لقد وصلنا اخيراً , لقد مضى ما يقارب ساعتين, لمجرد دخول المدينة شعرت بشعور مختلف,
رؤية ناطحات السحاب الجسور المباني وافخم السيارات وغيرها من الامور التي لا تراها في القرى .
كان بإمكاننا ونحن في القرية الذهاب الى المدينه متى نريد وفي اي وقت ولكن نحن انفسنا لم نكن نرغب ,
كوننا مدهوشين الان من المدينة لا يعني اننا حُرمنا من الذهاب اليها ,ولكن الانسان بطبيعته طمّاع.
الفندق الذي نحن متجهين اليه في غاية الفخامه والرُقي ,
حسب ما عرفت عنه ان الحجز فيه صعب جدا ,بعد ان رتبنا اغراضنا واستقرينا طلبوا منا ان نساعدهم في القرية ,
بالتأكيد لا يمكننا الرفض ,سينفقون مبالغ طائلة من اجلنا لذلك لن نبخل عليهم بتقديم يد المساعده ,
كان علينا ان نساعدهم في الهدم ..
لقد مر اسبوعين تقريبا وقاربنا على الانتهاء ,
وَقَفْت لوهله وضحكت ساخر من نفسي , لقد مر الامر كالكابوس ,
مع كل هذا الغبار لم اعد استطيع تمييز زويا القريه , ما الذي فعلناه ؟
ااه توقف عن التفكير هكذا , الجانب المشرق يا يوسف ,فكر بالجانب المشرق ..
" ايها العمده هل يمكنني رؤية العقد ؟"
" لماذا ؟ هل يوجد اي مشاكل ؟"
" لا لا ابدا , فقط اريد التأكد انهم لم يذكروا امر قطع الاشجار حتى لو من باب توسيع المنازل "
" ههه لا تقلق يا يوسف , لقد وضعت انا بند خاص بهذا الامر , لن يتعدوا على اي شجره هنا ".
بعد ان انتهينا من القرية طلبوا منا ان نذهب الى الفندق وان لا نعود حتى ينتهوا من بناء المنازل ,
ولكن كان علي ان ازورهم بين الحين والآخر بما انني كنت مساعد العمده واتقن اللغة الانجليزيه .
بعد عامين....
الكثير من الامور شذت عن الطريق المتوقع , بدأ الجميع يتذمر من الحال التي آل اليها ,
الان بعد ان فات الاوان وبعد ان خُدعنا وآمالنا واحلامنا هُدمت بكل بساطه ,
بعد ان وجدنا ان هناك كابوس يحدث في القريه , ما الذي اراه ؟ اين المنازل ؟ اين المساعدات التي اخرسونا بها ؟
عندما ذهبت بعد غياب طوويل الى القريه كل ما رأيته اساسات لمبنى كبير ,
نعم بعد ان قاربوا على الانتهاء من بناء الفندق اصبحوا يتظاهرون بالحنين والندم .
رد صديقي على كلامي بعد ان شعر بالكم الهائل من الهموم التي احملها :
"الا يمكنكم الاجتماع كالسابق ؟ كاجتماعاتكم بالقريه , ربما بهذه الطريقه تجدون حل ما "
"نجتمع ؟ هنا في المدينه ؟ هه يا رجل لقد تفرقنا جميعا , حتى اقاربي منذ مده طويله لم اراهم "
تنهد صديقي بقوه :" انا فقط لا افهم شيء , انا واقاربي جميعا ولدنا هنا بالمدينه ولم نواجه هذا القدر من المشاكل التي تواجهونها ,
لمَ يحدث هذا معكم ؟"
" لانكم بكل بساطه لم تعيشوا مثل حياتنا ,مع خالص احترامي لكم لا تصح هذه المقارنه ,
انتم تملكون مال يكفيكم حتى لو توقفتم عن العمل , وطبعا نحن لا نطمع بالمال او نسعى له ,
الامر متعلق بالعيش في المدينة , العيش هنا له شروط واهمها المال , والبيئه يا صديقي , البيئه مختلفه جداً ,
عندما تنظر من نافذتك ماذا ترى ؟ بماذا تشعر ؟ جرب ان تأخذ نفس عميق هل هناك اي فرق ؟
لقد جربت هذا كثيرا وكل ما اراه هو ناطحات السحاب ضجيج زحام سيارات تلوث جوي ,ضجيج في كل وقت ,
غير ان اهل المدينة بالغالب لديهم هاله غريبه تُشعرك انهم ولدوا وفي فمهم معلقه من ذهب ,
والعلاقات الاجتماعيه سيئه جدا , التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي تدير حياتهم بالكامل ,
ثم يأتي متفلسف يتسائل عن سبب كئابته , لو يصلحون اسلوب حياتهم لعرفوا معنى السعاده ".
" كيف سأصلح نفسي وكل ما حولي خراب ؟كيف ؟ انا ابن مدينه واعترف لك ان ما قلته صحيح ,
المدينه بيئة تُولد بها وتنخرط بها رغماً عنك".
"صديقي المشكله انك لا تعطي لنفسك فرصه , لا تعطي لنفسك حيّز ,
أخبَرَني ابي كلمات مهمه عندما انتقلنا الى هنا -لا تثق بأحد ,لا تتكلم مع الغرباء ,لا تتدخل بأحد ظالم كان ام مظلوم او حتى مصاب- شردت وقتها وادركت ان في المدن الكبرى يولدون على هذه المفاهيم المعقده,
من باب الحذر يمكنك اتباعها ولكن ليس الى الحد الذي تظلم به نفسك والآخرين ,
ما زال في الدنيا خير , وهذه احد الامور التي تتميز بها القريه ,حسن النيه والصله بينهم ,
حتى وجود صديق رائع مثلك يجعل حياتي اسهل ,شعور انك انجزت لنفسك شيء يجعلك اكثر رضى ,
ان المال الذي تملكه قد عانيت وتعبت وسهرت حتى حصلت عليه يجعلك اكثر سعاده ,
النقاء الهواء والطبيعة التي تغرق في تفاصيلها تزيح عنك الكثير من الهموم".
أنت تقرأ
ابيض واسود
Spiritualفي الريف هناك الجانب المضيء والمظلم , الجانب الذي تتمنى عدم زواله وتفخر بذكره , والجانب المعاكس تماما الذي لا تستطيع تخطيه عند ذكر حياة الريف - اخطاء لا بد من ذكرها- في كل المراحل والزوايا هناك جانبين معاكسين كـ الابيض والاسود .. 99% م...