الزمن دواء للنسيان والزمن يداوي كل الجراح ولكن لين لم تشعر بأية راحة بعد وصولها الى منزل والديها في كنت. وفي نهاية الاسبوع كانت لا تزال تئن من جراح قلبها وتشعر بكآبة وحزن عميقين. وقد ازداد حنينها للرجل الذي احبته بكل جوارحها هي تحاول يائسة ان تنساه. بدأت تستعيد الحقيقة في ذهنها. وصممت ألا تراه مرة ثانية. حتى ولو قابلته صدفة فلن يربطها به رابط. لقد انهكت قواها تلك الحقيقة وغمرها الألم بشدة.
ومع مرور الايام بدأ قلقها يزداد ونفسيتها تتحطم وأعصابها تزداد توتراً وتشنجاً. قررت أن تهرب من مشاكلها وتقصد الحديقة الصغيرة حول المنزل تتلهى بالاعتناء بها. ربما سيبعد الضجر بهذا ولو قليلاً عن حياتها. لقد بقيت حزينة كئيبة منذ ودعت كريس لآخر مرة في منزل والدته.
منتديات ليلاس
أمضت يوم السبت بعد الظهر في الحديقة. بقيت ساعات وهي تركع امام مدخل الباب الخارجي في الفسحة الأمامية للمنزل تعشب حوض الورود وتشذبه من الحشائش الغريبة. كانت ترتدي بنطالها الاحمر والبلوزة الحمراء، وتأسف لأنها مضطرة لارتدائهما للعمل في الحديقة، لأن الآخر لا يزال في سيارة كريس حيث تركته. ومن المؤكد انه سيرسله لها الى عنوان شقتها في ميلدنهد.كانت تجلس القرفصاء وتنظر بفخر الى ما انجزته من عمل في تنظيف احواض الزهور. واذا بسيارة تسير ببطء بالقرب منها ثم تتوقف. تنهدت لين راضية عن عملها في الحديقة وخلعت قفازاتها الخاصة بالعمل، واذا بها تسمع وقع أقدام في الممر المؤدي الى المدخل. لم تنظر لترى لأنها كانت تعتقد ان الزائر يريد والدتها.
فجأة توقف وقع الاقدام وسمعت خشخشة الاعشاب كأن احداً يقترب منها. نظرت وللحال توترت أعصابها وحبست انفاسها... لا بد وان خيالها يصور لها ما تراه بعينيها... أنه امامها. هل من المعقول ان يحضر كريس الى كنت وكيف له ان يعرف عنوانها ليلحق بها؟
وقف كريس أمامها بشحمه ولحمه. أجالت بصرها فيه واستقرت عيناها على تقاسيم وجهه فانتابتها للحال رعشة خفيفة. وشعرت بدوار مفاجئ وكادت تسقط على الارض لو لم يتداركها كريس بيديه القويتين ويمنعها من السقوط. فتحت عينيها ونظرت اليه بذهول وهي لا تصدق وقالت بصوت خافت:
-كريس....ربما لم يسمع صوتها وهي تناديه... ولكن السعادة العارمة ملأت كيانها. لقد لحق بها. انها لا تحلم. انه امامها وتستطيع ان تلمسه وتحسه.
-لين؟ آسف لأنني فاجأتك على هذا النحو.
منتديات ليلاس
نظر اليها ملياً. وتوقف عن الكلام. كان يحاول ان يعب بخياله تفاصيل وجهها وتقاسيمه. وأمسك بها ولكنها بسرعة فائقة استجمعت قواها وحاولت ان تخفي حقيقة شعورها نحوه تحت ستار من عدم الاهتمام. وضعت فوق عينيها ستاراً يخفي فرحتها بعودته. ثم تكلمت اخيراً:
-كيف تمكنت من الحصول على عنواني في كنت؟
-بطرق ملتوية وشيطانية. أولاً سألت السيدة التي تسكنين عندها. اخبرتني بعد ان فتشت عن العنوان يميناً ويساراً انها أضاعته، ولكنها أكدت لي انه يقع في كنت وفي شارع يبدأ بحرف (س) واقترحت سفن- أوكس وسوانلي وشورهام. اتصلت بعد ذلك. بماري ولكن السيدة التي تقطن عندها اخبرتني أنها مسافرة وكذلك أخبرتني بأنباء سارة عنها... هل تعلمين انها تزوجت وأنها مسافرة في رحلة شهر العسل؟
-شهر العسل؟ اذن تزوجت ماري. لم اكن أعلم ولكنك تستطيع الآن ان تخبرني باسم عريسها أليس كذلك؟
-نعم. ربما تعرفينه. انه مدير مدرسة ثانوية في ضواحي ميلدنهد. رجل مرح المحيا واسمه توم فارو. أرمل وناجح في عمله. كنت أزوره في مكتبه بعد الدوام المدرسي حين التقيت ماري عنده وسمعت قصتهما.تذكرت لين انها رأتهما ليلة الحفلة الموسيقية يتكلمان سوية في مؤخرة القاعة وقالت:
-اعتقد انني رأيته دون أن انتبه الى انه العريس. كم انا سعيدة من أجلها. واخيراً انتهت الامور معها كما تشتهي.
