كان المفتش واقفاً امام النافذة ويداه في جيوبه كالعادة، يتسلى بالنظر الى الخارج بانتظار وصول لين. وحين دخلت المكتب التفت لفوره وتفحص وجهها ببرود.
قال الاستاذ بنستون:
-رافقتكما السلامة. اذهبا. تمتعا بوقتكما: اتمنى لكما سلامة الوصول. والتفت ال لين وقال:
-سنراك يا آنسة هيوليت بعد عطلة نصف الفصل. اظن انك قد دبرت بديلاً عنك لصفوفك في الغد.
حمل كريس حقيبة لين ومشى واياها الى السيارة. ووضع الحقيبة في صندوق السيارة دون ان ينبس ببنت شفة، وفتح لها الباب الأمامي لتجلس. ثم طلب اليها بكل ادب وتهذيب ان تربط حزام الأمان قبل ان ينطلق بسيارته خارج المدرسة الى الطريق العام.
كان الصمت يخيم ثقيلاً بينهما. بدا كريس عديم الرغبة في المحادثة وشعرت لين بانكسار وضعف. كانت مجهدة وحزينة ولم تجد اية كلمة تقولها. فكرت في نفسها: من الواضح اننا لا نستطيع ان نتحادث الا اذا كنا نتجادل ونتخاصم. ولكنها تمنت من كل قلبها ان لا يعودا الى سيرتهما الأولى في الخصام والجدال وعدم التفاهم.
منتديات ليلاس
بعد فترة من الزمن التفت كريس ورماها بنظرة سريعة وسألها اذا كانت مرتاحة في جلستها. اجابته باقتضاب:
-نعم وشكراً.
وعاد الصمت يلفهما من جديد.
وبعد تفكير جدي توصلت لين الى قرار ربما يسهل عليهما ان يكسر طوق الجمود ويزيل القلق والتشنج اللذين يكتنفانهما. تنحنحت قليلاً ونظرت الى الأمام وهي تخاطبه قائلة:
-كريس. علي ان اعتذر لك عن تصرفي الشائن ليلة السهرة بعد الحفلة الموسيقية. راجعت نفسي ووجدت ان لا حاجة البتة لهذا التصرف غير اللائق. اعتذر منك.
كان اصعب عمل قامت به لين في حياتها. ولكنها اعتذرت وانتهت المهمة الشاقة. لم يعرها اي اهتمام بل تجاهل ما قالته كلياً. ولكنه بعد فترة هز رأسه قائلاً:
-واخيراً وبعد طول انتظار جاء الاعتذار المنشود. لا بأس. انه مقبول منك واعتبر الآن ان المسألة انتهت.
امتلأت عينا لين بالدموع. كان قاسياً في قبول اعتذارها بل جارحاً. ادارت رأسها لتخفي دموعها المتساقطة دون ارادتها وحاولت ان تتلهى بالنظر عبر النافذة. لقد اصبحا خارج لندن وهما في طريقهما الى الاوتوستراد. دخل كريس بسيارته في خط السير السريع وانتقل بعد ذلك الى خط السير البطيء. قيادته ممتازة وتدل على مهارة وحذر.
سألته لين:
-اين سنمضي الليلة يا كريس؟
-في ستامفورد هناك فندق مريح اعرفه جيداً وطعامه جيد ايضاً.
بدأ المطر بتساقط ونشطت مساحات الزجاج الأمامي للسيارة في عملها الدؤوب. اصبحت القيادة عسيرة وعاد كريس لصمته. كان الصمت اثقل من ان تحتمله لين والرحلة تبدو اسوأ مما انتظرت بكثير. وبعد فترة خاطبها كريس قائلاً:
-سأدخل في المحطة القادمة لاملأ خزان الوقود. يمكنك استعمال الحمام هناك والاستراحة.
وبعد ان دخل المحطة تناولت لين معطفها الواقي من المطر واسرعت الى الاستراحة. غسلت وجهها قليلاً واعادت ترتيب زينتها وتمشيط شعرها وشعرت ببعض الانتعاش. وعادت مسرعة الى السيارة لانها كانت واثقة من رغبته في اكمال المسيرة باسرع ما يستطيع.
وبعد ان قطع مسافة اخرى قال:
-سنقف لنرتاح قليلاً في الاستراحة المقبلة.
