تشعر بقلبها يعافر لاختراق عظام صدرها و الهرب من جسدها المرتجف كورقة عالقة في بؤرة عاصفة جليدية ...و عقلها لا يستوعب ما ترصده عينيها ... ذلك الجسد الذي سكن على الأرض أسفل الشرفة و قد اختلف ترتيب أطرافه الطبيعي ... العيون جاحظة ... الرعب حفر على ملامح وجهها المتشنجة بخطوطٍ أبدية
أسرع رجال الأمن بالأسفل حيث استقر جسد "أمينة هانم" يعلنون وفاتها بعدما سمعوا صوت صراخها المدوي ... لم تُفق "غيداء" من صدمتها إلا على همسات "ريناد" و هي تردد مرتجفة :
_ قتلت الجدة .. انا قتلت الجدة
قبضت "غيداء"على كتفيها بقوة و هي تجلس على ركبتيها أمامها تهزها بقوة و هي تقول بحزم :
_ لا ... انتِ لم تفعلي ... هل تفهمين "ريناد" ؟
قالت "ريناد" و هي تنظر لحافة الشرفة تشير باتجاه سقطت جدتها :
_ لقد فعلت ماما ... انا..
قاطعتها "غيداء" و هي تحيط وجهها بقسوة تحدق بعينيها الذاهلة تزرع كلماتها بذهن "ريناد" حتى تصدق الكذبة :
_ لاااااا ... انا ... انا من دفعها ... لقد سقطت بسببي .. هل تفهمين ؟
قالت "ريناد" و قد ازداد شحوب وجهها لحد مرعب :
_ماذا؟؟
رددت "غيداء" كلامها ببطء و هي تسبر أغوار وعيها :
_أنا من دفع الجدة ... هل تفهمين ؟؟
رفعت "غيداء" رأسها باتجاه "فاطمة" و هي تقول بإصرار:
_أرجوكِ "فاطمة" ...سنقول ما اتفقنا عليه ...
زاد صخب الأصوات بالأسفل ...صُراخ "وسن" ... أوامر "تيم" للإتصال بالإسعاف و هو يغطي وجه أمه بسترته يدفع "وسن" بعيداً ,ينتوي الصعود للشرفة حتى يفهم و هو يقاوم صدمته و ألمه ...
عادت "غيداء" تنظر لـ"فاطمة" متوسلة :
_ أرجوكِ ...
أومأت "فاطمة" برأسها موافقة و هي تمسح الدموع عن وجهها ...
_ ما الذي حدث معها ؟؟
كان صوت "تيم" مرتجفاً ...ضائعاً ... و هو يدخل مع "وسن" يساندها و هي تشهق ببكاءٍ عنيف ... رفعت "ريناد" رأسها تحدق بوالدها و هي تهمس بذهول :
_ بابا انا ...أنا ..
أسرعت"غيداء" تضمها لصدرها بقوة لتنهار الصغيرة بالبكاء تتمسك بها ... عاد "تيم" يسأل بإصرارٍ أكبر :
_ كيف سقطت أمي من أعلى الشرفة ؟؟
أخذت "غيداء" نفساً عميقاً دون أن تنظر لوجهه "تيم" تخشى أن تفضح عيناها كذبتها ...
_ "تيم" لقد ... أنا ..
قاطعتها "فاطمة" و هي تقول بثبات تقف بمواجهته :
_ سيد "تيم" ... لقد جئت مع السيدة "غيداء" هنا بناءً على طلبها لنصطحب الآنسة الصغيرة ... و ما إن هممنا بالمغادرة نستأذن "أمينة هانم " بالإنصراف حتى صُدمنا بصوتها المرتجف تشكو من دوار شديد و هي تقف بجانب الحافة ... و قبل ان نتمكن من الإقتراب إختل توازنها وسقطت
حدقت "ريناد" بأمها للحظات لتهز رأسها بموافقة صامتة على هذه الكذبة ... و هي تعود لصدرها تحتمي فيه من الدنيا ... دلك "تيم" جبينه بإرهاق و هو يقترب من زوجته و ابنته يغمرهما لصدره و دموع صامتة سالت من عسل عينيه تحرق قلب "غيداء" ... ضمته لصدرها أكثر و أكثر ليسمح لضعفه بالظهور يقاوم ألم قلبه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
بعد أسبوع
يصارع تلك القيود القماشية التي تقيده بسرير المشفى ...نار ...نار متقدة تحاصره يشعر بأن الفراش جمر مشتعل يحرقه و لا يمكنه الفكاك منه ... و الحمم تمشي بعروقه بدلاً من الدم .... منذ أن استيقظ و هو على هذه الحال ... لم ينفع صراخه و تهديده ... الكل يتجاهل مطالبه بتحريره ... الألم يذبحه و هم لايسعفونه سوا بمسكنات لا تأثر بجسده المعتاد على ذلك السم...
دخلت"حنان" الغرفة وهي تحدق به جزعة ... لقد جرح معصميه من جديد بسبب قوة الضفط التي يمارسها بعناد ...
_ "قيس" توقف بالله عليكِ عما تفعل ....ستؤذي نفسك و جرحك لم يبرأ بعد
لم يستجب لكلماتها و هو يستمر بمحاولاته اليائسة يشد على أسنانه بقوة و قد تكسرت أطراف اضراسه ... يرفع رأسه بعناد البغال يزمجر غاضباً :
_ يجب ان أغادر المكان .... "حنان" حرريني ... أكاد أفقد عقلي ...
أسرعت تدفعه برفق من كتفيه ليهدأ و هي تتوسله باكية :
_أرجوك ...هذا يكفي ... يجب أن تهدأ
قال و هو يرمي برأسه على السرير يلهث بإرهاق مغمضاً عينيه :
_ انا أتألم بشدة "حنان" ...لا أحد يشعر بمقدار الوجع الذي يقتلني من الداخل ... أُطلبي منهم أن يحرروني من هذه القيود الملعونة
إبتعدت "حنان" عنه و هي تفرك كفيها بتوتر تقول بعتب :
_ لقد اتصلتَ بالشخص الذي يزدوك بالمخدر فور استعادتك الوعي !!!... كيف تريد أن أثق بك من جديد ؟؟
صرخ "قيس" بانفعال و هو يعود لمحاولاته بالتحرر :
_ "حناااااااااان" .. الآن ... أريد أن أنهض من هذا السرير البغيض ... سأقتلك إن لم تفعلي
حدقت به بغضب و هي تتقدم نحوه و عيناها الخضراء تشتعل بلهب
_ أُنظر لنفسك ...أنظر لحالتك المزرية .... جسدك يرتجف فاقداً السيطرة ... عيناك تلونتا بالدم ... عروق جسدك بارزة بشكلٍ مرعب ... تتعرق باستمرار ...