-أنا اوافقك الرأي. انها فتاة طيبة وتستاهل السعادة والخير... لأعد الآن الى موضوع عنوانك... بدأ اليأس يتسرب الى نفسي ولكن فكرة جديدة لمعت في خاطري. اتصلت بصديقك الصحافي طوني ارنولد وطلبت مساعدته. قال انه لا يعرف عنوانك ولكن لديه صديقاً صحافياً يعمل في كنت في جريدة محلية ويعرف كل اخبار المنطقة ولا يفوته سراً من أسرارها. طلب مني ان أعطيه مهلة يومين فقط ليعود بالعنوان. وبالفعل عاد الي ومعه ستة عناوين لآل هيوليت. ولقد وجدتك اخيراً في عنوان شورهام.
نظر اليها نظرة متفحصة وقد تغيرت تعابير وجهه على الفور وهو يقول:
-أشكرك يا لين على هذا الطقم. انه يلفت الانظار ويلمع وسط الحديقة كالفنار وبفضله اهتديت الى وجودك. لقد عدت خائباً بعد ان زرت ثلاثة من آل هيوليت ولا تتصوري فرحتي حين رأيتك بهذا الطقم الاحمر قريباً من العنوان الذي أقصده.
ابتسم كريس لها ابتسامة عريضة مغرية فقفز قلبها من مكانه. لاحظت لين ان والدتها تقف في مدخل المنزل تراقب باستغراب الرجل الغريب الذي حضر على غير موعد. قالت لين تخاطبه:
-تعال يا كريس لأعرفك الى والدتي. أماه، أقدم لك كريس يورك.
نظر كريس الى والدتها وهي تقف امامه. كانت سيدة تميل الى البدانة قليلاً بل هي ممتلئة الجسم. شعرها رمادي وعيناها حادتان. لاحظ كريس انها تصغر والدته قليلاً.
نظرت اليه السيدة هيوليت باستغراب كلي وهي تقول:-أنت الاستاذ يورك؟ لابد وأنك أصغر بعشرين عاماً مما وصفتك لين.
نظرت لين الى كريس ذات معنى وضحكا على الفور.
-انا لم افعل أي شيء من هذا القبيل يا أماه. انت التي تخيلته على هذا النحو عندما حدثتك عنه.
-يا ابنتي العزيزة، من الواضح الآن ان الذي لم تقوليه هو المهم. أهلاً وسهلاً بك بيننا يا استاذ يورك. هل كانت ابنتي تنتظر وصولك؟
نظر كريس الى لين نظرة ذات معنى قبل ان يجيب:
-لا. لقد حضرت دون موعد.
-تفضل ادخل وتناول الشاي معنا. تفضل الى غرفة الجلوس.
التفتت تخاطب لين:
-نادي والدك ليحضر ويتسلى بالحديث مع الاستاذ يورك بينما تساعدينني في تحضير الشاي.
-اسمي كريس يا سيدة هيوليت.
-لا بأس يا كريس. سأناديك بهذا الاسم كما ترغب. أقدم لك زوجي نورمان. نورمان... هذا كريس يورك.
سر الاستاذ هيوليت من هذه المفاجأة وقال:
-أنت لا تشبهه...
منتديات ليلاس
ضحك الجميع مرة ثانية. مشى والد لين الى النافذة وسأله:
-هل هذه الروفر الحمراء سيارتك يا استاذ يورك؟
أجابت لين بسرعة قائلة:
-انها سيارة سريعة ومريحة وسلسة القيادة.
