الفصل الرابع عشر: ابن الخطيئة

298 19 16
                                    





.
لكل منا له شخص يعتبر مثل اعلى أو قدوة ..يقتدي بها في جميع او أغلب تصرفاته..
هو الكبير الذي ننظر لأفعاله بفخر وإعتزاز !!
هو القمة التي نسعى للوصول إليها !!
لكــــــــــــن
ماذا لو تهاوت هذه القدوة ،وصدر عنها تصرفات سيئة لاتمت للشعارات التي كانت تنادي بها ؟؟
ما الذي من الممكن ان يحدث ؟؟؟
.
قدوتي في الحياة قد كان أبي ، واستطيع أن أجزم أن كل طفل في هذه الدنيا تمنى أن يكون يوماً مثل والده...
.
ولكن للأسف،لقد تهاوت صورة أبي أمامي وأصبحت أعمل جاهداً للتغطية على فضائحه..
.
في الأمس وردني اتصال من مديرية الأمن وطلبوا مني القدوم للتحدث مع أبي...
.
تم القبض عليه بتهمة الابتزاز لفتاة شابة، وكوني من عائلة معروفة..آثر الرقيب إبلاغي بالأمر قبل ان يفعل اَي شيء وبعد محاورة بسيطة وافق الرقيب على اخراج أبي في مقابل الحصول على مبلغ مالي محدد..
.
في اثناء انتظاري لخروج ابي جلست اتساءل عن كم المجرمين الذين أفلتوا من العقاب بفضل خائني الأمانة أمثال هذا الرقيب؟؟
.
ارتسمت ابتسامة سخرية على وجهي..وانا أيضا خنت الأمانة حين قمت بعرض الرشوة ولكن الضرورات تبيح المحضورات أليس كذلك؟؟
.
خرج ابي وركب معي بالسيارة..
.
لم اتحدث معه طوال الطريق ..وهو لم يتحدث بالتأكيد ..انه لا يجرأ على النظر الى وجهي حتى..
.
أنا متأكد من أن صاحبة الشكوى هي ديما لكن ما لم أتمكن من معرفته هو كيف اتت الجرأة لديما لتقديم الشكوى؟؟
.
هل أخبرت عمار بالأمر ياترى؟؟ ولكن إن علم عمار بالأمر فلماذا يصمت؟؟
.
لماذا لم يقم بإحداث المشاكل حتى الآن؟؟
.
تحدث والدي أخيراً بعد صمت طويل: الن تطلب مني تبرير اَي شيء..
.
اغلقت عيني بقوة وقمت بمقاطعته بحدة: أبي أرجوك أنا لا أريد معرفة أي شيء عن هذا الأمر، كما أنني لم أخبر أمي..اياك أن تظهر لها أي شيء هل هذا مفهوم؟؟
.
قلتها ثم خرجت من السيارة بعد ايقافها امام باب المنزل..
.
ذهبت الى غرفتي ثم استلقيت احاول النوم عبثاً..في تلك الليلة..كنت قد اتخذت قرارا مهماً..لقد أدركت مقدار الألم الذي تشعر به حين ترى انهيار قدوتك..ولن أسمح لهذا الشعور بالتسلل الى أختاي مهما كلف الأمر..
#######################...
ان من اخطر المشكلات في العلاقات الاسرية..هو انشغال الوالدين عن تربية ابنائهم.. مما يؤدي إلى ازدياد الفجوة مع الأبناء وضعف العلاقة تدريجياً فينتج عن ذلك فشل وانحراف للأطفال ، إضافة إلى التناقضات التي يلمسها الطفل بين القيم التي تربي عليها في البيت والإهمال الذي يواجهه في المدرسة، واختلال القيم الموجودة في الشارع.
.
لقد قمت بنقش هذه الكلمات التي أخبرني بها الامام في داخل عقلي جيداً ، رغم ان ديما هي اختي ولكني أعد نفسي مسؤولاً عن تربيتها وقد أدركت مؤخراً أن ديما لا تصلي..
.
لقد كان أمراً صادماً بالنسبة لي ولكنني الآن أحاول معالجته بصبر وتأن وقد سألت الأمام كيف يتمكن الأب من غرس الأخلاقيات في نفوس ابناءه فأوصاني باظهار الاهتمام والمحبة واخبرني أن التعليم بالقدوة من أعظم طرق التعليم..
.