عض "قيس" على شفته الجافة حتى أدماها ليصرخ بعدها :
_ آآآآآآآآآآآآآآآآآآآه ... لم أعد أطيق الأمر ... أحتاج فقط للقليل ... فقط للقليل من حبوبي ... صدقيني لن أتناول غيرها ... لكن الآن أحتاج للقليل ... أنا أموت هنا .. أشعر بثقلٍ رهيب يضغط على صدري... هل تفهمين لقد ماتت أمي و أنتم تحتجزونني هنا
قالت "حنان" تتوسله و هي تسرح شعره بطف :
_ "قيس" ... صدقني لقد قال الطبيب أن المخدر قد خرج من جسدك ... كل ما تشعر به يتعلق بالعامل النفسي يجب ...
إنتفض جسده و هو يصرخ بوجهها الذي بهت من هجومه :
_ إخرسي "حنان " إخرسي ... أنت و ذاك الطبيب مجرد حمقى و أغبياء ...
إرتدت "حنان" للخلف و هي تخفض بصرها و قد إحتشدت الدموع بعينيها ... أغمض "قيس" عينيه بقوه يشتم نفسه بصوتٍ عالي ... عاد ينظر لـ "حنان" متوسلاً و هو يقول :
_ أنا آسف .. آسف لم أقصد ..
قاطعته "حنان" و هي ترفع رأسها بإباء تقول بآلية :
_ستخرج اليوم من هذا المشفى لقد تدبر "تيم" أمر نقلك لمكان ثاني حتى تتم علاجك ...
خرجت من الغرفة و هي تتجاهله ندائه... لتستند على الحائط بجانب غرفته البعيدة عن باقي الغرف و صراخه و توسله يخترق قلبها المجروح ... تضع يدها على عنقها تشعر بالإختناق ...
_ "حنان" ما الأمر ؟؟ هل أذاكِ "قيس" ؟؟
أسرعت تمسح دموعها تبتسم متألمة لـ "تيم" الشاحب القلق و هي تقول :
_ لا شيء جديد ...هل حضرت كل شيء ؟؟
_ لقد فعلت و سيارة الإسعاف تنتظر بالخارج ... لقد جهزت الشقة ...أصبحت أفضل من أي مشفى .. هذا مؤقتاً حتى أنقله لمشفى يعالج إدمانه خارج البلاد بعيداً عن أعين الصحافة
زفرت "حنان" بقليلٍ من الإرتياح و هي تقول :
_سأحضر حقيبتي و ..
قاطعها "تيم" بحزم :
_ لا ..يجب ان نبتعد جميعنا عنه في الفترة الأولى ... تُمنع عنه الزيارة حتى يسمح الطبيب بذلك
طرفت بأهدابها سريعاً و هي تقول بقلق :
_ سيبقى وحيداً !!
إبتسم لها "تيم" يطمئنها و هو يقول :
_ "حنان" عودي لحياتك و ما كنتِ تخططين له ... و فكري جيداً بمستقبل علاقتك مع "قيس" ...سأكون بجانبك مهما كان القرار الذي تتخذينه
عادت تتكيء على الحائط و هي تبحر بأفكارها لتعود الى تيهها و ضياعها ..عاد "قيس" ليسحبها لعالمهِ المظلم و المخيف ... على الأقل هذه المرة لم تسمعه ينادي "غيداء" لمرة ...لا في صحوه و لا في هذيانه ... هل تمكنت من استملاك قلبه أم أنه مجرد وهم تمنت تحقيقه طوال عمرها؟
دخل "تيم" غرفة "قيس"يتجاهل محاولاته فك قيده يقول :
_ سنقوم الآن بنقلك لـ ...
قاطعه و هو يقول بسخط :
_ "تيم" انا أخوك الأكبر ..كيف تسمح بهذا؟؟ ... لا أحتاج لعلاج...يجب فقط أن أخرُج من هنا
وضع "تيم" يده بجيبه و هو يقول بضيق:
_ هلا تستمع لنفسك يا أحمق ؟؟ لا تحتاج لعلاج!!! لقد كدت أن تقتل نفسك و أنت تحت تأثير حبوبك اللعينة ... لم أعد قادراً على السكوت أكثر و أنت تطلق الوعود الكاذبة بالتوقف ..
إبتسم "قيس" بسخرية و هو يقول و قد أحرق العَرق المنسكب من جبينه عينيه المحمرة :
_ حسناً سألعب لعبتك ... ساتظاهر بأنني تخلصت من إدماني و في لحظة خروجي سأعود للأمر بمنتهى السهولة ... لا يمكنك إجباري على ما تريده أنت
قال "تيم" بهدوء و هو يخرج من غرفته :
_ عندها سأطردك من حياتي و من عائلتي دون ندم أو إشفاق ..سألفظك كحشرة مقرفة لا تساوي شيئاً ... عش وحيداً في الوحل الذي اخترته بنفسك
خرج من الغرفة دون أن يلتفت إليه و "قيس" يحدق به غير مصدق ... منذ متى أصبح "تيم" قادراً على أن يكون قاسياً و جافاً ... تنهد و هويغمض عينيه بإرهاق يقول لنفسه:
_ ليس هذا وقت الإبتعاد عنك يا "تيم" هناك من يتربص بك ... ناجي سيسقطك عند أول فرصة .. أتمنى أن يتمكن "غيث" من إنقاذك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقف أمام بوابة الجامعة بخوف و رهبة ... فقد أجبرها "تيم" على العودة بعد إتصال عميد كليتها به و إبلاغِه بأنها ستتعرض للفصل المؤقت إن لم تعد لتلتزم بحضور محاضراتها و تعويض ما فاتها ... تخشى أن تصطدم بـ "سلطان" ,تخافه رغم كونه المعتدي ... و تخاف من مواجهة "إياس" الذي لم يكلمها منذ يوم المواجهة في القصر ...لقد خذلته و تركته يواجهه الجميع وحيداً .. و رؤوف الذي قيد نفسه بهذه الجامعة التي لا تقترب من مستوى جامعته الأساسية على أمل أن يحدث بينهما النصيب ... مواجهات كثيرة تجد نفسها غير مستعدة لها
تقدمت نحو كليتها لا تنظر لأحد ... تحدق بالأرض كما المذنبة ... تشعر بأنها عارية أمام الجميع ... لكنها لم تتمكن من تجاوزها و هي تلمح وجوه زملائها الفضولية.. استدارت تريد الهرب فقط ... لكنها اصطدمت بصدرٍ ذكوري ... شهقت خوفاً وهي تخشى أن يكون "سلطان" ... صرخت بدون وعي تُسقط كل ما كانت تحمل بين يديها
_ إبتعد عني ...لا تلمسني
_ "وسن" إهدأي ... أرجوكِ
رفعت عينها لتجد "إياس" يحدق بها قلقاً ... أطلقت نفساً ساخناً و هي تهمس باسمه و قد تحررت دموعها و العيون حولها تتسلى بهذا المشهد الغريب ... سحبها "إياس" بعيداً باتجاه الحديقة بعد أن جمع أغراضها ... تاركاً إياها تفرغ ألمها و فزعها بعيداً عن الأعين و هو يتأملها ... كم تغيرت ... لقد قتلها ذلك الوغد بفعلته ... حتى لون الذهب بشعرها انطفأ ...