اوقف السيارة. تنهد قليلاً ثم خاطبها:
-الرحلة لا تزال طويلة امامنا. اقترح ان نأكل شيئاً. لقد رتبت لي مدبرة منزلي بعض الساندويشات والقهوة.
وخرج راكضاً الى صندوق السيارة فجلب الزاد وقدمه اليها:
-اعتقد انه بيض. هل تحبين البيض؟
هزت لين رأسها موافقة واخذت ساندويشاً ثم شكرته بلطف. جلسا يأكلان بصمت. ثم تناولا القهوة وبسرعة اعاد كريس كيس الزاد الى موضعه في السيارة. فكرت لين في نفسها: لو استمر الصمت بيننا على هذا الحال سأنزل من السيارة وسأكمل الطريق وحدي مشياً على الاقدام. لماذا يتصرف هكذا؟ الم اعتذر له.... وهل يرغب ان اركع امامه طلباً للصفح ليغفر لي ذنبي؟
احست لين بيده تمتد الى المقعد الذي تجلس عليه وهو يقول:
-لين؟ هل نعلن هدنة مؤقتة بيننا؟ كم اتوق للحديث الشيق معك.
سرت لين كثيراً من تودده. حتى انها احست بالدموع تملأ مآقيها وهي تنظر اليه وتهز رأسها موافقة. نظر اليها نظرة حانية ثم جذبها بلطف اليه وقبلها قبلة عفوية على خدها واكمل.
-سنمضي ساعات مع بعض واقترح ان نبدأ في تعارفنا من البداية. سنترك الماضي خلفنا وننسى المستقبل امامنا وسنستمتع بالزمن الحاضر الذي نعيشه. ما قولك؟
هزت رأسها موافقة من جديد وقد شعرت براحة وسرور. ادار كريس محرك السيارة وانطلق. ومالت لين برأسها على المقعد لترتاح. ربما سترتاح اخيراً من التشنج والقلق اللذين رافقاها في الأيام الأخيرة دون هوادة.
اخيراً عاد الكلام يجري بينهما. وكذلك بدأ الطقس ينقشع قليلاً. تكلما عن السير والازدحام ثم عن المؤتمر. وتشعب الحديث فتناول مواضيع مختلفة. شعرت باقترابهما اكثر كلما طوت الدواليب الطريق وكلما اقتربا من غايتهما: ستامفورد.
دخلا سوق ستامفورد والشارع الرئيسي القديم مروراً بالعديد من الأبنية القديمة والحديثة. ثم دخلا باحة الفندق المقصود: ذراعي اليزابت.
قال كريس مبتسماً -لنجرب هذا الفندق. ارجو ان نجد غرفاً لنا.
احست لين بنبضها يسرع في ضرباته. وحمل كريس حقائبهما ودخلا الى مكتب الاستقبال في الفندق. قرع جرساً وانتظر وهو يتفحص القاعة. كانت كبيرة وواسعة يكسوها السجاد الأحمر وتتدلى من السقف الثريات الكبيرة المنخفضة. وقرب كل نافذة قناديل صغيرة.
حضرت امرأة متقدمة في السن لاستقبالهما. وسألها كريس:
-هل لديك غرفتان لليلة واحدة من فضلك؟
نظرت المرأة في دفتر التسجيل وقالت:
-الفندق مزدحم بالنزلاء، الموسم بدأ وغداً عطلة للبنوك. لدي جناح عائلي مكون من غرفتين يصل بينهما باب داخلي. هذا كل ما عندي لهذه الليلة.
نظر كريس اليها وسألها:
-ما رأيك يا لين؟
تناول يدها بين يديه بحنان ونظر في وجهها يستطلع رأيها ثم قال للمرأة:
-نحن خطيبان. ولا اعتقد ان خطيبتي تمانع. هل تمانعين يا حبيبتي؟
بلعت لين ريقها وشعرت بضغط اصابعه فوق يدها كأنه يتمنى منها ان تقبل. اجابت لين بارتباك:
-لا مانع لدي بالطبع.
احمرت لين خجلاً وحاولت ان تبعد نظرها عن كريس قدر المستطاع. وقعا بعد ذلك في دفتر التسجيل وتبعا المرأة الى الطابق الثاني. غرفة رقم اربعة واربعة ــ أ. اعتطهما المفتاحين وقالت:
-العشاء يقدم حالياً.
