8_عود على بدء

5.3K 118 0
                                    

-لين تعالي أعرفك بانجيلا.
نزلت لين السلالم ببطء وسمعته يقول:
-انجيلا. اخيراً وصلت. عملت المستحيل للاجتماع بك منذ وصولي يوم الخميس. كيف حالك يا عزيزتي؟
لف ذراعيه حول خصرها وطبع قبلة سريعة فوق خدها. رفعت انجيلا ذراعيها الى كتفه وقالت:
-عزيزي كريس.
منتديات ليلاس
كان الشعر الذهبي يحيط بوجهها المدور الصغير كالهالة ويتدلى فوق عنقها العاجي. انها في نضوجها أجمل بكثير من صورها في صباها. كانت عيناها تشعان فرحاً وهي ترحب بكريس بحنان وقالت:
-اشكرك على رسالتك يا عزيزي كريس. علينا ان نبحث الأمر بسرعة.
-أقدم لك لين. (التفت الى لين وقال): هذه انجيلا يا لين. انها فعلاً ملاك. انها اسم على مسمى.
-اخيراً قابلتك يا لين! لا تنزعجي لمديحه لي. انه لا يعني شيئاً. هذا من تهذيبه ورقته. كم يسرني ان ألقاك يا لين. لقد سمعت عنك الكثير.
قالت لين في نفسها: كم هي لطيفة ورقيقة. انها خلابة، فاتنة. لا استطيع ان اكرهها مع انها ستحرمني من سعادتي في الحياة وتحطم قلبي.
حضرت السيدة يورك من المطبخ وعانقت انجيلا ورحبت بها. ودخل الجميع الى غرفة الاستقبال. التفتت انجيلا الى كريس قائلة:
-عزيزي كريس. هل استطيع ان اطلب منك خدمة بعد العشاء مباشرة؟ هل تأتي معي لتقيم لي بيانو معروضاً للبيع؟ ان مريان، شقيقة فرنسيس بولتون مدير أعمالي ترغب في شرائه لمنزلها الجديد. لا نستطيع الانتظار طويلاً خوفاً من أن يشتريه أحد قبلنا. وهو موجود في منزل يبعد حوالي الثمانية أميال من هنا.-تعلمين يا انجيلا أنني لن استطيع أن أرفض لك طلباً.
ثم نظر الى لين وقال:
-هل لديك مانع ان اتركك بعض الوقت بعد الوقت بعد العشاء؟ سأعود بسرعة وأوصلك الى قاعة المحاضرات. موعد المحاضرة في الثامنة والنصف مساء اليس كذلك؟
-ارجوك اذهب معها ولا تهتم من أجلي.
وبعد ان ثرثروا قليلاً دعتهم السيدة يورك لتناول العشاء.
كانت غرفة الطعام فخمة ومرتبة وكذلك الادوات الفضية اللامعة. تساءلت لين ان كانت عائلة كريس تعيش يومياً هكذا وتتناول الوجبات وفق الطرق الرسمية.ربما يفضل كريس ان يدير منزله على هذا النحو ايضاً. الشكليات والرسميات ضرورية في حياته. اذا كان الامر كذلك فان انجيلا تصلح لأن تكون زوجة له.
-نحن نعيش في بيتنا دون شكليات او رسميات.
كانت لين واثقة أن كريس لن يزور منزل عائلتها المتواضع في كنت. انه منزل من نمط آخر ويقع في الضواحي.
نظرت السيدة يورك اليها وقالت:
-أنت معلمة. وهل تحبين مهنة التعليم؟
-نعم. أحبها كثيراً يا سيدة يورك. أحببت التعليم منذ نعومة أظافري.
-هذا شيء غير عادي. كيف يمكنك ان تقرري منذ طفولتك مهنتك للمستقبل؟ انك موهوبة اذن. كان كريس يستمع بكل اهتمام الى ما يدور من حديث بين لين ووالدته، قالت لين:
-عندما كنت في السادسة من عمري كان لدي صفي الخاص. كنت أضع عدداً كبيراً من ألعابي بشكل نصف دائري وأضع الطبشور واللوح أمامها، وأقف اعلمها كل ما تعلمته في المدرسة من معلمتي.قال كريس:
-اذن بدأت منذ الصغر. انا متأكد من كونك خلقت لتعلمي.