ولهذا قمت بإيقاف بحثي لعدة أيام وقررت التفرغ لديما والسفر معها لأداء العمرة وسأحاول التقرب منها في اثناء فترة السفر..
.
كان احتفالي بنجاحها بالأمس الخطوة الأولى في مشواري الطويل للتقرب منها.
.
انتهيت من تجهيز حقيبة سفري ثم ذهبت الى المطبخ لصنع القهوة كي تساعدني على التركيز طوال الطريق..
.
بعد أن انتهيت من تجهيز كل شيئ ذهبت لغرفة ديما لأرى ان كانت مستعدة فوجدتها تمسك باقة الورد وتقوم بشمها بابتسامة بريئة...
.
طرقت باب الغرفة فالتفت ديما باتجاهي حين ادركت وجودي..
.
تحدثت اليها بابتسامة: هل أنت جاهزة؟؟
.
أومأت ديما برأسها فدخلت الغرفة وقمت بحمل حقيبتها وقبل أن أخرج التفت اليها: سأنتظرك في السيارة..
.
.###########
.
ارتديت عباءتي بسرعة ثم قمت بحمل هاتفي لأراجع للمرة العاشرة صفة العمرة..
.
انها المرة الأولى التي سأقوم بتأدية العمرة بها ولا أريد أن أرتكب أي خطأ خصوصاً انني نذرت لله بأن أتوب..سيكون ذهابي للعمرة فرصة جيدة للتوبة..
.
نزلت الدرجات بخفة وحماس وحين ركبت السيارة قام عمار بإدارة المفتاح ثم التفت الي: حين نصل للسيل الكبير سنحرم للعمرة بإذن الله ولكن الآن سنذهب لزيارة عمتي فادية..
.
التفت اليه وملامح الصدمة مرتسمة على وجهي وجلست أتأمل ملامحه باحثة عن أي شيئ يدل على أنه يمزح ولكن يبدو بأنه جاد!!
.
زفرت بعمق ثم سألته وأنا أحاول اخفاء توتري: ولماذا نذهب لعمتي هل هناك مشكلة؟!
.
اغلقت عيني بقوة وأنا أنتظر سماع اجابته..لابد انها علمت بأمر القبض على زوجها...انا متأكدة بأنها منهارة ولكن عمار قد أجابني بكل بساطة: اخبرتها بأنك قد أحرزت المركز الأول على الصف فألحت علي بزيارتها لأنها تريد تهنئتك...
.
فتحت عيني ببطء عند سماع اجابته..هل يعقل بأنهم لم يعلموا عن أمر اعتقاله حتى الآن!!
وصلنا لمنزل عمتي فنزلت من السيارة بتردد حين قام عمار بفتح الباب ..
.
امسكت بيده ومشيت معه بخطوات مترددة ففي داخلي خوف من رؤية زوجها ولكن صوتاً في عقلي كان يخبرني بأنه في السجن الآن ولا يوجد اي داع لخوفي..
.
طرق عمار الباب فقامت عمتي بفتحه بسرعة مما يدل على أنها كانت تنتظر زيارتنا..
.
دخلت مع عمار الى المجلس وأنا متشبثة بيده مما جعل عمار يلتفت الي بحاجبين مقرونين: لماذا تمسكين بي هكذا ديما هل حدث شيئ لك؟؟؟
.
افلت يده سرعة كي لا أثير توتره واكتفيت بالابتسامة لطمأنته..
.
دخلت عمتي بعد لحظات وهي تحمل علبة بين يديها وفي ثوان معدودة كانت تضمني بين ذراعيها وتهمس في اذني :أنا فخورة بك يا ابنتي...
.
وضعت العلبة بين يدي: هذه هدية بسيطة أرجو أن تعجبك..
.
قمت بتقبيل رأسها وقام عمار بشكرها وحين هممنا بالخروج من المنزل أصرت عمتي على ابقاء عمار لتناول الفطور ولم يعترض عمار على ذلك مع الأسف الشديد ..
.
وقبل أن أحاول أنا الاعتراض اضطررت للصمت حين رأيت الفرح في وجه عمتي..
.
لا بأس ديما تحملي قيلاً..كل شيئ على ما يرام..هذا ماكنت احاول إقناع نفسي به..
.
نظرت عمتي الي : ديما اذهبي لرؤية أمل وفرح لقد اشتقن لرؤيتك كثيراً..
.
أومأت برأسي بعد تردد كبير..يجب أن أبعد هذا الخوف الغبي...انه في السجن الآن..