هدأت قليلاً و هي تمسح دموعها تقول بخفوت:
_ أنا آسفة ...لم أقصدان أتصرف بهذا الشكل ... خشيت أن يكون " سـسلط "
بترت إسمه و هي تغطي فمها مرتجفة ... احاط "إياس" وجهها بحنان و هو يحدق بعينيها المجهدة :
_ لا تخافي ... لقد تدبر "أخاكِ "قيس" أمره....
حدقت به لا تفهم قصده ... تابع كلامه بثقة :
_ "سلطان" الآن بالمشفى بعد أن انهال عليه "قيس" ضرباً و لولا وجود "غيداء" لكان قتله ... في البداية استغربت سبب إحضاره لها ولكنها تمكنت من لجمه ... أخوكِ مرعب حقاً لقد جربتُ قوة لكمته .. لقد كسر ساقه و العديد من أضلع صدره غير وجهه المشوه ...
أغمضت "وسن "عينيها و هي تدلك جبهتها تفكر بأن ذلك لن يمنعه من أي تصرف ... لكن ما قاله إياس بعد ذلك بث القليل من الإطمئنان بنفسها
_ لكن قبل أن يفقد الوعي أجبره على توقيع العديد من الكمبيالات و الشيكات بقيمة ملايين الدولارات ... هدده بحال أن إقترب منكِ فسيقدم الأوراق للمحكمة واحدة تلو الأُخرى حتى يتعفن بالسجن ليس عليكِ ان تخشيه الآن
قالت و هي تغمض عينيها بيأس و الدموع تعود للانحدار:
_ كل هذا لن يمحي ما فعله ذلك الحقير
إحتضن "إياس" كفها برفق و هو يقول بهدوء :
_ لا تقلقي كل الأمور ستكون كما تحبين ... لقد اتفقت مع "تيم" على إعلان خطوبتنا دون إحتفالات بسبب وفاة والدتك و الزفاف بعد فترة قصيرة بحفلٍ خاص ... فترة قصيرة و ستستعيدين حياتك
سحبت يدها من بين كفيه و هي تهمس :
_ أستعيد حياتي ؟؟ سننفصل !!
وقف "إياس" و هو يقول ببرود :
_ انتِ اخترتِ هذا الأمر "وسن" ...لقد قُلت بوضوح لكِ و لأخوتك ... سأفعل ما تريدنَه ... و أنتِ اخترتِ
إنتفضت "وسن" من مكانها و هي تقول مرتجفة :
_ لقد كنت بموقفٍ صعب ... لم أقصد ..
قاطعها "إياس" وهو يستدير يواجهها بحزم :
_ انتِ محقة ...كيف لأميرة أن تعيش مع شخصٍ عادي ... هذا لا يحدث سوا بالقصصِ الخيالية
قالت"وسن" و هي تحدق بعينيه الناعسة و الحالمة اللتانِ أسرتاها بسحرهما الخاص:
_ أنت غاضب ... رغم هدوءك الظاهري و مساندتك لي فأنت تكاد ان تنفجر غضباً... اعلم بأنني تصرفت بجبن و لكن الموقف كان أكبر مني بكثير ... لن أحتمل غضب "تيم" مني .. هو من رباني "إياس" ...
مسح "إياس" وجهه بكفيه و هو يقول بإرهاق حاول إخفائه :
_ لقد تعبت يا "وسن" ... لا أمتلك طاقة للمحاربة و القتال ... لقد أنهكني خوفي عليكِ ... تركني بلا طاقة أو قوة للمزيد من الجولات ... فقط أريدُ أن تكوني بخير ... هذا البر الذي أريد الوصول إليه
إنهارت على المقعد مجدداً و هي تهمس بذهول :
_ تريد أن أكونَ بخير و لكن بعيداً عنك ... تعتبرني كارثة عكرت صفو حياتك تطوق لإخراجها من عالمك
جلس"إياس" بجانبها و هو يقول باستسلام :
_ أحبكِ "وسن" ... أريد ان أعيش عمري بجانبك ... صورتك بمحفظتي لا تفارقني ... دبوس شعرك ...لا انام إلا و هو بين أصابعي رغم أنه يجرحني... أفكاري و قلبي لا سيرة لهما سواكِ ... و لكن ... أنتِ يا "وسن" ... هل يمكنك مساندتي و القتال من أجلي ؟؟ ... لقد إنسحبتي من أول معركة ... خذلتِني
مسحت "وسن" دموعها دون ان تنظر إليه و هي تقف تجمع أغراضها :
_ معك حق انا لا أصلح لك ..مجرد مدللـة ...فاسدة... غبية و حمقاء ... جبانة ...
