جحيم الذكريات

2.2K 42 4
                                    

#أمي_تكرهني_وأنا_أيضا
الفصل الأول: جحيم الذّكريات
_______
ككلّ ليلة أحمل منشفتي على كتفي وأتوجّه صوب الحمام في ثلث الليل الأخير، أتوضأ وأصلّي ما تيسر لي وأنتحب على سجادتي، تلك الرّاحة وأنا بين يدي الرحمن لا أستطيع وصفها، لا أحد له سلطة عليّ غير الله وأبي بعده، كنت في ما مضى من الزمن أدعو لأهلي بالهداية، أما الأن فأدعو لهم بالموت حرقا في هذا البيت اللّعين، كم بتّ ألعن كوني إبنتهم، إنه لأمر مرهق أن تعيش في بيت لا أحد فيه يريدك، لولا دموع والدي ذلك اليوم لكنت الأن في الشارع، وقد أصبحت عاهرة من الدرجة الأولى، طالما كنت أضعف أمامه تحديدا، صحيح أنه تخلى عني وأفلت يدي، إلا أنه مختلف تماما عن أمي، لا أعرف كيف إحتملها طيلة ثمان وعشرون سنة، أعرف أن بيتي جهنم، ولا أريد جهنم أخرى غيره، وربما لن تطول هذه المعاناة كثيرا، أشعر أن كل شيء سينتهي في ليلة ظلماء لا قمر فيها. هكذا يقول حدسي، وحدسي لا يكذب أبدا.
ذلك اليوم والكل نيام شعرت بالجوع ينهش بطني، لم آكل منذ أيام، لا أعرف كم مرّ بالضبط لكنني أرغب الأن بأكل الأخضر واليابس ولا أظن أني قد أسكت ذلك الجوع الكافر، سكون مخيف يخيم على المطبخ، الأواني المتسخة تملئ الحوض لا أعرف لما تصر أمي على تركها هكذا للصباح، لولا مرضي لكنت من نظف كل هاته الفوضى، الحمد لله على نعمة السقم الذي أنقص عن كاهلي كل هذه المعانات اليوميه وكأنني خادمة.
إتجهت صوب الثلاجة بخطى متثاقلة، وما إن فتحته صفعتني رائحة البصل العفنة. "ما هذا؟ أيعقل أن تضع بقايا السلطة دون غطاء؟ أمي انت حقا عفنة، وهل يعقل أن يصل بك البخل حدّ الإحتفاظ بسلطة الخص سريعة التلف لغداء اليوم الموالي؟"
شعرت بالغثيان وبأني سأتقيّأ لو بقي إستنشقت تلك الرائحة مدة أكبر وأنا التي أصبحت أتحسس من كل شيء بعد مرضي، أغلقت باب الثلاحة بعنف وإستندت على الجدار، لم تعد لي قوة لأقف مجددا، فمرض اليرقان أو (بوصفير) أهلك مقاومتي وجعلني طريحة الفراش مدة ثلاثة أسابيع، ثلاث أسابيع وكأنني مريضة بمرض خبيث معدي، لا أحد يدخل غرفتي ولا أحد يحاول تخفيف ألمي ولو بكلمة طيبة تمحي عني ألم البطن الحاد، والغثيان الدائم، إلا آخر العنقود وليد، أو "وليدي" هكذا أسميه، صدقا لا أدري كيف أن شخصيته تختلف عن الكل بطريقة ملفتة للنظر، وكيف له القدرة على الشعور بي دون أن أفصح.
طالما سهر من أجلي ولعب دور الأم الذي من المفروض أن تتقمصه من أتت بي للحياة، أمي التي أصرت على الإبتعاد عني وكأنني لست من لحمها ودمها، وكأنني لقيطة من علاقة محرمة وقع فيها زوجها مع عاهرة وإضطرت هي لتربيتي خوفا من الفضيحة.
كل تلك الإحتمالات والفرضيات كانت تؤرق نومي وتجعلني أشعر بالجنون، لم أشعر بحنان الأم الذي يتحدثون عنه في القصص الأثيرة والعبر التي يضرب بها الأمثال، كيف لي أن أحصل على أم بنكهة عدو، وأي عدو! كعداوة إسرائيل وكرههم للعرب، أو أشد..
بعد أن إشّتد المغص حدة وأنا على حافة الإنهيار حملت نفسي بكل ذلك الثقل وخرجت من المطبخ أجرُّ خيباتي ورائي، وما إن لمست قدمي بلاط الرواق حتى إنهرت على الأرضية، وآخر أمنياتي أن لا أنهض بعدها، وكم تمنيت لقاء ملك الموت وأنا في جلستي تلك.
ومن سوء حظي خرجت أمي من غرفتها في تلك اللحظة، لتصرخ عاليا كعادتها وكأنها رأت جنية أمامها، محاولة إفتعال مشكلة لا تنتهي إلا بإنهمار عبراتي.
- ماذا تفعلين خارج فراشك؟ ألم يحذرك الطبيب من الخروج، ستنشرين مرضك في المنزل، وتنقلين العدوى لإخوتك، وكأنك تتقصدين فعل ذلك...