.
خرجت الى الصالة ومشيت بخطوات مترددة نحو الدرج.. تنفست بعمق وقمت بترتيب حجابي جيدا..يجب ان اكون حذرة بعد الان..
.
بدأت أصعد الدرجات وذكريات ذلك اليوم تمر بذهني وكأنه كان بالأمس..
.
وقبل أن أستفيق من تلك الذكريات المزعجة شعرت بتلك اليد وهي تجذبني اليها وتغلق فمي بقوة لمنعي عن الصراخ!!...
################.
من أنا؟ .
من هم أهلي؟ .
من أين أتيت؟ .
لماذا أنا مختلف عن الآخرين؟ ولماذا أنا بالتحديد؟ .
أسئلة وهواجس كثيرة تلاحقني منذ نعومة أظفاري حتى الآن..
.
بالرغم من انني عشت في وسط اسرة محبة حاولت تعويضي عن كل شيئ ..الا أن شعور النقص قد عاودني بشدة حين قوبل حبي لسمر بالرفض لذنب لم أرتكبه..
.
لقد أجبرني ابي على الذهاب لعيادة نفسية منذ طعني لوائل ورغم اقتناعي التام بأن لا أحد يستطيع مساعدتي الا انني ذهبت لجلسات العلاج...
.
وأخيرا احسست بالأمس أن ذهابي للطبيب قد أفادني .
.
لقد أخبرت الطبيب ان امنيتي الوحيدة هي ان اعلم لماذا تخلى عني اهلي فأخبرني ان دور الرعاية الاجتماعية تخبر كل طفل حن يبلغ السادسة عن الطريقة التي وصل بها الى الدار !!
.
لقد صدمني الامر كثيرا وتمكنت من تأكيده حين قمت بزيارة الدار فطلبوا مني مهلة حتى المساء ليتمكنوا من احضار ملفي..
.
ولكن هناك ما يحيرني..
.
لمذا لم يقم ابواي بإخباري عن هذا!!
.
لقد سألتهم مراراً كيف تخلى عني والداي ولكن في كل مرة كان ابي يخبرني بالآتي: «أنت طفل موجود لدينا كي نرعاك. أهلك ليسوا موجودين، ونحن نحبك ونهتم بك بدلاً منهم، ونسعى لنؤمّن لك حياة كريمة». .
بهذه الكلمات البسيطة كنت اضطر للصمت ولكن الفضول يقتلني..
.
هل قام والدي بإلقائي في الشارع وحدي أواجه الطقس البارد أو الحار، أو ربما كنت انتمي لعائلة محبة ولكن شخصاً قد اختطفني منهم؟؟
.
ابتسامة عريضة ارتسمت على وجهي بمجرد تخيلي لهذا..ربما كنت طفلا محبوبا..
.
احتمالات كثيرة تدور في ذهني سأعرف اجابتها في هذا اليوم وستنتهي معاناتي للأبد.....
#######################
انا أنثى..مهما تظاهرت بالقوة .. فإن الضعف يبقى مهيمناً علي..
هكذا خلقني ربي ..
أنا أنثى يا بشر..
حلمي الأسمى أن ألقى حبًا يأخذني القمم فوق السحاب..
حب من قلب صادق..لا خان ولا ظلم ..ولا يهاب..
كلي أمل في الحياة ..لو يوم أعيش بلا دموع وبلا ألم .
.
ولكن الحياة قد لقنتني درساً قاسياً...بت أدرك الآن أن الحب محض أوهام..
.
الحب هو مجرد كلمة ينطق بها الرجل للبحث عن مصالحه..
.
كنت اعتقد في وقت ما ان فارس يحبني...ولكنه تجلى اليوم أمامي بأبشع الصور
.
كنت أحدق به وهو ينظر الى عيني بكل حقد..حاولت تخليص نفسي من بين يديه ولكنني توقفت عن المقاومة حين همس: سأتركك الآن ديما ولكن لا تصرخي أريد محادثتك قليلاً اتفقنا؟؟
.
أومأت برأسي فتركني هو بدوره بحذر..
.
ابعدت نظري عنه وأنا أقوم بترتيب حجابي فوصلني صوته: ما الذي تفكرين به ديما..
.