-هذا كرم منك يا استاذ يورك ان تأتمنها على قيادتها.
-لقد سمحت لها بقيادتها لأنني كنت أثق بها في وقت من الأوقات.
نظرت لين الى وجه كريس ووجدت ان الغضب قد اعتراه. ارتعشت قليلاً وتمنت أن يخفي الأمر عن والدها.
-حسناً يا استاذ يورك. علينا الآن ان نبعد سيارتك عن المدخل لأنني وزوجتي على موعد لقضاء السهرة في الخارج. سأخرج سيارتي من المرآب وتضع انت سيارتك مكانها.
انتظر كريس قليلاً قبل ان يلحق بوالدها الى الخارج. ونادى لين قبل ان تدخل الى المطبخ لتساعد والدتها قائلاً:
-لقد جلبت لك ثيابك يا لين.
ثم خفض صوته كثيراً حتى لا يسمعه أحد وقال ساخراً:
-أردت ان احتفظ بها ذكرى حبيبة لمغامرة عاطفية، ولكنني عدلت عن هذه الفكرة. بعض الذكريات تصبح بلا قيمة مع مرور الوقت وحسب الظروف. الا توافقين؟
وقبل ان تتمكن من ان تسأله تفسيراً لقوله خرج في اثر والدها. بدأت دموعها تنساب دون ارادتها وهي تستغرب من جديد رغبته الجامحة في التجريح. ماذا فعلت له؟ انه سيتزوج انجيلا وهي ستبقى وحيدة مع حبها... دخلت لتساعد والدتها في المطبخ.سألتها والدتها بعد تردد:
-هل هذا الشاب هو الذي سبب لك وجع القلب وعذابه؟
هزت لين رأسها موافقة ولم ترفع نظرها عن الخبز الذي كانت تقوم بتقطيعه.
-وماذا حصل؟
-لقد أخبرتك يا اماه. خطب فتاة غيري واسمها انجيلا كاستللا.
-هل ما تقولين حقيقة (قالت والدتها مستغربة ما تسمع) وهل تقصدين المغنية الشهيرة؟
-نعم يا أماه. انه يعرفها من سنين عديدة. لقد تابعا دراستهما سوية في كلية الموسيقى والفنون الجميلة. كريس يعزف على البيانو منذ فترة من الزمن. ربما تكونين استمعت اليه. انه مشهور جداً في شمال البلاد ويسمي نفسه ماركوس الدرمان.
-طبعاً استمعت اليه. انه عازف ماهر. كما استمعت الى بعض اسطواناته المسجلة.
-ولديه أسطوانات مسجلة؟ لم يخبرني بذلك.
-انه رجل متواضع... هل أنت واثقة من أنه سيتزوج انجيلا؟
-والدته اخبرتني ذلك بنفسها. لقد بحث واياها ترتيبات زواجه المقبل خلال هذه العطلة. وعلمت منها انهم ينتظرون عودة والده من الخارج لإتمام الاجراءات الضرورية.
-انت تذهلينني. انه ينظر اليك بحنان ومحبة صادقة لا تخفى على أحد، ولا يعقل ان يكون على وشك الزواج من غيرك. إما ان يكون مخادعاً أو ان هنالك بعض الالتباس.
بقيت لين صامتة خلال تناول الشاي بينما الحديث يدور بين الآخرين. عادت الى أحلام اليقظة السعيدة. كانت تحاول جاهدة ان تنسى كل لحظات التعاسة التي مرت بينهما، وتسعى لأن تبقي ذكرى هذا اللقاء بينهما من أسعد لحظات حياتها..نظرت والدتها اليها وقالت:
-انا ووالدك على موعد لزيارة آل براون هذا المساء... وانتما ماذا ستفعلان؟
نظرت لين تستطلع رأي كريس بهذا الامر. فقال بلهجة آمرة:
-هل استطيع يا لين ان أحدثك قصيراً في موضوع هام قبل أن ارحل؟
-طبعاً. انا باقية في المنزل ولن ارافق والدي في زيارتهما.
توترت أعصابها من جديد وتذكرت يوم طلبها للاجتماع في مكتب مدير المدرسة. تذكرت كرهها للمفتشين قاطبة ونظرت الى والدتها التي كانت تراقبها بتمعن.