أراد "إياس" ان يقول شيئاً لكن "وسن" أوقفته و هي تقول بألم:
_ توقف ... توقف ... نحن نلف بدائرة مغلقة دون نتيجة ...سأعود للمنزل ... ما كان يجب أن أعود إلى هنا ... لست مستعدة لكل هذا
تركته تسرع لسيارتها و هو يقف مكانه عاجزاً ... ركبتها و هي تشهق بالبكاء تعيش ضياعاً جديداً ... رفعت رأسها إلى السماء و هي تستجدي الله :
_ يا رب لا أحد لي سواك ...
شهقت مذعورة عندما فتح "إياس" الباب بجانبها و هو يحيط بوجهها يطبع على شفتيها قبلته العذرية و لكنه ارتجف بشدة و هو يحيط بها ... لم يكن إرتجاف العاشق او الملهوف ... كان امراً ثانياً أدركته "وسن" سريعاً و هو يبتعِدُ عنها ... لقد تذكر صورتها على ذلك السرير الملعون ... تخيلها و "سلطان" يمارس ساديته على جسدها الساكن ...
حدق "إياس" امامه و هو يضغط بيديه على رأسه يقول :
_ انا آسف ...لم أقصد ... انا أريد ان أحصل على فرصة معكِ ... أقسم بأنني أحبكِ ... لكن أرجوكِ أحتاج لبعض الوقت ... و احتاج لوجودكِ بجانبي ... عديني "وسن"
رفعت رأسها سريعاً و هي تحدق به تهمس بضياع :
_ اعدك
بعدها خرج "إياس" من السيارة دون ان يضيف كلمة يبتعد هارباً من خيالاته المدمرة تاركاً "وسن" بدوامة تفكر بان ما حدث معها سيبقى وشمٌ لا طريق لإزالته ...أرادت المغادرة و لكن إسم "رؤوف" إلتمع برأسها ...لقد تجاهلته طويلاً ... تدين له بتفسير ... يجب ان تنتهي من هذا الأمر حتى تخفف الأحمال عن نفسها دون ان تظلمه أكثر
توجهت لمكتبه و وقفت ببابه ... لا تعلم كم مرّ من الوقت و هي غارقة بأفكارها التي لا ترحم ... و ما إن حضر لمكتبه حتى وقف للحظة مشدوهاً من لوحة الحزن التي رُسمت امامه و قد كان لإنطفاء بريقها جاذبية خاصة سحرته كما كل شيء فيها .. أراد أن يغضب و يصرخ بسبب تجاهلها له بالفترة الماضية و لكنه ابتلع مشاعره و هو يقول بحنان :
_ "وسن" صغيرتي ... انتِ هنا ؟؟ هل انتِ بخير ؟
كان لسؤالهِ تأثيرٌ لمس قلبها باهتمامه و دفئه الذي افتقدته ... وجدت نفسها تُجيب و قد رسمت على خديها دموعٌ مرة :
_ لا ... لست بخير أبداً ...
أسرع يفتح باب مكتبه يدعوها للدخول ليغلقه سريعاً متجاهلاً أدق الشروط المهنية بعدم الإنفراد بطالبة جامعية داخل المكتب ... دفعها برفقٍ للجلوس و هو يستقر امامها يسألها باهتمام :
_ ما الأمر صغيرتي ؟؟...اعلم بأن الفترة الأخيرة قد كانت صعبة عليكِ
إتكات برأسها على كفيها بعد أن أسندت ذراعيها على فخذيها و هي تقول بتشتت:
_أصعب مما يمكن وصفه ... أريد أن أخبرك بكل شيء ...من أجلي و من أجلك .. أريدك ان تفهم بأنني لم أقصد خداعك أو إعطائك املاً كاذباً
تملك رؤوف الجزع من كلماتها ..املاً كاذباً !! هل إنتهت قصته معها قبل أن تبدأ ... أخبرته "وسن" بكل شيء ... لم تخفي عنه أي تفصيل و هي تغرق بنوبات بكاءٍ مؤلمة
ضرب المكتب بقبضته أكثر من مرة .. شد على أسنانه غيظاً و قهراً ... شتم بألفاظٍ لم يعتدها ... إعتمر بقلبه غضبٌ لم يعشه طوالَ حياته ... و لكنه حاول جاهداً ان يكبت كل هذا حتى لا يزيد الأمر سوءاً على "وسن" المنهارة
_ لا أفهم ..لما لم تسلموه للشرطة؟؟.. يستحق الإعدام على فعلته
_ الشرطة !!! و الفضيحة يا "رؤوف" ...
قال بحنق و هو يهز رأسه بأسى :
_ انت لم ترتكبي أي خطأ ... لقد غرر بكِ ذلك الحقير ...انتِ الضحية صغيرتي ..
لأول مره تشعر بدعمٍ حقيقي يحيطُ بها دون أن يلومها أو ينعتها بصفاتٍ مؤذية... كالغبية و الساذجة ... قليل من الهدوء سكن صدرها على العكس من "رؤوف" الذي دفن مشاعره امامها ...من أجلها ... يكفيها ما تعانيه ... صحيح يشعر بمرارةِ خسارتها ولكن أي عتاب سيزيد الأمور سوءاً ... مسحت "وسن" دموعها و هي تبتسم بحزن :
_ أردت أن تعرف فقط .. ان كل ما حدث كان خارج نطاق السيطرة ... أقسم بأنني لم أقصد إيهامك ...
قاطعها و هو يقول بعطف :
_ اعلم "وسن" ..أُصدقك .. سأكون دائماً موجوداً إلى جانبك حتى و إن كنتِ على ذمةِ الرجل الذي أحببته
_ شكراً لك ... لا تعلم أثر وقوفك بجانبي ...أنت رجل رائع تستحق ان تجد سعادتك مع إمرأةٍ مميزة مثلك
وقفت و هي تستأذنه بالإنصراف ..... غادرته مع أمنياته ... إنتظر لتبتعد و هو يسمع وقع خطاها تهجر القلب الذي تعلق بها و ببرائتها و رسم أحلام المستقبل معها ... كانت ضحية غضبه و ألمهِ شاشةُ الحاسوب المستقرة على مكتبهِ و هو يُصدر صرخةً مكبوتة يشتم "سلطان" لينهارَ على مقعده يخلع نظارته يلقي بها بعيداً يمسح وجهه بتعب ليهمس بحسرة :
_ انتِ إمرأتي المميزة ... لكن خسرتكِ .. آآآآآآه يا قلبي الأحمق ... امامك رحلة طويلة لتنسى ... إن إستطعت هذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
إنكمشت "أنجلينا" على نفسها و هي تسمعُ صراخ رفيقتها بالغرفة المقفلة بعدما عاد "ريموند" من الخارج يشتعل غضباً و جنوناً من أمرٍ لم تعرفه ... غطت أذنيها و هي تهمس بذعر ... يكفي ... يكفي ...متى سنتخلص من لعنتك ؟!! ...