اكتفيت بالنظر اليه بحاجبين مقرونين فتابع هو الحديث: الن يستريح قلبك قبل تحويل حياتنا الى جحيم؟؟؟
ما الذي تريدنه بعد؟؟
الا يكفيك اننا قمنا بتربيتك وتعويضك عن يتمك؟؟
.
أجبته بحدة : إنكم لا تملكون اَي فضل علي ..لقد قام جدي مع عمار بتربيتي وليس أنتم..
.
زفر فارس:لقد كان جدي مخطئاً بالاعتراف بك مع عمار..اننا لا نعلم حتى ان كنت ابنة لخالي حسن.. .
نظرت اليه باستغراب..ما الذي يقصده بكلامه!!
.
ارتبك فارس حين رأى نظراتي..
.
اخذ يسير يمنة ويسرة في ارجاء الغرفة وعلامات الارتباك تعلو وجهه..
.
اما انا فقد بقيت اراقبه في انتظار سماع تبرير منطقي لكلامه..اخذ نفساً عميقاً قبل ان يتابع حديثه..
.
لقد قام خالي حازم بتسجيلك باسم حسن العالي بعد ما كان يخطط للالقاء بك...اخبرني بنفسه انه تمنى لو القاك في ملجأ للايتام فوجودك لم يسبب سوى الفضائح والمشكلات...لدي طلب واحد فقط..كوني شاكرة لعطفنا عليك وابتعدي عن هذه العائلة..كونك حية حتى الان يعود فضله لعائلتنا لا تنسي هذا..
.
لقد خرج والدي من السجن وانا ادرك يقينا انك تفترين عليه..لذلك اطلب منك بكل أدب ..
.
بدأ يتحدث ببطء للتأكيد على كل حرف: ابتعدي عن حياتنا..
.
صمت فارس بعدها..أما أنا فقد استسلمت لمسيرة من الدمع ..لقد كان كل جسدي يرتجف..ما الذي يعنيه بأنني لست ابنة حسن...الست من عائلة العالي حقاً؟؟
وان كان ما يقوله صحيحاً لماذا اجبروا على الاعتراف بي..
.
بلا شعور مني صرخت بأعلى صوتي: أنت كاذب انا ابنة حسن العالي شئت أم أبيت...لقد صمت طويلاً على وقاحتك مع والدك القذر ولكنني لن أصمت بعد الآن ..سأخبر عمار بكل شيئ..قلتها ثم هممت بالخروج من الغرفة ولكن فارس أمسك بذراعي: وما الذي سيفعله عمار؟؟انصحك بالتزام الصمت ان كنت تريدين العيش..ان المنزل الذي تعيشون به الآن تمكن عمار من دفع اجاره بفضلي..ان عمار لا يملك وظيفة حتى الآن..برأيك كيف تمكن من تدبر النقود...
التفت اليه بنظرات مصدومة فابتسم بخبث: لقد طلبت منه ان يخرجك من المدرسة الخاصة في مقابل دفعي لاجار المنزل..
.
ارتجف صوتي وامتلأت عيناي بالدموع: أنت تكذب..
.
تابع فارس حديثه بثقة: لقد قام خالي حازم بصفعه واهانته وطرده من المنزل وفي المقابل اكتفى عمار بابتسامة منكسرة..هل هذا من تتأملين منه المساعدة..
.
لحظات من الصمت كانت تناقض الضجيج بداخل عقلي..عمي حازم قد طرد عمار!!
.
لقد اعتقدت اننا انتقلنا لأنني طلبت منه ذلك...من أين أتى فارس بهذا الكلام!!
.
ولكن كلامه صحيح..من أين أتى عمار بالمال...الآن فقط يبدو اخراجي من المدرسة الخاصة منطقياً..
.
ترك فارس يدي حين شعر بصمتي وانكساري...همس بعدها: هيا اخرجي الآن ولا تعودي ان اردت أن تحيي حياة كريمة...اخبري عمار انك لا تريدين اَي شيء يربطك بعائلتنا مفهوم؟؟؟
.
مشيت مبتعدة عنه بكل صمت..لقد كان صعبا علي أن استجمع كل ما قاله بداخل عقلي ..
.
كنت بحاجة للتحدث .نعم سأتحدث الى عمار..
.
نزلت الدرج فوجدت عمتي تنتظرني بابتسامة: كنت سآتي لمناداتك ..عمار ينتظرك بالخارج...
.
ركضت باتجاه الباب بدون أن أودعها..احتاج للتحدث الى عمار بالحال..
.