بدأت لين تعترض وهي مضطربة جداً ولكن كريس رفع يده يحاول ان يسكتها قائلاً:
-رويدك! انتظري لندخل اولاً الى الغرفة.....صمتت لين على مضض. وفتح كريس باب الغرفة وحمل الحقائب الى الداخل ثم اغلق الباب وقال:
-هذه غرفتك. سرير كبير مزدوج وآخر مفرد صغير. المزدوج للوالدين والمفرد للطفل الصغير. غرفتي في الداخل. فيها سريران منفردان وهما للولدين المراهقين في العائلة. الا تعتقدين ان لدينا اكثر مما نحتاج من الاسرة؟ نحن نمنع الاستفادة من هذه الاسرة في زحمة الموسم. الا نستطيع ان نقتصد؟
بدأت لين ترتجف قلقاً من مزاحه. ثم التفتت اليه وخاطبته بجدية:
-كريس! لا استطيع ان اسكت اكثر. علينا ان نواجه الحقيقة. انني لست خطيبتك!
-اهدأي.
جلس على السرير المزدوج وطلب اليها ان تجلس قربه قائلاً:
-تعالي. لا تخافي. اريد ان اتحدث اليك فقط.
-كريس (جلست قربه). لا بأس بذلك ولكنني لا البس خاتم خطوبة ولا.....
-تريدين خاتماً؟ حسناً. (اخرج خاتمه من اصبعه ووضعه في كفه وقال): هاك. البسيه.
-لا استطيع ان البسه. كأنني اكذب على نفسي.
-ولماذا كل هذا الارتباك يا عزيزتي؟ الخاتم لن يعني لك اكثر مما تريدين. البسيه الآن وانا اسوي هذا الأمر مع كين عند عودتنا.
امسك كريس يدها رغماً عنها ودفع بالخاتم في اصبعها وقال:
-انه يناسبك ونحن الآن خطيبان رسمياً. انا اصر على ان اختم علاقتنا الجديدة بالطريقة المتبعة في مثل هذه الظروف.
عانق كريس لين بسرعة مفاجئة وغير منتظرة. كان عناقه لطيفاً ولكن لين تراجعت بعيداً وقد احمرت خجلاً. نظرت الى ابتسامته المرحة وتعجبت في نفسها: من اين لكريس هذه الشخصية المرحة الجديدة؟ انه خفيف الظل وشيطان جذاب.
قال كريس معقباً على الخاتم:
-بالمناسبة يا لين. لقد اعطيتك بطريق الصدفة اكثر مما اعطاك كين. انني لا اجد خاتمه؟
-انها غلطتي. كنا مشغولين ولم نجد الوقت للبحث عن خاتم للخطوبة.
وبعد ان انهت لين جملتها احست ان هذا العذر واه وهي نفسها لا تقبله. رفع كريس حاجبيه متسائلاً:
-هل هذه هي الحقيقة؟
وقفت لين بعصبية وقالت:
-علي ان اغتسل واغير ثيابي واجهز نفسي للعشاء يا كريس.
ضحك ساخراً وتمدد فوق السرير وقال:
-وهل هذا يعني ان علي ان اغادر غرفتك؟ هذا السرير مريح للغاية. انا لا ارغب في النهوض.
-عليك ان تخرج فوراً.انحنت لين فوقه وامسكت بكلتا يديه وبصعوبة سحبته وقادته الى الغرفة المجاورة. كان يضحك وهو يحاول ان يقاوم ولكنها دفعته قليلاً. ارتبكت لين. وربما احس كريس بارتباكها لأنه استدار اليها ورفع يديه واحاط بهما وجهها وقال:
-لا تستغربي من تصرفاتي كثيراً يا لين. نحن لسنا في الماضي ولا في المستقبل. نحن نعيش الحاضر. تذكري اتفاقنا في السيارة. نحن نعيش كل لحظة ونستمتع بوقتنا الحالي قدر الامكان. ان هذه اللحظة والتي نعيشها في الزمن الحاضر مهمة. انت ملك لي وحدي الآن.
نظرت اليه مذهولة لا تصدق. واكمل قائلاً:
-لا تقفلي الباب بيننا يا حبيبتي. لن ادخل غرفتك دون اذنك. حدقت لين به قليلاً ثم تمتمت:
-لن اقفله يا كريس. انا اثق بك ثقة عمياء ودون اي تحفظ.
-شكراً.
خرج كريس بعد ذلك واغلق الباب خلفه.