-انت تقول ذلك؟ وبالرغم من كل ما حدث؟ لا بد وأنك تمزح.
-انا لا امزح ابداً بل أعني ما أقول.
كانت السيدة يورك وانجيلا تراقبانها باهتمام زائد مما جعل الاحمرار يزحف الى وجنتيها من الخجل. وحاولت أن تخفي خجلها وهي تنظر بعيداً عن الجميع. كانت تفكر بتغيير مجرى الحديث في محاولة لوقف المناقشة الدائرة حتى لا تنفضح الامور بينهما.
منتديات ليلاس
شعرت السيدة يورك بأن الموضوع حساس بينهما. وعلى الفور تكلمت في محاولة لتلطيف الجو وقالت:
-هذه الحادثة الطريفة تذكرني بحادثة مماثلة حصلت لابني كريس. بدأ يتعلم العزف على البيانو وهو في السابعة من عمره. وحين بلغ الثانية عشرة عزف في حفلة موسيقية في المدرسة وكذلك في احتفالات موسيقية أقيمت في المنطقة. ولما بلغ الثامنة عشرة عزف منفرداً على البيانو ورافقته فرقة موسيقية كبيرة وشهيرة. وتابع نشاطه الموسيقي بتفوق، فأحرز العديد من الجوائز والميداليات والانتصارات والمنح وفجأة تخلى كلياً عن هذا الحلم.
قال كريس معقباً:
-واذا بحثت الآن عن الميداليات والكؤوس فلن تجدي لها أي اثر. لقد رصت كلها في خزانة مقفلة. ولماذا؟ لأن احداً لا يرغب في تنظيفها من وقت لآخر.
ضحك الجميع ولكن السيدة يورك نفت هذه القصة كحقيقة بل اعترضت ودافعت عن نفسها.
التفتت اليه لين وسألته:
-لماذا تخليت عن أحلامك الموسيقية يا كريس؟
-تسألين لماذا؟
هز كريس كتفيه دون اكتراث ونظر محدقاً في كأسه ثم أكمل حديثه:
-لقد اكتشفت بعد تفكير عميق أن هذه المهنة ليس فيها ضمانة للمستقبل، بل يلعب الحظ فيها دوراً كبيراً. فكرت انه في يوم من الايام سيكون لدي زوجة واولاد وسأبني بيتاً، وسأحتاج لبعض الاستقرار الذي لا يتواجد في مهنة الموسيقار. اخذت أهييء نفسي لمهنة اخرى. بدأت ادرس لنيل شهادة الماجستير في اللغة الانكليزية. وكنت ادرس بعض الوقت وأنا أعمل. صرفت جهداً كبيراً ونجحت في نيل الاجازة التعليمية واصبحت معلماً للغة الانكليزية في المدارس الثانوية. عملت عدة سنوات وحانت لي فرصة ذهبية كي أصبح مفتشاً في وزارة التربية، فتقدمت لتلك الوظيفة وفزت بها. لا تسأليني لماذا ولنني رغبت فيها وحصلت عليها.نظرت انجيلا الى لين وقالت بحزن:
-الآن تعرفين يا لين مدى الخسارة التي أصابت العالم من تخلي كريس عن العزف على البيانو. هل استمعت الى عزفه؟
هزت لين رأسها موافقة وضمت يديها وقالت:
-انا اعتقد انه مدهش في عزفه.
سمعت لين صرخة خفيفة من كريس وهو يعترض على كلامها ولكنها لم تلتفت اليه.