ركبت السيارة فبدأ عمار بتحريكها بينما بقيت انا صامتة احاول استجماع هدوئي..
.
وبعد مرور لحظات نظرت الى عمار بتركيز..اريد رؤية تأثير سؤالي على ملامحه لأعرف ان كان صادقاً: عمار..هل أنا فعلاً ابنة لحسن...
.
توقف عمار عن القيادة فجأة مما ادى لارتطامي بمقدمة السيارة..
.
امسك عمار بكتفي وهو يسأل بقلق : أنا آسف هل أنت بخير..
.
قمت بدفع يديه وأنا أكرر سؤالي: لا تغير الموضوع هل أنا ابنة لحسن أم لا؟؟
.
تحولت ملامح عمار للغضب: ماهذا السؤال السخيف ؟؟
.
تزاحمت الدموع في عيني:ان كنت ابنة حسن فلماذا يكرهني عمي حازم؟؟
لماذا يرفض رؤيتي لماذا لماذا لماذا؟؟؟
.
كنت اصرخ بشكل هستيري..لم أتمكن من ضبط انفعالاتي..
.
قام عمار بجذبي الى صدره فحاولت جاهدة أن أمنع نفسي من البكاء ولكن صوتي كان يعبر عن مقدار ألمي: انه يخبرني دائماً انني عار على العائلة وأنه نادم على الاعتراف بي..لماذا ياعمار..اريد أن أفهم ..هل أنا فرد من العائلة أم لا ارجوك اجبني..
.
ابعدني عمار عن حضنه ونظر الي بجدية: اسمعي لما سأقوله جيداً ياديما.. مسحت دموعي وبدأت أستمع اليه:لا تسمحي لأي أحد بزعزعة ثقتك بنفسك..لا زلت أذكر حتى الآن الدموع في عيني أبي وهو يوصيني بالعناية بك..لقد كان أبي يفكر بك حتى قبل أن تولدي..لقد كان يعلم اننا سنعاني الكثير برحيله ولهذا اوصاني بحمياتك..لذلك ارجوك..اياك ان تسألي سؤالاً سخيفاً...تذكري دائماً ...انت ابنة حسن العالي رغما عن الجميع..
أنا وأنت نعاني معاً ..ولكن انظري للجانب الايجابي..ربما تكون الوحدة امتحان إلهي ليظهر صدق إيماننا وتوكلنا على الله وحده ..ربما اليتم فرصة لنطور مهارة الاعتماد على انفسنا، ونقلل من اعتمادنا على الآخرين. .
سننجح معاً يا ديما وسنوجه رسالة إلى الناس لكي يروا بأعينهم انتصار الطبيعة الإنسانية المؤمنة على كل ظروف اليتم والقهر وتحديها لكل المشكلات..
صغيرتي..لاتفكري بما ليس بين يديك..بل بما لديك..فكري بكم السعادة المحيطة بك...فكري بكل النعم بحب واحمدي الله..
لاتلتفتي للأمور السلبية تفاءلي دائماً فالقدر يخبئ لنا الفرح.. كما تُخبئ الصدفة اللؤلؤة النادرة.
كل ما عليك هو أن تؤمني بالله وتشكرينه على نعمه..حينها فقط..ستحصلين على السعادة ...
.
شعرت بأن حديثه قد أراحني قليلاً..ولكنه لم يمنعني من توجيه سؤال آخر: هل صحيح بأن عمي حازم قد قام بطردك من المنزل؟؟
.
اكتفى عمار بالصمت ففهمت بأن كلام فارس صحيح..سألته مجدداً ونار الغضب تشتعل بداخلي:ولماذا لم تقم بالرد عليه..لماذا تقابل الاهانة بابتسامة؟؟
هل أنت ضعيف لهذه الدرجة؟؟
.
لم يعر عمار سؤالي اي اهتمام..ولكن ملامح وجهه ابدت بعض التأثر ..لم استطع متابعة الصمت..انها المرة الأولى التي ادرك بها أن عمار ساذج هكذا: هناك حدود للصمت ياعمار..انك رجل..يفترض أن تكون قوياً..يفترض ان تكون الشخص الذي يتولى حمايتي..ولكن كيف ستحميني وأنت بهذا الضعف؟؟
.
صرخ عمار: ديـــــــــــــــمــــــــــــــــا
.
صرخت أنا بصوت أعلى : لا تفرغ غضبك علي..هذا ما تجيده أساساً..تحاول فرض القوة والسيطرة علي للتغطية على ضعفك..