منتديات ليلاس
ماذا قصد كريس من كلامه؟ انه الجنون بعينه. لقد وضعت نفسها في مأزق لا تحسد عليه. ستحرق اصابعها لأنها وضعتها في وسط اللهب. بدأ عقلها ينذرها من مغبة عملها ويقول: انه يتسلى معك. اليس هو الرجل وهذا من طبيعة الرجال! انه يلعب معك لعبة الرجل الأزلية.
ولكنها تعيش حلماً لذيذاً وغداً سينتهي الحلم وتستفيق على الحقيقة. هناك كين ينتظرها... ولكنها وبسرعة ابعدت كين من عقلها وهي تقول في نفسها: غداً سأفكر بكين وليس الليلة. الليلة سأعيش حلم عمري.
فتحت حقيبة ملابسها واخرجت منها بعض الاثواب، ثم انتقت بتأن فستاناً جميلاً ابيض. خلعت ثياب السفر وعلقتها في الخزانة واغتسلت بسرعة ثم ارتدت الثوب الفاتن. ثوبها بدون اكمام وضيق يلاصق تفاصيل جسدها. وقفت امام المرآة تعاين شكلها. ومشطت شعرها الأسود اللامع ثم وضعت عقداً حول جيدها والأقراط المناسبة في اذنيها. نظرت نظرة اخيرة الى المرآة وقد ارتاحت لزينتها وصرخت تنادي كريس بدلال:
-كريس. لقد انتهيت من تجهيز نفسي.
-حسناً. سأكون معك خلال ثوان.
ظهر لتوه في الباب. كان وسيماً، جذاباً وقد وضع يديه في جيوبه واستند الى الباب ووقف يتأملها مشدوهاً. قال:
-كم انت فاتنة. الكلمات تعوزني ولا استطيع التعبير عن مدى جمالك الاخاذ (امسك بيدها) في الحقيقة لا حاجة لي بالعشاء ويمكنني ان اشبع نهمي منك.
ضحكت بخجل ورفعت يدها تسوي له ربطة عنقه. قال:
-عندما رأيتك بهذا الجمال ارتج عقلي ومالت ربطة عنقي من مكانها. من اين اشتريت هذا الفستان الجميل؟
-لم اشتره. لقد صنعته لي والدتي.
-والدتك! كم هو جميل. انه يضفي عليك جمالاً لا حد له ويجعلك تخلبين الألباب. تعالي يا خطيبتي.
امسك بيدها ونزلا السلالم الى قاعة الطعام. انتحيا طاولة منعزلة وتمتم:
-الجميع هنا يعتقدون اننا نمضي شهر العسل. الاشراقة على وجهك تشير الى انك عروس فاتنة.
فكرت لين في نفسها: هل حبي له واضح للعيان؟
وطلبا الطعام. نظر كريس اليها عبر الطاولة وقال:
-استطيع ان اتعجب الآن للفرق الكبير بين الفتاة التي قابلتها بعد الظهر في مكتب المدير، وبين هذه الفاتنة التي تجلس امامي. لقد ظهر عليك الاعياء بعد الظهر بشكل اخافني. تساءلت في نفسي اذا كنت تستطيعين القيام بهذه الرحلة الشاقة وانت على هذا الوهن.
-ربما احتاج لتغيير هواء.
-حتماً، كنت اتحدث مع ماري...نظرت اليه لين مستغربة وقاطعته قائلة:
-لم اكن اعلم انك تلتقيها....
-التقيتها بعد المدرسة صدفة وتناولنا الشاي سوية. لقد اخبرتني انها خائفة لأجلك وتشعر انك لست على ما يرام. هل هذا صحيح؟
-ربما لأنني كنت محتاجة الى عطلة.
حاولت ان تغير مجرى الحديث فقالت:
-هل تعرف يا كريس ان ماري تمر في حالة حب جديدة؟
نظر كريس الى اظافره يتلهى وقال ببطء:
-نعم انني اعرف ذلك. واعرف ايضاً انها تحاول ان تحصل على حريتها بالطلاق من زوجها الأول الذي كبلها بالزواج المبكر لسنوات عديدة خلت. لقد التقت شخصاً آخر احبته كما احبها وتعاهدا على الزواج فور حصولها على الطلاق.
-وهل تعرفه انت؟
-نعم اعرفه. لقد كنت صدفة في مكان ما والتقيا كلاهما هناك. لقد اقسمت ان احتفظ بالسر. ولذلك لا استطيع يا عزيزتي ان افشي سراً ائتمنت عليه حتى ولا الى صديقتها الوفية ( ابتسم لها ابتسامة عريضة ثم اكمل) انا آسف يا عزيزتي.