سرت انجيلا بكلامها وقالت مازحة:
-لديك معجبة في بيتك يا كريس. هل ترغبين ان يوقع لك في دفتر الذكريات أم تفضلين الحصول على صورته بتوقيعه؟
ابتسم كريس ابتسامة عريضة ومال بكرسيه الى الوراء وقد وضع يديه في جيوبه وقال بجدية:
-علي ان أفعل شيئاً لك يا لين! ماذا تفضلين؟
التقت عيناه بعنيها وشعرت بارتباك ولم تستطع تفسير نظراته المبهمة. فأسرعت تبعد نظرها عنه. نظرت انجيلا الى ساعتها وخاطبت كريس قائلة:
-الا تعتقد يا كريس ان علينا ان نقوم الى مهمتنا؟
-طبعاً يا انجيلا.
دفع كرسيه ووقف يخاطب والدته:
-أماه نعتذر منك.
وأمسك بيد لين وقال:
-لن اتأخر كثيراً. سأعود لاصطحبك في طريق العودة الى المؤتمر.
وكذلك امسكت انجيلا بيد لين تودعها قائلة:
-انني مسرورة بلقائك يا عزيزتي. الآن بدأت أصدق كل ما سمعته عنك. وداعاً واتمنى لك أطيب السعادة.
-وأنا ايضاً سررت كثيراً بمعرفتك يا آنسة كاستللا.
-أوه. ارجوك ان تناديني باسمي انجيلا مع رفع الكلفة بيننا. ربما نلتقي مرة ثانية... بل أنا واثقة أننا سنلتقي.خرجا يضحكان. وركبت انجيلا سيارتها السوداء الفخمة وسبقته على الطريق. تبعها كريس بسيارته الحمراء المصقولة في طريقهما لمعاينة البيانو.
عادت السيدة يورك الى غرفة الطعام حيث لا تزال لين واقفة وهي تبتسم ابتسامة عريضة في محاولة جاهدة لتخفي حزنها وكآبتها عن والدة كريس.
-هل أساعدك يا سيدة يورك في تنظيف الصحون وترتيب غرفة الطعام؟
-لا لزوم لذلك يا عزيزتي. عندي خادمة تساعدني في هذه الأعمال. ما رأيك ان تنزل الى الحديقة ونتنزه فيها؟ انها جميلة للغاية في هذا الفصل.
خرجتا تتنزهان في الحديقة وسط الورود والرياحين. وكانت الروائح العطرية تملأ الجو عبقاً واريجاً طيباً. هناك بعض اشجار الفاكهة المثمرة بالاضافة الى العرائش المتدلية من الاقواس الخشبية في شكل هندسي بديع. وتوجد في الحديقة بركة واسعة لتربية الأسماك، وفي وسطها تمثال حجري لطفل صغير. وفي زاوية بعيدة منعزلة مساحة كبيرة مستهلكة في زراعة الخضار. وبالقرب منها منزل زجاجي نموذجي لزراعة بعض النباتات الخاصة التي تستوجب عناية كبيرة.
منتديات ليلاس
-انا لا اهتم بالحديقة ابداً. الحديقة من هوايات زوجي الخاصة. انه يعتني بها ويهتم بشؤونها. وهي تسليته الجسمية والعقلية. يساعده عامل على القيام ببعض الاعمال الشاقة ويعتني بها في غيابه. ان زوجي حالياً خارج البلاد في رحلة عمل في جنوب امريكا، يمثل الشركة التي يعمل فيها. الشركة تتعاطى الزراعة وبالأخص التخلص من الاعشاب الضارة. انا وحدي استمتع بعمله في الحديقة وأقدر جهوده.
أخبرتها لين ان والدتها هي التي تقوم بالاعمال الزراعية في الحديقة. وهي تساعد والدتها قليلاً ايام العطل المدرسية... تساعدها في قص العشب الاخضر او تشذيب شتل الورود. ثم اضافت:
-والدي مشغول جداً بعمله. انه معلم مدرسة مثلي ولا يجد فراغاً للتسلية.
-انت اذن مثل والدك.