منتديات ليلاس
وبسرعة وتبت لين الطاولة ونظفت فناجين الشاي ونشفتها بمساعدة كريس. كانا يعملان معاً بتعاون وتفاهم. غمرتها السعادة وأحست انهما متوافقان ولن يفرقهما أي شيء في الوجود. ربما سيتبخر حلمها ويصبح أشلاء مبعثرة في خيالها بعد ان يرحل كريس الى الأبد...
جلس كريس ينتظرها في غرفة الجلوس. وتحدث مع والدها بينما كانت والدتها تكمل ارتداء ثيابها للخروج. سر والدها من حديثه مع المفتش وسأله عن طبيعة عمله وسلطاته وواجباته.
جلست لين بالقرب من النافذة تستمع اليهما بفخر واعتزاز. كانت تحلم ان يصبح كريس فرداً من أفراد عائلتها وأحست ان والدها يرحب بوجوده كصهر له.
استجمعت لين شتات افكارها وحاولت طرد هذه الاحلام السعيدة من خاطرها. كان كريس يقف وظهره اليها، ولكنه يملك قوة سحرية في قراءة افكارها دون ان ينظر اليها.
قالت والدتها بعد ان اصبحت جاهزة للخروج:
-وداعاً يا كريس. لقد سررت بلقائك (مدت يدها تصافحه مودعة) ربما نلتقي من جديد.
نظر كريس اليها نظرة معبرة وهو يؤكد لها انهما سيلتقيان. قال والدها مودعاً:
-وداعاً يا بني.
بقي كريس قرب النافذة ويداه في جيوبه يراقب انطلاق السيارة بعيداً عن المنزل. انزوت لين في مقعدها وران صمت ثقيل كأنه ضباب خانق. ارتعشت لين وأحست بالبرودة تلف عظامها. وبعد قليل وجدت انها لن تستطيع ان تحتمل المزيد من الصمت وقالت:
-كريس. هل وصلتك رسالتي؟
أجابها دون ان ينظر اليها:
-نعم. استلمتها. وحتماً لم تنتظري جواباً مني عليها.
-ولماذا لحقت بي الى هنا يا كريس؟ لتخبريني بموعد زفافك ام ربما لتدعوني اليه؟
التفت اليها بسرعة وقد اكتسى وجهه بالأسى وانهال عليها بكلماته القاسية كأنها الطوب.
-سخريتك هذه لن تزيل الجفاء بيننا. ربما تعتقدين أنك المجروحة والمتألمة ولكنني في الحقيقة انا الذي جرح وأهين.
-أنت؟ وكيف؟ لقد أخبرتني والدتك –أنت لم نخبرني الحقيقة- عن موعد زواجك المرتقب من انجيلا...
-أتذكرين يا لين موقفنا العاطفي... يومها أكدت لي انك تثقين بي ثقة عمياء. قلت لك يومها: تذكري كلماتك تلك دائماً يا لين لأنها ركن حصين في طبيعة علاقتنا وارتباطنا في المستقبل... وعند الاختبار وجدت انك لا تثقين بي كما كنت تقولين... اخبريني ارجوك... لماذا هربت من مقابلتي في قاعة المحاضرات في المؤتمر؟ لم تحاولي ان تعتذري او ان تشرحي لي اسباب تصرفاتك غير المقبولة. انا لم أتصورك في يوم من الأيام فتاة جبانة... ربما أردت العودة بسرعة الى خطيبك؟
-خطيبي؟ من تقصد؟
-كيف؟ وهل لديك أكثر من خطيب واحد؟ انني أعني كين مارشال المعلم الذي أخبرت والدتي عنه. هل نسيته؟
-انا قلت ذلك لأنني...
توقفت عن اتمام كلماتها. وما الفائدة الآن؟ كانت تريد ان تقول: قلت لوالدتك ذلك لأنني أردتك ان تنساني وتتزوج انجيلا دون ان يزعجك ضميرك. ولكنها لن تتفوه بكلمة وظلت صامتة.
-هل رأيت كين بعد عودتك؟
-لا. سأتصل به هاتفياً عندما أصل الى ميلدنهد في صباح الغد. سأجتمع به غداً وأخبره جوابي.
-اعتقدت انك اتصلت به...
-لا. لم لأقرر بعد...
-وهل قررت الآن؟
-نعم.
-الظاهر انني حضرت في الوقت المناسب لأهنئك!
-تهنئني؟ على ماذا؟
نظر الى ساعته وقال:
-لا فائدة بعد من بقائي. علي ان أرحل فطريقي طويل.
-ستذهب؟
-نعم. وداعاً يا لين. أشك ان نلتقي مرة ثانية.
مشى بسرعة وحزم باتجاه الباب الخارجي. ولم تتحرك لين لتراه الى الباب، لأن رجليها لم تسعفاها. لم تقو على الوقوف. وابيض وجهها بشدة. كانت تنظر اليه ذاهلة وهي لا تصدق الحقيقة المائلة امامها. سيخرج كريس من حياتها الى الأبد ولن تراه بعد اليوم...
-لماذا نتجادل من جديد يا كريس؟ لماذا ترتفع العوائق بيننا؟
امتلأت مآقيها بالدموع. اغمضت عينيها وغطتهما بيديها وقالت:
-اتمنى لك ولانجيلا حياة زوجية سعيدة. وداعاً وداعاً يا كريس.
-ولكنني لن اتزوج انجيلا يا لين!
نظرت اليه بذهول وكأنها وقعت تحت تأثير قوة سحرية وتمتمت:
-وجوابي الى كين سيكون لا. لن أتزوجه ايضاً.
تسمر كريس فس مكانه. مرت سيارة مسرعة امام المدخل ونبح كلب في الخارج، وغنى طفل صغير في الجوار أغنية سعيدة... عاد كريس ادراجه ببطء. مشى اليها نظرة حانية ويبتسم لها ابتسامة رضى. وفتح ذراعيه ليحتويها قائلاً:
-يا فتاتي الحبيبة. وماذا تنتظرين اذن؟
منتديات ليلاس
شعرت كأن قوة لا مرئية قد جذبتها اليه. ونهضت تلقائياً فرمت بنفسها على صدره وطوقها بذراعيه وهو غير مصدق، يمعن النظر في عينيها ليتأكد. التقت النظرات وتصافت القلوب وغمرتها سعادة لا توصف. لامست شفتاه خديها وأجفانها وجيدها بحنان ورقة لم تعرفها من قبل.
-يا حبيبتي الغالية. كم أحبك وكم اريدك. سأتزوجك بالرغم من كل شيء.
حملها ودار بها فرحاً يكاد يطير والدنيا لا تسعه. ثم عانقها بقوة كادت تخنق انفاسها.
-قولي انك تحبيني كما أحبك. قولي انك ستتزوجينني.تمتمت له بالكلمات التي أراد سماعها وجلس واياها على المقعد. وعاد يعانقها من جديد. مرت دقائق وهما على هذه الحال... وبعد ان استطاعت ان تتكلم بكلمات مفهومة قالت:
-ولكن والدتك اخبرتني انك ستتزوج انجيلا...
-يا حبيبتي الغالية، والدتي كانت مخطئة. ليس من حقها ان تحدثك بهذا الموضوع. انا لم أكتشف ما دار بينكما من حديث الا حين عدت غاضباً الى المنزل بعد ان استلمت رسالتك... أعماني الغضب وصبرت والدتي على ثورتي واخبرتني فحوى الحديث بينكما... وكان لا بد من ان أسامحها في النهاية. كنت قد بحثت معها ترتيبات زواجي المرتقب. كنت أعنيك أنت ولم اقصد انجيلا. لم استطع ان اسميك لها لأنني لم اطلب منك ان تتزوجيني بعد. وكنت أنوي ان اتقدم منك بهذا الطلب ونحن في طريق العودة، ولهذا السبب كنت متشوقاً لمرافقتك... على كل حال لقد تزوجت انجيلا وانتهت مشكلتنا معها.
-انجيلا! تزوجت؟
-نعم تزوجت من مدير أعمالها فرنسيس بولتون منذ اسبوعين. قابلتها الأحد الماضي لأول مرة ولهذا السبب تأخرت عن موعدك ولم استطيع ايصالك الى قاعة المحاضرات كما وعدتك. تزوجا بالسر وقررا أن لا يذيعا النبأ قبل إعلامي به اولاً. سأشرح لك الامر بعد قليل لأنني كنت مرتبطاً بها صورياً في السابق.
مر بيده على شعرها ثم قبلها قبلة حانية فوق جبينها:
-كنا صديقين صغيرين. كانت انجيلا تهتم بمهنتها كثيراً وتود ان تنجح في عملها قبل ان تقبل أي ارتباط عاطفي. طلبت مني ان نعلن خطوبة صورية بيننا على الرأي العام، وهذا يساعدها في مهنتها ويبقي حياتها الخاصة في منأى عن الصحافة والمجلات والأخبار. ومع الوقت اكتشفنا ان هذه الخطوبة الصورية تساعدها في الدعاية. ولما كنت انا خالي الفؤاد رضيت أن ألعب معها هذا الدور. لم أكن بعد قد عرفت الحب والأحلام الوردية فلم أمانع. واخيراً التقيت معلمة اللغة الانكليزية وأنا أقوم بجولة تفتيشية في احدى المدارس... كانت شابة جميلة وذكية للغاية وسلبت فؤادي منذ أول لقاء لنا، يوم اصطدمت بي وضربتني على معدتي... عرفت انها الفتاة التي أرغب ان اتزوج منها.
وبسرعة استدار وحملها من جديد بين ذراعيه. لفت يديها حول عنقه وتعانقا وغابا عن الوعي. ودام الصمت بينهما لفترة طويلة... طويلة.
وبعد فترة نظرت لين اليه بعينيها الحالمتين وقالت:-اخبرني بقية القصة. اخبرني لماذا ابتهجت برؤية انجيلا يوم الأحد في منزل والدتك.
-يا حبيبتي الوحيدة... ان رؤية انجيلا وفرت لي فرصة التفاهم وإياها حول فك ارتباطي الصوري بها. لقد كتبت لها رسالة اخبرها فيها عن حبي لك. كنت أعلم انها تزوجت ولكن والدتي كانت تجهل هذه الحقيقة، وتجهل ايضاً ان خطوبتنا كانت صورية تخدم أهداف النشر والدعاية لانجيلا. ولذلك سامحتها لأنها اخبرتك بأنني سأتزوج من انجيلا... نحن لم نطلعها ابداً على سر الخطوبة الصورية ولذلك ترين صورها في كل مكان من المنزل. هذه الصور تجعل من الأكذوبة حقيقة واقعة... هل تصدقينني؟
-نعم يا كريس. انني أصدقك.
نظرت اليه بدلال وأكملت:
-انا لم اشكرك بعد على دعمك المعنوي لي في محاضرتك بالمؤتمر يوم الثلاثاء... لم أصدق ما كنت اسمع...
-حان الوقت لتتذكري ذلك يا حبيبتي.
وضربها ضربة خفيفة مرحة على قفاها: منتديات ليلاس
-وهل تعرفين انني يوم دخلت صفك مفتشاً وشاهدتك تقومين بعملك التدريسي وجدتك أذكى معلمة صادفتها خلال حياتي المهنية؟ كان الأمل يتدفق منك، وكنت ممتلئة بالآراء الجديدة والحماس المنقطع النظير لدرجة كبيرة. لقد كرست نفسك لهذه المهنة ووهبتها كل عطائك.
-ولكنك تسببت لي في ألم وحزن كبيرين. كدت تفقدني ثقتي بنفسي وبمقدرتي على التدريس الجيد.
-وهل تعتقدين انني لم الحظ ذلك؟ يا حبيبتي الغالية، كنت يومها أجلس مع المدير وأجد نفسي مجبراً على معارضتك... لقد قاتلت بشدة كاللبؤة التي تدافع عن صغارها. كنت تدافعين عن مبادئك وأفكارك الجديدة. وكلما اشتدت مقاومتك كلما اضطررت ان اجابهك بشدة وضراوة. وفي النهاية تحولت الى وحش كاسر قبل أن تعلني الهزيمة أمامنا... وعندما خرجت من الاجتماع ورأيتك تبكين لم استطع ان أضمك بين ذراعي لترتاحي، ولأحميك من الكواسر الذين تحلقوا حولك. وجدت نفسي حزيناً حزناً لا يوصف، وقد أنبني ضميري طلية ليال كثيرة على فعلتي.-ولكن لماذا فعلت ذلك يا كريس وأنت تؤمن مثلي بصلاح ما كنت أقوم به؟
-الظروف أجبرتني على ذلك. نصيحتي لك كانت صرورية في مثل ظروفك. لقد سبقت عصرك بتفكيرك. وكنت شابة صغيرة جديدة متحمسة. ان جهودك الفردية لن تستطيع ان تؤتي ثمارها في محيطك التقليدي. المعارضة حولك من كل حدب وصوب... زملاؤك وبعض الاهالي والرأي العام. كانت جهودك ضائعة كصرخة في واد. زملاؤك المعلمون يتبرمون لأنك تنافسينهم وتتفوقين عليهم بمقدرتك. وهم لا يفهمون طريقتك. كما ان الاهالي يخافون خوض تجربة جديدة لا يعرفون نتائجها مسبقاً، ويخافون على فلذات أكبادهم من تجربة فاشلة. ومديرك لا يحب التغيير ولا يستطيع التأقلم بسرعة... يومها سألتك بكل صدق: لماذا لا تنتقلين الى مدرسة اخرى تتقبل طرقك الجديدة بصدر رحب؟ يومها كنت أرشدك الى الطريق الصحيح... حتى تهكم زملائك المدرسين لم يفتني.
-مرت ساعات في حياتي كنت اعتقد فيها انك تكرهني يا كريس.
-أنا اكرهك؟ أنت أحب انسان عندي. هل تعتقدين انني كنت اتودد اليك بكلمات الحب وتعبير الحنان لو لم أكن لك الحب الخالص، ولو لم أكن جاداً في علاقتي بل وأريد ان أربط حياتي بحياتك؟
-لم أكن أفهم مواقفك على حقيقتها يا كريس.
-لا بأس الآن. لقد أحببتك منذ أول مرة رأيتك فيها. أحببتك وانا اسمعك تقولين لكين انك تكرهيني.... أحببتك بوقاحتك التي لا تحتمل... هل هذا يرضيك؟
نظرت اليه بطرف عينها وقالت:
-وتلك السهرة بعد الحفلة الموسيقية؟-آه. كانت تلك السهرة بداية اكتشافي لحقيقة شعورك نحوي. يومها تأكدت من حبك لي...
حاولت لين ان تتهرب من عناقه ولكنه أطبق عليها دون هوادة. ثم أكمل:
-كان علي يومها ان أعانقك قسراً لأبرهن لنفسي انك تبالينني حبي... ثم رحلتنا الى المؤتمر في الشمال... كان الجفاء بيننا مستحكماً فاستعملت نفوذي ومركزي دون مواربة لأحصل منك على الموافقة. اتصلت بك هاتفياً بواسطة المدير وجعلت الرحلة برفقتي واجباً عليك. قمت بعملية خطف مقبولة يا حبيبتي. وهل تذكرين الحديث الهاتفي الذي دار بيننا؟
-وكيف أنسى؟ كنت ارتعش من الخوف.
-صحيح. ولماذا يا حبيبتي؟
عانقها من جديد ليبدد مخاوفها ثم قال: منتديات ليلاس
-وعندما حضرت لاصطحابك الى المؤتمر ورأيتك شاحبة مريضة حزينة... عرفت انني السبب في كل ذلك. ولكنني في مساء ذلك اليوم شاهدت بأم عيني التغيير الذي طرأ عليك. لقد اختفت التعاسة من وجهك وحلت محلها السعادة العارمة مما أكد لي حبك. كان وجهك يفصح عن حبك للعالم بأكمله.
وفجأة أمسك بسلسلة متدلية من جيدها وقال بجدية:
-لين! وماذا بشأن كين؟ انه شاب لطيف. سيجرح حتماً....
-وماذا أفعل يا كريس؟
-عليك الاتصال به هاتفياً لابلاغه الحقيقة.
كانا لا يزالان يتناجيان حين عاد الوالدان من سهرتهما. نظرت والدتها اليها نظرة متفحصة وقد رأتهما في وضع عاطفي دافئ. وعلقت راضية:
-حان وقت المصالحة. لم أكن لأحتمل تعاسة ابنتي اكثر يا كريس. انا سعيدة بعودتك.
نظرت الى زوجها وقالت:
-نورمان. يظهر ان اجراس العرس ستقرع في بيتنا.
تبادل الحاضرون التهاني والقبلات والتمنيات. ودعته والدتها ليمضي الليل عندهم فقبل دعوتها شاكراً مهللاً. وأخبرهم كريس بالعناء الذي لقيه وهو يفتش عن عنوانهم.
نظر كريس الى والدها وقال ساخراً:
-هل تعلم يا استاذ هيوليت ان ابنتك تكتب رسائل وقحة الى وزارة التربية وهيئة التفتيش العليا؟
ضحك والدها وقال:
-أنا اصدق كل شيء عنها يا كريس، فهي منذ صغرها مدللة وجريئة ومتهورة تفعل ما تريد.
-بحوزتي رسالة هجومية أرسلت الي... (رفع كريس وجهها وأجبرها على النظر اليه) موقعة باسم الآنسة ل. هيوليت. انها الآن مدفونة في شقتي بين أكداس أوراقي الخاصة.
-ولماذا أخذتها معك الى البيت يا كريس؟
-لا استطيع ان اترك رسالة كهذه في ملفات الوزارة في مكتبي. تعابيرها ملتهبة وكادت ان تحرقني. هل تعرفين يا لين انني خجلت من ان أطلع سكرتيرتي عليها؟
تمتمت وهي تخفي وجهها في صدره:
-انا آسفة جداً يا كريس.-لا عليك يا حبيبتي الغالية. لقد سامحتك على فعلتك تلك منذ فترة طويلة.
وربت على شعرها بحنان:
-والآن علي ان أكافئ صديقك الصحافي. فلولاه لم أكن لأستطيع ان احصل على عنوانك وأفوز بك واصبح محسوداً من قبل الآخرين.
قالت والدتها:
-وكيف ذلك يا كريس؟ هل سترسل له علبة سكائر فاخرة؟
-لا. لدي فكرة أفضل. ما رأيك يا لين بأن نسمح له ان يزف بشرى خطوبتنا للرأي العام؟ سأتصل اولاً بانحيلا واتأكد من انها وزوجها لا يمانعان في إعلان زواجهما. ثم نتصل بطوني أرنولد ونخبره بزواج المغنية الشهيرة انجيلا كاستللا وبخطوبة عازف البيانو الشهير ماركوس الدرمان- كريس يورك. سيعلن الأنباء السارة للوكالات المحلية والأجنبية والعالمية ويكسب بعض المال. ما رأيك؟
-عظيم. أوافقك الرأي يا حبيبي.
نادت السيدة هيوليت زوجها وقالت:
-نورمان. أعتقد أن موعد نومنا قد حان. طاب مساؤكما.
وعندما انفرد كريس بلين من جديد سحب الخاتم من اصبعه ووضعه في اصبع لين كعربون لخطوبتهما وقال:
-أنت الآن ملك لي. سيبقى خاتمي في اصبعك حتى أهديك خاتماً من الماس تضعينه مكانه يا حبيبتي الغالية. غداً نعود سوية الى ميلدنهد.
واخذا يصعدان السلالم وأيديهما متشابكة. نظر كريس اليها متحدياً:
-إياك ان تهربي مني مرة ثانية يا لين! لن أحتمل ذلك من جديد.
ثم همس لها بالأغنية التي استحوذت على تفكيره:
-لا تذهبي يا حبيبتي دون ان تخبريني...
تزوجيني بسرعة أرجوك.
عانقها من جديد وقبلها قبلة المساء وقال:
-اخبريني يا حبيبتي الغالية، يا آنسة هيوليت، هل لازلت تكرهين هيئة التفتيش في وزارة التربية؟
قالت بلطف ودلال: منتديات ليلاس
-يا حبيبي استاذ يورك... ربما كان لدي استثناء واحد.النهاية
أنت تقرأ
كيف ينتهي الحلم الكاتبة: ليليان بيك
Romanceفي حياة كل منا لقاء اول. وهو احيانا كالسهم يصيب موضع القلب فيجرح بلا رحمة و احيانا كثيرة يطيش في الفضاء ولا يخلف الا ذكرى عابرة و مريرة او صدى معينا يتقلب في ليل العاصفة ولا سبيل الى الخلاص منه في معظم الاحيان..... كانت الانسة لين هيوليت تتساءل كثير...