-لا عليك. اخبرني (قالت بصوت منخفض جداً) هل من الممكن ان تكون انت الشخص؟
ابتسم بتمهل وحذر واشار اليها بالنفي قبل ان يتكلم:
-لا. لا، لست الشخص سعيد الحظ. اهتمامي يكمن عند فتاة اخرى.
فكرت لين في نفسها: كين كان على صواب حين تكهن ان ماري تحب شخصاً اخر غير كريس. وما الفرق عندها الآن؟ ان كريس يحب انجيلا على ما يبدو....
حضر الطعام ولكن شهية لين هربت منها بعد هذا التفكير.
شاركت بالأكل لياقة. واراد كريس ان يطلب لهما المزيد ولكنها اعترضت قائلة:
-عزيزي ان ميزانيتي لا تحتمل المزيد من المصاريف.
-ولكنني سأتحمل بنفسي مصاريف هذه الرحلة. اتفقنا!
وبعد ان تناولا القهوة اللذيذة سألته لين:
-هل رأيت صورتنا في جريدة الناشونال، والتي اخذت في مطعم الغرين غوبلت بعد الحفلة الموسيقية؟
-نعم. ماذا بشأنها؟
تلفتت حولها في حذر ثم ضحكت بصوت عال وهي تقول:
-اتوقع ان يقترب منك في كل لحظة مراسل ليطلب حديثاً صحفياً، يا استاذ يورك او يا ماركوس الدرمان، ليسألك: هل تستطيع ان تؤكد لنا صحة خطوبتك للمغنية الشهيرة...
قال بهدوء وحزم:
-اصمتي ارجوك.
احست لين ان الجو قد تكهرب وتوتر بينهما من جديد. نظرت اليه ورأت الجليد قد تجمع في عينيه. احست كأنها صربت رأسها بصخرة جامدة، قالت:
-آسفة. لم اقصد الازعاج.
لماذا هو حساس للغاية بصدد موضوع انجيلا؟ لماذا لا يحتمل الحديث عنها؟
ضحكت قليلاً ثم قالت:
-نسيت للحظة ان علينا ان نفقد الذاكرة ونطمس الماضي ولو للحظات.
بقي كريس دقائق يحاول ان يستجمع غضبه ويطويه، ان يسيطر على توازنه ويستعيد رباطة جأشه. فجأة وقف ومد لها يده قائلاً:
-دعينا نرقص يا لين.
خرجا الى القاعة الكبرى في الفندق حيث يوجد المرقص. ودار بها على الفور في حلبة الرقص بخفة ومرح وقال:
-هذه المرة لن اسألك ان تشاركيني الرقص بل سأجعلك ترقصين معي رغماً عنك.
ضمها الى صدره بقسوة وبقي لفترة طويلة لا يتحرك في وسط حلبة الرقص. ثم قال مازحاً:
-هل تعرفين يا لين انك بدون مخالب جذابة لا تقاومين؟ لقد تحققت الآن من ذلك.
ابتسمت له شاكرة غزله البريء. كان لا يزال يراقصها وعيناه في عينيها تخبران قصة حب كانت تتمنى لو تسمعها بالكلمات... ولكنها كانت واثقة أنها لن تسمعها. قالت في نفسها: سأعيش الليلة حلماً. وغداً ينتهي واعود الى دنيايا من جديد. ضحكت وقالت:
-عندما اخبرت كين انني سأرافقك انزعج وبدا عليه القلق.
-لماذا؟ هل يظن انني سأغويك؟
احمرت لين خجلاً وتراجعت قليلاً. لقد عاد الى سخريته وقساوته. حاولت ان تلطف الجو. مدت يدها بلطف ولامست ذراعه وقالت بدلال:
-كريس. انس الماضي.نظر اليها وجهاً لوجه. ابتسمت له ابتسامة عريضة وعلى الفور لاحظت انه بدأ يستعيد مرحه.
قالت بهدوء:
-آسفة لما قلت، لم اكن اعلم ان قولي سيزعجك.
-انسي الموضوع برمته يا لين وتعالي نرقص يا حبيبتي فالرقص يساعدني على التوازن.
ضحكا من جديد. وجذبها اليه اكثر وقال:
-بما اننا خطيبان علينا ان نقوم بدورنا على اكمل وجه.