-ربما. ولكنه يعلم الحساب بينما انا اعلم اللغة الانكليزية. كما انني لا افهم كثيراً في الحساب. وسمع رنين الهاتف فأسرعت السيدة يورك الى الداخل لتجيب. سمعتها لين تقول:
-لن تستطيع ان توصلها الى المؤتمر. أفهم. سأقول لها ذلك. نعم هي في الحديقة... هل البيانو في حالة جيدة؟ اذن زيارتك قد أتت بفائدة. بلغ انجيلا حبي وقل لها أنه يسعدني زيارتها لي في أي وقت تراه مناسباً... نعم سأخبر لين أسفك وسأوصلها بنفسي في سيارتي.
عادت السيدة يورك الى الحديقة وقالت تخاطب لين:
-خابر كريس ليقول أنه اضطر للتأخير في المنزل حيث اشتروا البيانو. قال انه سيذهب الى منزل انجيلا وطلب مني ان أوصلك الى المؤتمر يا لين.
-أرجوك. لا تهتمي يا سيدة يورك. يمكنني العودة بالباص.
-لا يا عزيزتي. هذا غير ممكن. لدي سيارة خاصة بي أقودها بنفسي ويسرني ان اوصلك متى شئت.
-لنذهب الآن. علي ان اسجل بعض الملاحظات قبل بدء المناقشة. ربما استطيع ان اساهم في المناقشة ببعض الافكار البناءة.
-هيا بنا اذن. سأحضر السيارة من المرآب.
وبعد أن انطلقت السيارة بهما في طريق العودة قالت السيدة يورك تحدث لين:
-ارجوك ان تسامحيني لما سأقوله يا عزيزتي. اشعر ان من واجبي ان اصارحك بالحقيقة ونحن في مثل هذه الظروف.
تابعت السيدة يورك كلامها وهي تنظر الى الطريق أمامها بكل حذر:
-ربما أكون مخطئة في تفكيري، ولكنني شعرت انك سعيدة للغاية برفقة كريس:
-أنا لا أعرف ماذا أخبرك ولكنه سيتزوج قريباً من انجيلا.
-هو لم يخبرني بذلك....-كم هو عفريت. لكنهما مخطوبان سراً منذ سنين عديدة. لقد طلب منها كريس الزواج ولكنها فضلت ان تتريث وتبقى دون اي ارتباط. لتصب كل اهتمامها على ترسيخ أقدامها والنجاح في مهنتها. والآن وقد استقرت ونجحت ووصلت الى القمة، لم يعد هناك من لزوم لتأخير الزواج. ولما حضر كريس منذ ايام الى هنا، صارحني بهذا الموضوع وأخبرني أنه سيتزوج في القريب العاجل ولكن الترتيبات الاخيرة تحتاج الى حضور والده ولذلك سيتريث اسبوعاً في انتظار عودته.
نظرت السيدة يورك الى لين ولكنها وجدت انها أخفت كل مشاعرها خلف قناع بارد يخفي وجهها.
وأكملت السيدة يورك حديثها:
-اتمنى ان تتفهمي ما أحاول ان اقوله يا لين، وآمل ان لا يزعجك قولي. اجد ان من واجبي ان اطلعك على احواله وموقفه.
-يا سيدتي. علاقتي بكريس لا تتعدى حدود الصداقة البريئة النقية. نحن صديقان ليس الا. انا أعلم منذ البداية بعلاقة كريس بانجيلا وحبه لها.
تمنت لين ان تنطلي كذبتها على السيدة يورك وان تحافظ على رباطة جأشها وتوازنها.
-الحقيقة انني مخطوبة لأحد المعلمين في مدرستي وسنتزوج قريباً.
-آه. من الواضح اذن ان المسألة محلولة. كم انا مسرورة بمعرفتك يا عزيزتي. انت فتاة عاقلة ومتزنة ولو لم يلتق ابني بانجيلا قبلك لكنت اتمنى من كل قلبي ان يلتقي بك، او أن يقع في حب فتاة مثلك.
وصلت لين اخيراً الى مبنى دالز... مكان المؤتمر. وشكرت السيدة يورك على توصيلها ودعوتها للعشاء. وذكرت لها مقدار سرورها بلقائها وصافحتها مودعة وهي تحاول جهدها أن تحبس دموعها التي كانت على وشك الانهمار.