خرج" ريموند" و نظرته السادية تزداد تصلباً و قسوة يقول من بين أسنانه لـ "أنجلينا" يلبس حزام بنطاله الجلدي :
_ دعي رفيقتك تتعقل أنا على وشك قتلها خنقاً بيدي و دعيها تفهم من دخل عالم "ريموند" لا يخرج منه حياً
خرج من الشقة يصفق الباب و "أنجي " تسرع للغرفة ... لتجدها نائمة على بطنها و قد تمزق قميصها عن ظهرها و بقع الدماء تفرقت بأماكن مختلفة تإن الماً و قهراً ...
جلست "أنجي" بجانبها مبهوتة و هي تقول :
_ لا أصدق ...لم يكن يوماً بهذا ... الجنون ...يجلدك بحزامه !!!
فتحت رموشها الطويلة بإرهاق و هي تقول بخفوت :
_ لقد فقد صبره ... و لأنه هو من اعتاد السيطرة ... فان النتيجة ستكون دماءً تُسفك ... سيقتل "غيداء" و يقتلني ...
أسرعت "أنجي" تساعدها على النهوض و هي تقول باكية :
_ما الذي يريده الآن ؟؟!! ما سبب غضبه ؟؟
إبتسمت بسخرية من وسط ألمها تقول بإنتصار :
_ "ريموند" يعتقد بأنني أتلاعب به ...يظن بأنني أعلم مكان التسجيل ... تأخر عودة الذاكرة لـ"غيداء" و عدم قيام "معاذ" بأي تصرف طوال الفترة السابقة جعلته يتخبط و يفقد اعصابه ... لأول مرة أراه محاصراً كفأرٍ لا يجد مهرباً أو منفذاً ... ما فعله اليوم كان متنفساً لعجزه
وقفت "أنجي" غاضبة و هي تذرع الغرفة ذهاباً و إياباً :
_ و الآن ماذا ؟؟ ما الحل ؟؟ أريد الخروج من كل هذا ... صدقيني ... أريد العودة لشقتي الحقيرة في لندن و العمل كبائعة للهوى ... ذلك أفضل من تحكمه بحياتنا طوال هذه السنوات
_ "أنجي" ... لن يخلصنا منه سوا موته يجب ان نقتله و نلقي بجثته في بحرٍ عميق لتأكله أسماك القرش
حدقت بها "أنجلينا" للحظات لتغرق بأفكارها بعد نهوض صديقتها للحمام تغسل الدماءعن ظهرها... تغير ملابسها .... بعد خروجها و قبل ان تجلس لترتاح تفاجأت بـ"أنجلينا" تقدم لها مسدساً تقول بحزم :
_أخرجي من هنا ... إذهبي لـ"غيداء" و اعثري على التسجيل ... دعي أمر معاقبته للشرطة ...نحن لسنا بقتله ...هيا اذهبي
نهضت زرقاء العينين تحتضن "أنجلينا" بحب و هي تقول باكية :
_سأفعل ... و أنتِ أتركِ المكان و اختبئي لفترة ... اتفقنا ..؟؟
هزت رأسها موافقة تودع صديقتها التي دبت بجسدها قوة كبيرة و هي تسرع بالخروج تحرص على أخذ خاتمها المرصع بثلاثِ فصوصٍ حمراء و بعضاً من الحاجيات بحقيبة صغيرة ... حزمت أنجلينا بعض الأغراض و غادرت المكان الذي سيتلقى به "ريموند" اول صفعاته ... اخطأ ان ظن انها ستبقى خاضعة للأبد لكنها لم تعلم ان "ريموند" توقع تصرفها و انتظر نزول "غيداء" وهروبها من الشقة ... إبتسم بخبث و هو يقول لنفسه:
_ أحسنتِ" أنجي" تصرفتِ كما توقعتُ تماماً ... و الان فقط يجب أن اراقب خطواتك التالية التي ستنتهي حتماً عند "غيداء"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
خرجت "غيداء" من غرفةِ "ريناد" و هي تريح رأسها بإرهاق على باب غرفتها و هي تدعو الله ان يريح قلب الصغيرة ... فمنذ وفاة الجدة و هي تبكي بحرقة و إن نامت فالكوابيس المنهكة تحاربها و تذكرها بما فعلت ... بسببها الجدة ماتت ليعيش القصر أسوءَ أيامه ... لم ترى والدها بهذه الحزن و الكمد من قبل ... العمة "وسن" و العم "غيث" دائمي الوجوم ...لن تنسى ما سمعته من والدها عن ردّ فعل العم "قيس" و انفتاح جُرحه بسبب إنفعاله ....كل هذا بسببها هي ... هي من دفعت بها لحافة الموت لتخسر حياتها بأبشع طريقة ...
لم تتركها "غيداء" حتى تأكدت بانها نامت بعد أن بكت طويلاً بين ذراعيها تردد بانها السبب ...
لم تشعر بوجود "تيم" الذي أحاط بخصرها من الخلف و هو يقول بقلق :
_ أنتِ متعبة ... يجب ان ترتاحي ...
إستدارت تُريح رأسها على صدره و هي تقول مغمضة العينين :
_ المهم ان تكون "ريناد" بخير ...