لم أجد لسانا أتكلم به وأرد على إتهاماتها الشنعاء، إكتفيت بالإنكماش على نفسي أكثر وزادت مرارة نحيبي وبدت ملوحة العبرات علقما في حلقي.
لم أسلم من شرها ونظراتها المتقدة المصوبة نحوي، نادت على أخي الأكبر محمد بأعلى صوتها لكنه لم يجبها ببساطة لأنه كان غارقا في نومه، طبعا كل منبهات وصرخات العالم لن توقضه.
بدل محمد خرج وليد "وليدي" وهرول جاريا نحوي وأنا على شفى الإنهيار، جلس أمامي وحاول رفع وجهي، بينما إشتد ألم بطني وفجأة بدأت أشعر بالوهن يسري بجسدي شيئا فشيئا، ليخيم علي ظلام حزين لم أخرج منه إلا وأنا في سريري، بعدما فقدت وعيي وأنا في أشد لحظاتي احتياجا لأمي، ماذا كان سيحصل في العالم لو أن أمي أمسكت بيدي وطمأنتني؟ ماذا لو قالت فداك كل شيء يا ابنتي! لا بأس أن أصاب بعدوى مرضك، كوني بخير فقط، ماذا كان سيحصل؟
ألا يحق لي أن أشعر بحنانك وأنا في أوج لحظات حاجتي لك؟ كيف لك أن تتخلي عني وتسلمينني لابنك الأصغر وكأنه هو المسؤول عني؟ ماذا لو لم يكن وليد أخي؟ كم من الوقت كنت سأبقى عاقلة ولم يصبني الجنون بعدما أفلتني أبي وصار بصفك؟
أتعلمين يا أمي! أبادلك الكره بالكره ليوم الدين، لن أغفر لك ما عشته بسببك وبسبب أولادك ولو كانت آخر أمنياتك.
فتحت عينيّ ووليد بجانبي على السرير يضع لي كمادات باردة لينزل درجة حرارتي التي قاربت ال 40°، كنت بين اللاّ وعي واليقضة، وكيف كانت لهفته على تمريضي بادية، وما إن فتحت عيني على إتساعهم حاولت النهوض غير أن يده كانت الأقرب لإرجاعي.
-إبقى كما أنت، لا تتحركي! ما تزالين مريضة.
بعد أن يئس من خفض حرارتي ذهب وأيقظ والدي وتم نقلي للمستشفى على عجل.
فتحت عيني في غرفة ضيقة بسريرين حديديين يكاد يلتسق أحدهما بالآخر، يفصل بينهما ستار بلاستيكي متحرك، وخزانة حديدية صغيرة بجانب كل منهما تفوق ارتفاعهما بحوالي العشرين سنتمتر، ما لفت إنتباهي ذلك الطلاء الرمادي الكئيب، شعرت بالإختناق ما إن لمحت شكل الغرفة الحزين، لم تمر سوى لحظات ودلف الغرفة شاب شديد الوسامة، يرتدي مأزرا ناصع البياض، وعلى وجهه ابتسامة ملائكية رقيقة، لم تمنع ظهور تلك الملامح الرجولية خلفها، قال بصوت أجش بينما يعدل نظاراته:
- كيف حال مريضتنا اليوم؟ آمل أنك ارتحت قليلا، وانخفضت حرارتك! كنت شبه ميتة حين أتوا بك البارحة..
تهت في تقاسيم وجهه ونظراته المغرية وصوته الحسن كصوت البلبل، لم أستفق من سكرتي إلا وكفه الرقيق يقيس حرارة جبهتي.
تلاقت الأعين وتعانقت الأنفس وما هي إلا لحظات وإنهار سقف أحلامي فوق رأسي، وقد أخرجني صوته الناعم الرجولي من أحلام اليقضة..
- أنت بخير الأن وحرارتك انخفضت غير أنك لا تبدين بخير، نظراتك مشوشة؟ هل تشعرين بمغص في بطنك؟
إستجمعت شتات نفسي وأخفضت بصري في خجل، قلت بتلعثم:
- أحم، أنا بخير شكرا لكن متى سأخرج؟ لن أطيل البقاء هنا أليس كذلك؟
إبتسم بخبث وقال بنبرة مازحة:
- هل مللت مني بسرعة؟ سأكون مشرفا على علاجك حتى خروجك من هنا.
( ياه ماذا يقول هذا؟ وهل يملّ الناس منك!. أتمزح معي؟ )
كان لسان حالي يقول دون أن أفصح، غير أنني قلت بتهور، دون أن أضع حساب لما يخرج من فمي:
- وكيف لي أن أمل منک ...!
بترت الجملة قبل أن أتورط أكثر وقلت بخجل:
- طبعا لا ما تراه في صالحي أنا جاهزة له.
ضحك بصوت مرتفع وقال بمزاح قبل أن ينصرف في حال سبيله:
- تعجبني اللي تاخذ الراي.

أمي تكرهني.  (وانا ايضا) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن