رأسه بحافة الطاولة محدثاً جرحاً صغير بجبهته و قد استقر الكرسي على ظهره ... عندها اختفى الصبر من قاموس كلمات " تيم " ... إنتفض بقوة دافعاً " قيس " بقدميه ليسقطه على ظهره ... ثم أسرع مع وسن يرفعان " غيث" عن الأرض
ذابت بحور العسل بعيني "غيث " كمداً و قهراً ... جرح عميق ينهشه بنصلٍ مشتعل بنار العجز و الضعف ... إنكسار الشباب في قمة زهوه و انطلاقه ... أين رحل ذلك الشاب الحيوي المنطلق؟؟ ... عاشق المغامرة ... متسلق قمم الجبال .... يخوض سباقات السرعة ... الباحث عن اكثر أنواع الرياضة تطرفاً لينغمس بفورة الأدرلين .... من هذا الشاب العاجز عن القيام بأبسط الأشياء وحيداً ؟؟.... من هذا الذي استعمره و استوطنه ... بسبب حادثٍ لعين قيده لكرسي متحرك كما روحه الحبيسة داخل جسده الهش المنكسر
سأله " تيم " بقلق و هو يتفقد جرح جبهته و "وسن" تجلس أرضاً متمسكة بذراع "غيث" تكتم شهقات بكائها :
_ هل أنت بخير " غيث "؟؟
هز "غيث" رأسه إيجاباً و هو يمسح الدماء عن جبهته حانقاً .. غاضباً ... كسيراً .. توجه " تيم" ناحية " قيس " الذي وقف مترنحاً ..غاضباً لا ينوي على خير و هو يصرخ :
_ كيف تجرؤ على إيذاء " غيث " بهذه الهمجية !!! ... لقد فقدت حتماً آخر ذرات عقلك ... لقد تحملت أفعالك اللامسؤولة لوقت طويل ... و لكن أن يصل الأمر لإيذاء "غيث" ..أنا لن أسمح لك .. هل تفهم ؟؟
قال " قيس" ببرود و هو يلوي فمه بسخرية :
_ أين كانت هذه القوة لتمنع زوجتك المصون من إيذائهِ في البداية ؟؟.. أين كنت و هي تدمرني و هي تحت حمايتك ... انسانة حقيـ ...
قطع " تيم " كلمته بلكمة أفرغ فيها جام غضبه و توتره و ألمه و هو يصرخ :
_ توقف عن تحميلها سبب ما أنت فيه ..هي لم تكن متواجدة بالسنوات الاخيرة و لكنك بغباء أصررت على الغرق بمستنقع الإدمان و الرذيلة التي كنت تعيشها منذ دخولك لندن أساساً
صرخت " أمينة هانم " بغضب و هي تدق الأرض بعصاها الخشبية :
_ هذا يكفي ... كيف تجروآن على التصرف هكذا أمامي ... تلك المشعوذة لم تعد للمنزل بعد و بدأتما الشجار بسببها
وضع "تيم" يده على صدره قد شحب لونه غير قادر على التنفس بصورة طبيعية ... قال " غيث " متوسلاً أمه :
_ أرجوكِ أن تهدأي أمي أنت تسكبين الزيت على النار ...