أحاطها بذراعيه بقوة حانية يريح ذقنه على رأسها :
_ لقد حجزتُ لها موعداً مع الطبيب النفسي غداً ... لا يجب أن نتركها على هذا الوضع
أبعدت "غيداء" نفسها عنه و هي تحدق به و قد تملكها الذعر و أفكارٌ كثير تتجاذبها ... "ريناد" الآن بوضعٍ دقيق ... قد تفضي بحقيقة ما حدث للطبيب و عندها قد يبلغ عنها ... قد توضع بدور الأحداث ... أو قد يجبرها القاضي على دخول مصح نفسي و عندها فصورتها ستتشوه للأبد في مجتمع لا يرحم
إبتسم "تيم " بألم و هو يحيط كتفيها يقول بهمس :
_ الطبيب يعلم
عقدت "غيداء" حاجبيها بعد فهم ...رفع "تيم" خصلة شعر متحررة على جبينها و هو يقول:
_ الطبيب يعلم بما فعلته "ريناد" مع أمي ... يعلم بانها دفعتها بدون قصد عن الشرفة
إتسعت عينا "غيداء" بشدة و هي تتراجع بضع خطوات للخلف لا تصدق ما تسمع ... وضع "تيم" يديه بجيبه و هو يقول بألم :
_ كالعادة اخترتِ إخفاء الحقيقة عني حتى و إن كان الأمر يتعلق بابنتي ... و لكن القدر شاء هذه المرة أن تنكشف الحقيقة لي منذ اليوم الأول
خفضت "غيداء" عينيها أرضاً و دموعها تتساقط كحبات مطراً شفافة أنهكت الغيوم بحملها ...تابع "تيم" كلامه و هو يجلس على الأريكة متعباً :
_ ليلتها كان "رواد" يراقب الشرفة التي تتواجد أمي بها دائماً بعد ذهابك ... رأى "ريناد" تدفع الجدة ... كان يعبث بكميرته لم يدرك بانها تسجل ... أسرع يناديني ... رأيت الشجار الذي وقع ...طلبت من "رواد" الدخول لغرفته و تركت الكامبرا على حافة الشرفة ... لأعود بعد أن نقلت أمي للمشفى أقف بنفس المكان و أشاهد الحادث المسجل بالكامل ... أبنتي تدفع أمي عن الشرفة تقتلها
رفعت "غيداء" رأسها بحدة و هي تقول باكية :
_ هي لم تقتلها ...كان حادثاً ...
أغمض "تيم" عينيه و هو يريح رأسه بين كفيه يصارع الكثير داخله ... لطالما خشي على "ريناد" لطالما كانت متطرفة بمشاعرها ...لا يوجد لديها مكانٌ وسط ... حادة للغاية ... إما أن تحب أو تكره ... لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها و ردود فعلها ... كان برودها يرعبه و لكنها الآن أصبحت مشتعلة ليستمر الخوف مضاعفاً ...
جلست "غيداء" بجانبه تبعد كفه عن وجهه تقرب رأسه لصدرها تحتضنه كطفلٍ صغير تقول برفق و حنان :
_ "تيم" انا لم أقصد ان أكذب عليك ... لكن الموقف صعب ... صعب للغاية ... أكاد أفقد عقلي كلما تذكرت ما حدث مع "ريناد" لا تزال طفلة لتشعر بكل هذا ...
إسترخي "تيم" بين ثنايا حنانها و هو يتعلق بها ... غفى على هذا الوضع لدقائق ليهز صوت الهاتف سكينته ... نهض و هو يزفر لكنه هدأ بعد ان إنتبه لـ "غيداء" النائمة ... دخل غرفته بروية و هو يجيب المتصل :
_ما الأمر "غيث" ؟؟ حقاً !! كما توقعت... سوف أحضر الآن حالاً ... لا تتصل بالشرطة ....يجب ان أتحدث معه و أتأكد من أن ناجي هو من أرسله لحرق المخازن الرئيسية ... ذلك الأحمق يظن نفسه ذكياً ...لا يعلم أن لي بشركته ألف عين ... إتصل بالمحامي أريده أن يكون معي بكل خطوة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
أسرعت تنفذ ما خطر على بالها ... "معاذ" سيساعدها للوصول إلى "غيداء" ...و لكن من المؤكد أن "ريموند" قد وضعه تحت المراقبة ...فكرت كثيراً قبل أن تحسم أمرها ... تعلمت الكثير من خلال حياتها بالقرب من "ريموند" ... إشترت بعض الأدوات التي تساعدها على التنكر ... شعر أحمر ... عدسات بنية تخفي زرقة عينيها ... و بعض من البودرة المبيضة التي تطفيء لون الذهب من بشرتها ...
توجهت للفندق ...حجزت غرفة باستعمال جواز سفر إنجليزي مزيف يحمل إسم "كاترين" ...إتصلت بـ "معاذ" الذي صدم بإتصالها و لكنه أسرع بالذهاب إليها يتعمد السؤال عنها تحت إسم "كاترين" عند الإستقبال بصوتٍ واضح خشية أن يكون مراقباً
ما إن رأها حتى تنهد بارتياح و هو يقول :
_ الحمد لله ... انتِ بخير
همست بحرقة :
_ بخير !!
_ ما الأمر هل آذاكِ "ريموند" ؟؟
إنهارت ببكاءٍ صامت و هي تخفي وجهها ... أسرع "معاذ" يحيط كتفيها بحنان و هو يقول بعطف :
_ لا بأس ....سيكون كل شيء على ما يرام ... سنعود معاً عند أبي ... انا و أنتِ و "غيداء" ... ستعيشين بأمانٍ معنا ...في مكانك الطبيعي ...
رفعت رأسها تحدق به و هي تقول بألم :
_ بأمان !! هل يعقل أن أعرف معني هذا الإحساس ... "معاذ" لقد عشتُ حياتي غارقة بهذه الدوامة لا أجد مخرجاً و الآن "غيداء" تعيش الخطر بسببي
وقف "معاذ" منفعلاً و هو يفرك كفيه بتوتر :
_ الخطر الحقيقي عليها الآن هو "تيم"
وقفت و هي تقول بحزم :
_ "تيم" لن يقترب منها ... هو يعلم حدود الله جيداً ... لا رباط بينهما ... هو يبقيها هناك بسبب طيب أصله و بسبب قلبه الواسع و لأنه يظنها أم أولاده
دلك "معاذ" جبهته بتوتر و هو يهمس بقلق :
_ أتمنى ذلك ... أشعر بالنيران تتآكل بقلبي ...و أخشى الإقتراب منها بسبب ذلك الوغد "ريموند " ...