.
زفر عمار:استغفر الله العظيم...اللهم اجرني في مصيبتي..ديما يستحسن بك أن تصمتي ..أريد التركيز على الطريق ولست في مزاج جيد للجدال...وفري اسئلتك السخيفة لنفسك فلست مجبراً على تبرير تصرفاتي لطفلة مدللة..
لم ارد الضغط عليه اكثر..في الاساس..انا لا اعلم لم قلت هذا الكلام..أنا لا اريد ان احزن عمار..ولكنني خائفة...أريد أن أشعر بالأمان...منذ صغري وانا أشعر أن كلمة الأمان تتجسد في شخص عمار..وهذا هو سبب غضبي..من الصعب علي تقبل ضعفه..ان لم الجأ لعمار..لمن سألجأ اذا؟؟
.
احتاج لشخص قوي متمرد..متهور لا يعرف للخوف معنى..شخص مثل وليد..
.
هززت رأسي في محاولة مني لتشتيت أفكاري..لقد حاول وليد مساعدتي واقحم نفسه بمشكلات لا تعنيه..لا يحق لي ادخاله بمشكلات أكثر..
.
آآآآآه احس بضيق شديد تكاد به انفاسي تنقطع..
.
ياااااااه من هذه الدنيا كم هي متلاطمة امواجها وكم انا ضعيفة في مواجهتها..
.
وصلنا الى الميقات وقمت بالترديد خلف عمار((لبيك اللهم عمرة فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني))
.
استمر طريقنا وكان الصمت هو لغة الحوار الوحيدة..من الواضح انني اغضبته..
.
قام عمار بايقاف السيارة ثم نزل منها وقام بفتح الباب من أجلي...وحين نظرت ليده الممتدة رفعت نظري اليه فوجدته يتحاشى النظر الي..أمسكت بيده وأنا أهمس بدون أن أعلم ان كان قد سمعني أم لا: أنا آسفة..
.
لم يبد عمار ردة فعل لاعتذاري..ركبنا احدى الحافلات كي نتمكن من الاقتراب من الحرم..
.
ترجلنا من الحافلة بعد عدة دقائق وبدأنا المشي لمسافة طويلة..كان عمار يمسك يدي بقوة طوال الطريق وأنا أنظر حولي متعجبة من هذا الازدحام..
.
نظرت الى وجوه الناس فادركت ان مثلي كثير..
.
الكل يهرول....يمشون على الارض ولكن عقولهم..... الله اعلم اين هي..
.
مرت نصف ساعة تقريباً ونحن نمشي
لازال الشعور بالضياع والتيه يساورني ..
.
اين المهرب..
.
اين المفر..
.
اين الامان..
.
دخلنا في حدود الحرم وبدأنا المشي باتجاه الكعبة وحين رأيتها أمامي تجمدت في مكاني وانهالت العبرات من عيني..
.
ها هو البيت.... بيت الله امامى..
.
بيت .....الله..
.
لاول مرة اتامل هذه العبارة..
.
بيت الله..
.
ليس بيت اي احد..وليس ملك اي احد..
.
لقد كنت قبل نصف ساعة ابحث عن الامان.... عن المهرب..
.
هو والله ....بيت الله..
.
ازلت حذائي مع عمار ودخلت هذا الفضاء الرباني..
.
انتابني شعور رائع..
.
فرق كبير ....كبير جدا بين العالم الخارجي وبين هذا المكان النوراني..
.
كم هما متقاربان جدا..
.
لكن هو الفرق كبير ...كبير بينهما..
بعد ان انتهينا من الطواف صلينا ركعتين..
.
اه راسي .....بدا الصداع يندثر شيئا فشيئا ..... ماذا حدث!!
.
احس بان كل جزء في جسدي يشكرني على دخول هذا المكان الرباني..
.
راحة غريبة تغمرني..
.
كيف لا وكل جزء منى هو ملك لله وهذا بيت الله..
.
لقد كان عمار يهمس لي ونحن نطوف ويطلب مني التأمل..في نفس هذا المكان..مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم..في مثل هذا المكان طاف الصحابة..هنا منبع الاسلام..هذا بيت الله الحرام..حيث صلاة واحدة تعادل مئة ألف صلاة..
.
اجتاح السكون قلبي وأنا أدعو الله بأن يغفر لي..
.
احس بوضعي افضل الآن..
.