_ النار ستلتهم القصر بعودة تلك الملعونة الخبيثة
صرخ " تيم " و هو يشعر باللكمات تسلط عليه من كل حدٍ و صوب يكاد أن ينهار أرضاً ..يتألم بقوة ... إحساس مروع يسيطر على روحه .... يعلم أنها تسببت بالألم لعائلته و لكنها الآن تحتاجه :
_ ليسمع الجميع ما أقول ... " غيداء " زوجتي و أم طفليّ ... ستعود إلى هذا المنزل .. يمنع على الجميع فتح صفحات الماضي معها ... هي في وضع صعب ..فاقدة للذاكرة ... مصابة و خائفة... و من لم يعجبه هذا الكلام بإمكانه المغادرة و ترك القصر
خرج من المكتب كإعصار هادر و " غيث " يلحق به و من خلفه " وسن " .. تبادل " قيس" و أمه النظرات لتقول " أمينة هانم " :
_ أفق من كبوتك " قيس " ... أنت الأخ الأكبر .. من المفترض أن تكون المسيطر على الأمر و ليس " تيم " ... أخوك أصابه العمى بسبب تلك المرأة ... عليك أن تنقذ نفسك مما أنت فيه و تعود لمكانك .. هل تفهم ؟؟
خرج " قيس " من المكتب دون أن يلتفت لكلماتها ... فقط نظرة سوداء غشت عينيه المحمرتين ...يقسم بها أنه لن يتركها هذه المرة فقد عادت لتتلقى عقابه و غضبه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــ
ألقت بجسدها المنهك على فراشها عقب هذا اليوم المشحون بالمواجهات بعد أن هدأت أمور القصر تضم اللحاف الناعم لصدرها ... و للحظة كاد النوم أن يغلبها و هي لازالت بملابس الخروج لولا مداعبة صورة " إياس" لقلبها و خيالها المتيم به و بكل تفاصيله
أسرعت تخرج هاتفها المحمول من حقيبتها تبحث عن اتصال أو رسالة منه ... و لكن لم تجد شيئاً ... دمعة تهادت على خدها تشعر بالخيبة و الوجع ... لأول مرة يتجاهل حزنها و غضبها ... لم يكن يقاوم دموعها .. يحاول أن يبعدها عنه .. لكنها تعلم .. الحب في عينيه يتراقص على أنغام ابتسامته الخاصة بها ...
لن تنسى ذلك اليوم الذي تركت فيه شعرها ينساب على ظهرها كموج ذهبي يغطي كتفها الرقيق ... وقف أمامها مسحوراً ... مدّ يده .. كاد أن يغرز أصابعه بين خصله المتطايرة ... لكن بدل ذلك شده بقسوة يحذرها بأن لا تتركه حراً ... و من ذلك اليوم يناديها بصاحبة سلسال الذهب ... يدقق بما ترتدي من ملابس وكيف تتعامل مع زملائها و ياتي قائلاً بأنه مجرد صديق !!!
تنهدت بأسى و هي تلقي الهاتف ... نظرت لساعتها لتجد أن الوقت قد تجاوز منتصف الليل فقالت بحنق :
_ لا بد أنه ينعم بالنوم منذ ساعات و أنا كالحمقاء أحترق غيظاً و قهراً
أندست تحت اللحاف تغطي وجهها تحاول كبت غضبها توشك على الصراخ ... لكن ... ارتفع صوت هاتفها يعلن عن وصل رسالة تناولته سريعاً و هي تقذف اللحاف بعيداً , كلمتان فقط جعلت كل مشاعرها السلبية تختفي :
" أغاضبة أنتِ سلسال الذهب ؟ "
l عضت على شفتها بحماسة و هي ترسل له صورة وجهٍ حزين
ردّ عليها سريعاً و هي تلتهم حروفه كما لو انها إكسير الحياة السحري
" لا تغضبي سلسال الذهب ... لم أقصد أن أجرحكِ ... قلبي لن يحتمل... "
أغمضت وسن عينيها و هي تهمس لنفسها:
_ و تقول أنك لا تحبني أيها الأحمق
j أرسلت له بعدها وجهاً سعيداً
و كتبت له
" و قلبي لن يحتمل أن يخدش قلبك إياس "
صمت الكلمات لم يغطي على صخب المشاعر المضطربة... ليقطعه " إياس" برسالة:
" تصبحين على خير ... لا تفوتي محاضرات الغد كما فعلت اليوم "
قبضت على الهاتف بقوة و هي تهمس
_ استمر بالهرب "إياس" ... سيأتي يومٌ و تعترف بحبك لي
أرسلت له آخر كلماتها :
" حاضر لن أفعل... تصبح على خير " إياس"