مال برأسه وعانقها بسرعة.
-كريس! (اعترضت وتراجعت وقد جفلت من تصرفاته ثم قالت) ارجوك لا تفعل ذلك في مكان عام.
-ولماذا لا؟ اليس المكان اميناً ام انك تفضلين العناق في خلوتنا؟ انا مستعد لهذه اللعبة. فقط اطلبي...
-كريس! اتمنى ان لا تعتقد انني من هذه الفئة من الفتيات.
-لا. لا اعتقد ذلك. ولكن لا مانع لدي ان اكتشف بنفسي.
ابتسمت وبقيت صامتة. بينما نظر اليها وقرأ الارتباك في عينيها وقد امتلأتا بالدموع. قال بحنان وصدق:
-اعتذر يا حبيبتي. انا لا اعرف ما يدور في خلدك من افكار، ولكن يمكنك ان تصفعيني اذا وجدت انني تماديت في الغي. انني بشر من لحم ودم. وانت بفتنتك وجمالك تسحرينني وتغرينني.
ابتسمت له واطمأنت لكلماته. قال:
-هكذا افضل.
منتديات ليلاس
نظر الى ساعته وتمتم في اذنها:
-حان وقت النوم يا سندريللا الفاتنة. ان الليل قد انتصف.
شعرت لين بالبرودة تلفها وهما في طريقهما الى الغرفة ووضع كريس يده حول خصرها. ارتجفت قليلاً فسألها:
-اية مشكلة؟
ولكنها بقيت صامتة.
فتح الباب ودخلا. وانار الغرفة ثم لفها بذراعيه وعانقها قائلاً:
-انت تشعين جمالاً وبهجة. لماذا؟
كان ينظر في عينيها ويحدق في جمالها ويغازلها برقة فائقة.
-يا حبيبتي عليك اقفال الباب بيننا...
تركها على الفور ودخل غرفته بعد ان ابعدها عنه بلطف ورقة وهو يقول:
-عمت مساء يا لين. اتمنى لك احلاماً سعيدة.
وبعد ان اغلق الباب دونه بسرعة بدأت لين تجهز نفسها للنوم وهي تراجع في ذهنها احداث هذه الليلة. جميع افعاله واعماله تشير الى انه يحبها وحدها ولكنه لم يصرح بذلك الحب ابداً. تساءلت في نفسها: هل هو يحبني حقاً ام انه يتسلى ويمضي وقتاً ممتعاً...
دخلت الفراش بعد ان اطفأت النور. وبعد لحظة سمعت قرعاً خفيفاً على الباب الفاصل بين الغرفتين وصوته يقول:
-هل نمت يا لين؟
اضاءت النور من جديد ولبست معطفها وفتحت الباب وهي تقول:
-لا لم انم بعد.
كان كريس يقف بلباس النوم وقد فتح سترة البيجاما الى خصره وبدا جذاباً لا يقاوم.
-آسف يا لين لازعاجك ولكنني احتاج لكوب ماء.
مشت حافية الى الحمام وناولته كوباً فارغاً.
شكرها وامسك بيده معطفها المفتوح وقد ظهرت تحته غلالة نومها الرقيقة. بدأ قلبها يضرب بسرعة وعقلها يقول: لا تلمسني ارجوك. لن استطيع مقاومة اغرائك...
-شكراً يا لين. مساء الخير.
وعاد الى غرفته من جديد بعد ان حمل الكوب معه. اغلقت لين الباب بالمفتاح هذه المرة واسندت رأسها عليه وهي تجد صعوبة في التنفس...
عادت الى فراشها وارتمت فوق الوسائد ونامت تحلم به. استفاقت حوالي الثانية والنصف بعد منتصف الليل، ورأت ان نور غرفته لا يزال مضاء. لماذا؟ تنهدت بعمق ثم عادت واستسلمت للنوم من جديد.
كانت الشمس مشرقة في الصباح وقد دخلت غرفتها من ثنايا الستائر. فتحت لين عينيها ونظرت اول ما نظرت الى الخاتم القابع في اصبعها. لقد شهد ليلة حلمها وقريباً ستعيده الى صاحبه، وبذلك ينتهي الحلم.