قالت و هي تجلس متألمة بسبب ضربات "ريموند" التي اكتوت بها :
_ يجب أن نساعدها على استعادةِ ذاكرتها قد تكون لمحة من ماضيها سبباً باستعادتها ,هي تتواجد بمكانٍ غير مألوف سيحجب عنها الحقيقة ... أفكر بأن أرسل لها أمراً قد يساعدها
قال "معاذ" بحماسة و هو يخرج صورةً من جيب سترته :
_ لقد فكرت بالأمر نفسه ... عند حديثي معها شعرت بأنها تذكرت القليل ... تحتاج فقط لدفعة ... ما رأيكِ أن نرسل لها هذه الصورة؟
أمسكت بالصورة بين أصابعها و هي تبتسم بحنين تقول متنهدة :
_ سأرسلها لها عن طريق "كندا" ...سأذهب إليها و أطلب مساعدتها ...سأخبرها بكل التفاصيل ...
هز "معاذ" رأسه موافقاً و هو يقول :
_ أتمنى أن نعثر على التسجيل سريعاً و نقدمه للإنتربول و ننتهي لتعود الأمور لطبيعتها أخيراً ... أبي متعب للغاية يشعر بالقلق علينا جميعاً ...لم أتصور ان أعود لبلادنا بعد كل هذه السنوات من أجل هكذا أمر ظننت أن الأمر سيكون أكثر جمالاً
قالت وهي تستمر بالتحديق بالصورة :
_ لكن يجب أن نتحرك ببطء ,سأنتظر أسبوعاً أو عشرة أيام قبل الإتصال بـ "كندا" يجب ان أتأكد بأن "ريموند" بعيد عني و عنها ... أخشى ان أكون مراقبة
هز "معاذ" رأسه موافقاً و قد إتفق معها على عدم الإتصال بها أبداً ... و عندما تتحرك الأمور هي من ستصل إليه
خرج "معاذ" ... لتنهار على السرير تحدق بالصورة و هي تذرف دموعها تستعيد ذكريات لقائها الأول مع "غيداء" ... أو بالأصح اجتماعها معها بعد سنوات طويلة من الفراق
تجلس بمطعمٍ صغير في مدينة هادئة بأطراف بلجيكا برفقة "أنجلينا" تشعر بالصداع من لغة أهل البلد ... كم تبدو الألمانية ثقيلة و مزعجة.... تنتظر قدوم "ريموند" يحمل بجعبته مهمة حقيرة جديدة :
_ ما الأمر "غيداء" بما تفكرين ؟
هزت رأسها بصمت تحدق بالنافذة أمامها و الدموع تحتشد بعيونها ... وضعت "أنجي " كفها فوق يد "غيداء" المستقرة على الطاولة و هي تقول بحنان :
_ لقد إشتقت لهم ... صحيح ؟؟
نظرت "غيداء" بحزن لصديقتها و هي تهمس بألم :
_ آآآه يا "أنجي" قلبي يحترق من أجل "رواد" و "ريناد" ... أشتاق لهما بجنون لازلت أشتم رائحتهما الطفولية أينما حللت إنها ملتصقة بي ... أتمنى أن أنعم بدفءِ أحضانهما للحظة واحدة فقط .... و "تيم" كم أشعر بالندم على كل لحظة عشتها مشغولة بانتقامي الفارغ من "قيس" و والده ... لقد أذيته كثيراً رغم عشقي له الذي أدركته متأخراً
قالت "أنجي" بذهول :
_ هذه المرة الأولى التي تعترفين بحبك لـ "تيم"
دفنت "غيداء" وجهها بين كفيها و هي تبكي بهدوء :
_ نعم أحبه و روحي تركتها معه... هو و الطفلين من يجعلاني أتمسك بحياتي البائسة تحت جبروتِ "ريموند" الحقير ... كان يمكن أن أقتله أو أقتل نفسي و لكن خوفي على عائلتي يمنعني
خفضت "أنجي " بصرها و هي تقول بحرقة :
_ كما أتحمل أنا من أجل "مايكل "
رفعت "غيداء" رأسها و هي تمرر أصابعها على وجه "انجي" تقول :
_ و كما يتحمل "مايكل" لأجلك
_ حقاً !!!
_ بالطبع "مايكل " يعشقك بجنون و لكنه يتعامل مع الأمر ببرود ...قد يبدو متقبلاً لحياتنا مع "ريموند" و لكنه يريد حمايتك من بطشه كما تفعلين تماماً
صوتٌ رجولي جعل الفتاتين تنهضان من مكانهما بذهول تحدقان بصاحبه المتحدث باللغة العربية
_ "غيداء" ما الذي تفعلينه هنا و أنا أنتظرك بالخارج منذ ربع ساعة ... و ما الذي فعلته بشعرك ؟؟ لما صبغته بهذا اللون الأشقر
زجرته "غيداء" بقسوة و هي تقول من بين أسنانها:
_ توقف عن الكلام ... من أنت؟؟ ما الذي تريده مني و من شعري ؟؟
حدق بها بعدم فهم و هو يقول :
_ ما الذي أريده !!! حقاً ... انا خطيبك يا آنسة
_ خطيبي !!!!
تنهد ببأس و هو يقول :
_ حسناً ... حسناً ... اعلم بأنكِ لم توافقي بعد و لكن أبقي أنا ...
قاطعه صوتٌ من خلفه
_ "معاذ" ما الذي يحدث ...
قطعت كلماتها و هي تحدق بـ"غيداء" لا تصدق ما تراه أمامها و "أنجي" و "معاذ" يشاركانها بالتحديق ... و قد وصل للمكان "ريموند" و "مايكل " لتكتمل اللوحة ...
قالت "غيداء" و هي تشعر بقلبها يرتجف بشدة تسأل بذهول :
_ من أنتِ؟؟و كيف يمكن ان ...
قاطعتها الوافده الجديدة و هي تتمسك بها تقول من وسط دموعها المنسكبة من عيناها الزرقاء اللامعة:
_ لا أصدق بعد كل هذه السنوات و بهذه البلاد !!! ... لقد فقدت الأمل بلقائك نهائياً ...