أرادت أن تضع الهاتف جانباً لكن رسالة جديدة جعلتها تعود لفتح الهاتف
" شكراً على الهدية ... سأحفظها بعمري "
ابتسمت و دموع ناعمة تسقي خدها و قد تضجر بحمرة شهية كما لو أن أصابعه التي تلامس صورتها تبث مشاعر عشق على بشرة وجهها الندية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
أسبوع مرّ رتيباً و غريباً على " غيداء" ضمن جدران المشفى الباردة ... تحاول فك عقد ذاكرتها المتشابكة التائهة ... لكن ...لا شيء ... ظلام يحيط بكل زوايا ماضيها .. و حيرة ترعبها حدّ الموت وأسئلة تطارد الإجابات المتوارية خلف جدران الصمت ... لما تعرضت لهذا الضرب الوحشي ؟؟ أين اختفت لخمس سنوات بعد أن تم اختظافها !!! ... أين عائلتها ؟؟ هي لم ترى سوا " تيم" منذ أن استفاقت .. يأتي كل يوم يساعدها على السير حسب أوامر الطبيب و تناول الطعام و الدواء.... يتحدث إلى الأطباء باهتمام ... يسألها كل خمس دقائق :
_ أنتِ بخير ؟؟ هل تحتاجين لشيء؟؟
تجيبه بإيمائة من رأسها و هي تهرب من عينيه المدققة و المتسائلة ... تحاول تفسير تلك النظرات المرعبة ... قشعريه قاسية تتلبس جسدها كلما كان قريباً منها .. لمساته تجعل قلبها يخفق سريعاً ينافس سرعة تنفسها بسباق مجنون لا يمكن أن تخفيه ... ليبتعد سريعاً و قد أغضبه ارتجافها دون أن يتكلم .. فقط عينيه تصرخان بصخب يكاد يصرعها
أعلن الطبيب قدرة " غيداء" على مغادرة المشفى .. مرغمة شهقت و هي تغطي فمها تحدق بـ "تيم" و الدموع تحتشد بعينيها ... تحدث معها الطبيب قليلاً يبث الهدوء بنفسها و " تيم " يقف بعيداً حانقاً و مجروحاً يدلك رقبته مغلقاً عينيه... لازالت تنفر منه حتى و هي فاقدة الذاكرة !!!
تركت حياة المشفى التي لا تملك سوا ذكرياتها كطفلٍ رضيع يقبل على حياة جديدة ... لكنها تفتقد ذلك الصدر الحنون الذي يبث الأمان و الحماية بنفسها... تجلس إلى جانبه بسيارته الفخمة تلتصق بباب السيارة مذعورة كفرخ البط المبتل... قام " تيم " بتأمين قفل باب السيارة فقد شعر للحظة انها ستقفز هرباً منه ... مجنونة و من الممكن ان تفعل أكثر من هذا ... و الصمت الثقيل زاد من دق القلوب الخائفة... لكنها في النهاية نامت .. فقد طالت الطريق و الأدوية الثقيلة قد أنهكتها ... قرر أن يبعدها لبعض الوقت قبل أن يعيدها للقصر ... حتى تتعافى جروحها و تستعيد صحتها ... بانتظارها مواجهات صعبة ... و قد خاف على التوأم من ضعفها الشديد و أراد أن يهيئهما لعودتها إلى حياتهما ...
وصل إلى البحيرة على أطراف المدينة ... أوقف السيارة أمام الكوخ الخشبي الوحيد على أطرافها ... نادى " غيداء " بصوت منخفض ... ردت عليه بهمهمة غير مفهومة و هي غارقة بنومها ... ابتسم لرؤيتها هكذا ... هادئة ... بريئة ... تبدو كملاك ضعيف يبحث عن الأمان ... كما كانت منذ عشر سنوات على مقاعد الإنتظار في مطار هيثرو
نزل من سيارته ليتوجه للطرف الثاني ... فتح الباب و جلس القرفصاء إلى جانبها يتأمل ملامح وجهها الحبيبة ... رفع خصل شعرها المتمردة على وجهها يقبل جبينها بنعومة قاتلة ... أراد أن يبقى معها هكذا ... كما أحبها ... لم يعلم أن مشاعره لازالت دافئة و قوية ... ظن أنه تمكن من كرهها لكنها لعنته الأبدية ..سحر أسود أخضع قلبه لجبروتها
رفعها بين ذراعيه و قد أدرك أن وزنها قد خف كثيراً... نسمات الخريف الباردة طيرت خصلات شعرها على وجهه ليغرق بذكريات حبٍ لم يعرف معنى السعادة