إغتسلت بسرعة وارتدت ثيابها وسمعت طرقاً خفيفاً على الباب الفاصل بين الغرفتين وصوته الآمر يقول:
-هل ارتديت ملابسك يا لين؟
-لحظة واحدة (اقفلت ازرار بلوزتها ونادته) ادخل.-الباب مقفل. افتحي حالاً يا آنسة هيوليت قبل ان اكسر الباب. لن اقبل باباً مغلقاً بيني وبين خطيبتي مرة ثانية.
قالت لين وهي تفتح له الباب بالمفتاح:
-آه. ولكنني لست خطيبتك يا استاذ يورك.
كان قد حلق ذقنه وارتدى ثيابه وبدا جاهزاً حين قال:
-من هذه اللحظة انت خطيبتي. وهكذا احيي زوجة المستقبل!
طوقها بذراعيه وحاول عناقها ولكنها افلتت منه بسرعة.
-هذا جنون حقيقي.
-لا بأس. ولكنك تعاندين وتعارضين... هيا بنا لنتناول الفطور.
-علي ان اكمل زينتي اولاَ!
وقف يراقبها مبهوراً وهي تضع المساحيق على وجهها ثم قال:
-لمن تتزينين؟ انك شديدة الاغراء بدون اية مساحيق. استطيع ان اسكت شهيتي بأكلك. (فتح ذراعيه وناداها) تعالي يا امرأة.
بعد الفطور دفع كريس حساب الفندق ثم وضع الحقائب في مؤخرة السيارة وانطلق بسرعة. توقفا مراراً على الطريق من اجل الوقود او للاستراحة. وشعرت لين ببعض الحزن يزحف الى قلبها كلما اقتربت الرحلة من غايتها. احست ان عليها ان تعيد اليه خاتمه مع انه لم يسألها ان تفعل. خلعته من اصبعها وقالت:
-اعيد اليك يا كريس خاتمك الذهبي سالماً.
استدار نحوها بسرعة وقال غاضباً:
-ماذا؟ احتفظي به ذكرى لقاءنا هذه الليلة وعربون صلحنا.
-لا اسنطيع ان احتفظ به يا كريس. انه ملك لك.
-كما ترغبين. ضعيه في احدى جيوب سترتي اذا اردت.
طريقته في الاستخفاف آلمتها. هل سينتهي حلمها الكبير نهاية اليمة؟ لقد انكمش من جديد وعادت اليه برودته وقساوته. شعرت لين بخيبة امل ونظرت الى التلال البعيدة وهي تفكر: انها بديعة التكوين وبعيدة المنال كحلمها تماماً.
وبعد قليل قطع كريس الصمت بينهما وقال:
-هل ترغبين في قيادة السيارة عني؟ اريد ان ارتاح قليلاً.
استغربت لين طلبه ولكنها احست بفرح كبير يغمرها وقالت:
-ستسمح لي بقيادة سيارتك؟
-نعم. مع انني لا اسمح بذلك لأحد ولكنني اثق بك. سأتوقف بعد قليل كي نستبدل مقاعدنا.
جلست لين في مقعد القيادة واحست انها تملك الدنيا. قال يخاطبها:
-لا تخافي. انها سريعة ولكنها فاتنة مثلك.
طربت لمديحه وخفق قلبها بسرعة. جلس كريس قربها واسند رأسه الى المقعد وطوى ذراعيه فوق صدره وقد اغمض عينيه. وقال:
-انها تحت تصرفك. انتبهي.ولأن قيادة السيارة وسط الازدحام وفي الطرق الدولية لا تلذ كثيراً، اعطت كل انتباهها لحركة السير حولها. وبدا كريس تعباً يحتاج فعلاً للراحة. كان هادئاً وربما نائماً قربها. فجأة سمعته يقول:
-هل تعرفين انك تجدين قيادة السيارة كما تجدين كل شيء تفعلينه؟
اذن لم يكن نائماً بل مسترخياً.
-شكراً يا سيدي. المديح منك يساوي الكثير.
نظرت اليه نظرة خاطفة ولاحظت انه يراقبها باهتمام شديد. قالت ساخرة:
-نعم انني اجيد كل شيء ما عدا التعليم.
-رويدك قليلاً واخفي مخالبك. انت تقولين ذلك. انا لم اقله. على كل حال اعتقد اننا اتفقنا على ان لا نبحث في امور العمل. هل تذكرين؟
-آسفة. لقد نسيت.
اكملا الرحلة بصمت ثم قطعه كريس قائلاً:
-ذات يوم سأطلعك على سر.
تنهد ثم اغمض عينيه من جديد.