تمسكت "أنجي" بـ "غيداء" و هي تقول بقلق :
_ "غيداء" ما الذي يحدث هنا ...؟؟
_ لااااا هي "جيداء" انا "غيداء" ... أختها التوأم
إبتعدت "غيداء" عنها و هي تنهار على أقرب مقعد و هي تقول لاهثة :
_ لااااااا ... انا "غيداء" ..." جيداء" ماتت بحادث سير مع والدي
أسرعت تجلس امامها القرفصاء و هي تقول باكية :
_ لا أختي .. انا "غيداء" أنتِ "جيداء" ... أنظري لظهر خاتمك الذي تلبسينه انه إهداء من أمي ... إسمك محفور بباطنه "جيداء"
أغلقت عينيها بقوة و هي تعود ليوم الحادث ...لقد رحل الجميع يبحثون عنها بعد أن إختبئت بحديقة جارهم العجوز... كانت غاضبة لعدم قيام والدها بشراء اللعبة التي تريدها ...انهم ينادون باسمها "غيدااااااء" .." غيداااااااء" ... لا ... لا ...كانوا ينادونها ...بـ "جيداء" ... هذا صحيح "جيداء" ...لكن كيف قلبت الأسماء... إعتصرت ذاكرتها من جديد ...لقد جاء الجار العجوز والشرطة برفقته و هي تجلس امام المنزل و قد اظلمت الدنيا... أخبرها بلطف لم يخفف وقع الخبر عليها ... فهي بالكاد تجاوزت التسع سنوات ... لقد مات الجميع بحادث سير .... أمك ...أبوك ... اختك ... انهارت تحدق بهم ... ردت على الشرطي الذي سألها عن إسمها بوجوم ... قالت "غيداء" لكنها لم تقصد الكذب ... أرادت لـ"غيداء" النجاة ... و لتمُت "جيداء"...هي السبب بكل هذا ... هي قاتلة .... أصبحت تشعر براحة غريبة عندما ينادونها الناس بإسم أختها ... و استمر الأمر على هذا الحال ... لم يتسرب الإسم القديم ... لنفسها سوا مرة واحدة عندما اختارت إسم "جيد" ليكون بديلاً في العالم الذي قام "ريموند" باقحامها فيه ... "جيد" من "جيداء" ... لم تدرك الأمر سوا الآن
فتحت "جيداء" عينيها بقوة تحدق بـ "غيداء" و هي تردد بذهول :
_ "غيداء" ... غيداء" ... انتِ ...انتِ لم تكوني بالسيارة مع أمي و أبي ..؟؟ انتِ هنا حقاً
قالت "غيداء" و هي تتمسك بكفيها بقوة ... تبكي مبتسمة :
_ بلا ... كنت معهما ... و أصبتُ بشدة ... دخلت بغيبوبة طويلة ... دون أن يكون أحد بجانبي و طال الأمر بسبب الاهمال الطبي ... فتاة يتيمة بمشفى حكومي ... من سيهتم لأمرها !
قالت "جيداء" و هي تقول بضياع :
_ لكن جارنا ...لقد قال ...
قاطعتها "غيداء" و هي تمسح الدموع عن وجه توأمتها :
_ ساخبرك بكل شيء ... بعد سنة تقريباً من غيبوبة طويلة ... إستيقظت بمشفى خاص وقد احاط بي كبار أطباء البلاد ... لقد نقلني عمي "صالح " بعد ان عاد للبلاد ...
سألت "جيداء" بدهشة:
_ العم "صالح" ؟؟
_ صحيح ... اخ أبي ... وقعت القطيعة بينهما بسبب مشكلة كبيرة ... و لكنه و بعد ستة شهور من الحادث عاد للبلاد يريد أن يجتمع به من جديد ... تفاجأ بخبر وفاته و لكنه علم بوجد إبنه له بالمشفى ... بحث عني و قام برعايتي ... و بفضله من بعد الله عدتُ للحياة ... و بعد ان إستعدت وعي اخبرته بما حدث ... علم بان لي أختاً ثانية ... بحث عنكِ... سأل الجار العجوز ... اخبره بدخولك لدار الإيتام و انكِ دخلتِ باسم "غيداء" في البداية اعتقدت ان تسجيلي بالمشفى بإسم "جيداء" مجرد خطأ ... و لكن يبدو انكِ السبب ... الجار العجوز قال بأنه أخبرك بوفاتي بعد أن علم من الإطباء بأن لا أمل لي بالعودة للحياة ... أخبرك بموتي حتى لا تتألمي مرتين ... مرة بفقدان أمي و أبي و مرة بفقدي
إنهمرت دموع "جيداء" و "غيداء" و هما تتمسكان ببعضهما ... تابعت"غيداء" الكلام و هي تقول متألمة :
_بحث عمي عنكِ طويلاً ... لقد إختفيت تماماً ... لم يجد لكِ إسماً بدور الأيتام ... و لكن و بعد بحث عميق علم بأنكِ هربتِ من الملجأ ... قامت الدار بحرق أوراقكِ خوفاً من المحاسبة بسبب الإهمال بعد إختفائك ... بحث بعدها بكل مكان ... لم يغادر البلاد حتى قطع الأمل ... إصطحبني معه إلى هنا ... إلى بلجيكا ... رباني كما ربى إبنه "معاذ" ... و كلف محققاً ما في البلاد ليستمر بالبحث ... لكن لا أثر وجده لكِ
إنهارت الإثنتانِ ببكاءٍ حارق شاركهما الموجودين به ... كانت "جيداء" تشعر بالإنتماء و الأمان اللذان افتقدتهما طوال حياتها و حسرة على غلطة دفعت ثمنها ألماً و شقاءً تحت مسمى لو ... لو أنها لم تهرب من الدار ... لعاشت بجانبِ "غيداء" تحت ظل عمها ... و لعاشت تحمل إسمها بفخر و رضى ... هي "جيداء" عاشت طوال عمرها تحت قناع أُختها "غيداء" و الآن روحها استكانت قليلاً ... ليأتي صوت "ريموند" الجليدي يهز قلبها ...يذكرها بواقعها ... لقد فهم و سمع كل شيء ... ورقة ضغطٍ جديدة وقعت بين يديه ...
_ ألن تعرفيني بتوأمتك "جيداء" ...صحيح !!! لقد كنا نناديك بإسمٍ خاطيء كل هذا الوقت ... عجباً !!!
إنتفضت "جيداء" واقفة و هي تقول متوترة ...تقبض على كفيها بعصبية ... و قد خفضت بصرها :
_ "ريموند" ... أرجوك ... لا تفعل
إبتسم "ريموند" بسماجة و هو يقول :
_ لا ... سوف أغادر مع "أنجي" و "مايكل" حتى تبقي مع أختك .. "غيداء" ... سانتظرك مساءً