لقد رجعت شيئا فشيئا الى توازني ....
.
الى نفسي ..
.
بعد ان انهينا العمرة جلست مع عمار أمام الكعبة فبدأ هو بقراءة القرآن بينما بقيت أنا أتأمل الناس حولي..
.
منهم من يصلي النافلة و منهم من يقرا القران وانا اتامل سحر هذا المكان الهادئ..
.
هدوء يعيد الى النفس اشراقها وتوازنها...
.
قارنت بين حالى قبل عدة ساعات وبين حالى الان فتمنيت لو اخبر كل الناس عن فرحتي..
.
مرت الدقائق سريعة وانا استمتع بالراحة النفسية التي لقيتها ....
.
وانتبهت مع اذان الظهر.
.
الله اكبر الله اكبر..
.
اخبرني عمار ان أصلي الظهر والعصر جمعا وقصرا لان طريقنا الى المدينة سيكون طويلا..
.
بدأت الصلاة وما إن انتهيت حتى أدركني حنين الى هذا المكان الذي سأفارقه بعد لحظات..
.
عدنا الى السيارة وبدأنا بالسفر نحو المدينة..وبفضل السكون الذي احس به في صدري ..غططت بنوم عميق..
.
####################.
.
كان طريق السفر طويلاً..وما زاد من وحشته هو نقاشي الحاد مع ديما..تغضبني وقاحتها ولكني أصمت..فأنا لا أحتمل احزانها..قررت تجاهل أمر وقاحتها هذا الصباح خصوصاً حين رأيت تأثرها في أثناء العمرة..
.
نامت ديما في اثناء طريق سفرنا الى المدينة ولم أفكر بإيقاظها رغم شعوري بالملل ..
.
لقد اكتفيت بشرب القهوة..من الجيد أنها نامت فحديثها يجلب لي الهموم فقط..
.
شعرت فجأة بنغزات في عيني فأوقفت السيارة في جانب الطريق..يبدو بأن نوبة من الصداع تهاجمني مجدداً...
.
اخرجت المسكن من جيبي وقمت بابتلاعه..لم يعد المسكن يفارق جيبي..لقد بات أمر نوبات الصداع يقلقني في الحقيقة..
.
انني اعاني من الصداع بشكل شبه يومي وبدأت أشعر بأن المسكنات لا تؤدي المفعول الكافي..
.
ولكن لابد أن سهري على مشروع تخرجي أمام الحاسوب لوقت طويل هو السبب..
.
لا بأس..سينتهي كل شيء قريباً..
.
بعد عودتي من السفر سأقوم بعرض أولي لمشروعي أمام اللجنة وسيقرر الحكام ان كنت سأستمر بمشروع دعم الموهوبين أم لا لذلك يجب أن أعمل بجد..
.
تابعت القيادة بعد أن أخذت قيلولة قصيرة ووصلنا أخيراً الى المدينة على وقت صلاة العشاء..
.
نزلت مع ديما الى الفندق واخبرتها ان تصلي المغرب مع العشاء في الفندق ان ارادت فأنا أفكر بالصلاة في الحرم..
.
جلست ديما على الاريكة : سأصلي في الفندق..اشعر بالتعب قليلاً..
.
أومأت برأسي وخرجت بعد أن توضأت وحين نزلت الى الشارع شعرت بدوار مفاجيء..
.
جثوت على ركبتي فوراً فقد كان من الصعب علي المحافظة على توازني..
.
امسك احدهم بكتفي: هل أنت بخير؟؟؟
.
نظرت اليه وحاولت أن أرسم ابتسامة خفيفة: اشعر بدوار خفيف..لابد أنني مرهق من السفر..
.
قام الرجل باخرج قارورة ماء من جيبه: خذ واشرب واذهب للراحة قليلاً..ان لنفسك عليك حق..
.
شربت القليل من الماء ثم شكرته وعدت للصعود لغرفتي بالفندق..انه محق..سأرتاح قليلاً وأصلي في الفندق اليوم..
.
قمت بفتح باب الغرفة في الفندق فكان واضحاً أن ديما لم تلحظ دخولي..كانت تتحدث بالهاتف والارتباك ظاهر على صوتها: أرجوك وليد لا تتركني..انني لا أثق بأحد غيرك..
وليد رد علي..وليـــــــــــــــــــد...

أنت مرآتي فهل..أكسرها!!حيث تعيش القصص. اكتشف الآن