كانت الطريق مملة للغاية. اميال وجبال من الفراغ. جلس كريس وقال متبرماً:
-بحق السماء توقفي عند اول استراحة. تحتاج لبعض الراحة.
اعطت لين اشارة الانحراف ثم دخلت في الطريق الجانبية المؤدية الى الاستراحة. واوقفت محرك السيارة ثم مالت الى الوراء تتمطى. نظر اليها كريس وسألها:
-هل انت تعبة ومجهدة؟
وضعت رأسها على كتفه تستريح. ولفها بذراعيه بحنان وبقيا على هذا الحال فترة طويلة قبل ان يتكلم كريس بجدية ويقول:
-هل تعرفين ان هذه المغامرة اعطتني اجوبة على اسئلتي العديدة؟ لقد برهنت لي ان بستطاعتنا ان نتبادل اطراف الحديث دون جدال او ازعاج واننا نتوافق في بعض الأمور.
نظرت اليه تفكر قليلاً ثم قالت وهي تضحك:
-لقد عرفت الآن انك كنت تقوم بتفتيش عام حول امكانياتي وقدراتي. اظهرت النتائج انني ناجحة في مهمة المرافقة، وربما ستكتب تقريراً مفصلاً عني الى الادارات التربوية المعنية بالأمر.
اعتدل في جلسته ونظر اليها نظرة عتاب وقال:
-تستاهلين علقة ساخنة لصفاقتك يا آنسة هيوليت.
-آسفة.
-ولكن الأسف لا يبدو عليك...
عم صمت ثقيل ثم سألته:
-كريس. لماذا بقيت مستيقظاً الى ما بعد الثانية والنصف ليلاً؟
-لقد قلقت وجافاني النوم لذا قمت بتدبيج محاضرتي ليوم المؤتمر في صباح الثلاثاء. وبعد ذلك نمت تلقائياً.
نظر الى ساعته وقال بسرعة:
-هيا بنا. علينا ان نكمل طريقنا. انا سأقود السيارة.
انطلقت السيارة مسرعة من جديد في طريقها المرسوم. وتكلم كريس اولاً:
-اخبرني هل لديك فراغ في الأيام المقبلة؟ الأحد بعد الظهر مثلاً. اود ان ارافقك في زيارة المستنقعات الريفية. ما رأيك؟
-احب زيارتها كثيراً.
-حسناً. سأطلب من والدتي ان تحضر لنا بعض الشاي والساندويشات ثم نذهب بعد ذلك لتناول العشاء معها. ما رأيك؟
-لا مانع لدي اذا كانت والدتك توافق على دعوتي.
-انا متأكد من سرورها بلقائك.
قالت لين في نفسها: سأعد الساعات حتى هذا اللقاء. ربما لا زلت اعيش الحلم اللذيذ، ولم يحن الوقت للاستيقاظ... ما اجمله من حلم. نظرت لين الى كريس تراقب قيادته واصابعه الحساسة النحيلة... اصابع العازف الشهير. ولفت نظرها وجود الخاتم مكانه في اصبعه. اغمضت عينيها وشعرت ببعض الألم والحزن. تساءلت: هل من الممكن ان يكون هذا الخاتم خاتم خطوبته لانجيلا؟
اطلقت لين لنفسها العنان في مراقبة الوجه الوسيم الذي احبته. كان كريس مشغولاً عنها بأفكاره وترتيباته. سمعته يقول كمن يخاطب نفسه بصوت منخفض:
-لابد من رؤية انجيلا هذه الليلة. لن اتأخر عن لقائها...
-عليك ان ترى انجيلا؟
-نعم يجب ان اراها واتكلم معها واحزم الأمر.
قال ذلك بوضوح تام دون ان يشعر بأنه يتكلم معها. احست لين كأن ضربة قوية اصابت رأسها. لقد تأكدت بما لا يقبل الشك ان حلمها شارف على نهايته....
أنت تقرأ
كيف ينتهي الحلم الكاتبة: ليليان بيك
Romanceفي حياة كل منا لقاء اول. وهو احيانا كالسهم يصيب موضع القلب فيجرح بلا رحمة و احيانا كثيرة يطيش في الفضاء ولا يخلف الا ذكرى عابرة و مريرة او صدى معينا يتقلب في ليل العاصفة ولا سبيل الى الخلاص منه في معظم الاحيان..... كانت الانسة لين هيوليت تتساءل كثير...