دخلت لين مبنى دالز وكان بانتظارها صديقها جون هلويك، يحوم في المدخل الرئيسي. وبشجاعة فائقة ابتلعت خيبة أملها وأخفتها خلف ابتسامة عريضة مصطنعة.
التقاها جون وسألها بلباقة:
-هل أمضيت أمسية سعيدة؟دخلت برفقته الى قاعة الجلوس وتذكرت والاسى يعصر فؤادها كيف كانت معاملة كريس لجون خالية من اللياقة. غضبت جداً وتغلب غضبها على حزنها وكآبتها، وظلت على هذه الحال مدة يومين. لقد غرقت في الغضب بدلاً من أن تغرق في الدموع.
وفي صباح يوم الثلاثاء –يوم نهاية المؤتمر- صممت لين تصميماً اكيداً على الابتعاد عن طريق كريس مهما كلفها الأمر.
سألت عن مواعيد القطار الى لندن واكتشفت ان هناك قطاراً سريعاً يترك المدينة حوالي الواحدة بعد الظهر. قررت ان تحجز لنفسها مكاناً فيه. عليها ان تغادر مبنى دالز في فترة انشغال الجميع بالغداء. ستطلب سيارة أجرة وتغادر الحرم بينما يكون الجميع في قاعة الطعام. وسينتظرها كريس في المدخل الرئيسي بعد الغداء دون فائدة. ستكون في طريقها الى لندن حيث منزل والديها في منطقة كنت.
سرها جداً أنها لم تذكر له عنوانها في كنت. لن يتمكن من اللحاق بها. ان كين هو الوحيد الذي يعرف عنوان والديها. وعندما تعود الى عملها بعد العطلة سيكون كريس قد عقد خطوبته على انجيلا وانتهى الأمر ولن تلتقيه بعدئذ ابداً...
منتديات ليلاس
مساء الاثنين كتبت لين رسالة مختصرة الى كريس وقررت ان تعطيها الى السكرتيرة غداً الثلاثاء كي تسلمها له قبل رحيله.
كتبت لين تقول في رسالتها:
-كريس! رأيت ان لا نفع من صداقتنا والأفضل لنا ان لانلتقي من جديد. قررت ان أعود وحدي بالقطار وعندما تتسلم رسالتي سأكون في طريق العودة. أشكرك لصداقتك يا كريس. انت ستتزوج من انجيلا وانا ربما سأتزوج من كين. اتمنى لك كل السعادة.
لين
ملاحظة: ربما تتكرم بارسال حقيبة ثيابي التي تركتها صدفة في صندوق سيارتك. انا آسفة لهذا الازعاج.تمنت لين ان تجف الدموع المنهمرة فوق كلمات الرسالة قبل ان تختلط الكلمات بالدموع...
وفي صباح يوم الثلاثاء وبعد أن تناولت الفطور بسرعة رتبت حقيبتها ووضعتها في المدخل الرئيسي في غرفة المعاطف قرب مكتب الاستقبال. ثم عادت الى غرفتها من جديد تعيد النظر في محتوياتها وتتأكد من أنها لم تترك خلفها شيئاً من أغراضها. أقفلت الغرفة لآخر مرة ونزلت السلالم تريد ان تسلم المفتاح.
كان كريس يقف مع مجموعة من الناس في المدخل الرئيسي للمبنى. يداه في جيوبه ويبدو عليه الارتياح والسعادة. وربما أحس بوجودها لأنه التفت ناحيتها ورفع يده عليه محيياً وبدأ يمشي باتجاه السلالم لملاقاتها. ولكنها أسرعت ترتقي السلالم من جديد، واحتمت في غرفتها. لقد سرت لأن المفتاح لا يزال في حوزتها. دخلت تلهث وقد انقطع نفسها من صعود السلالم بسرعة وارتمت فوق السرير. كانت ضربات قلبها تسرع وقد اضطرب نبصها.
منتديات ليلاس
رأت ان تبقى في غرفتها حتى يحين موعد بدء المحاضرة ومن ثم تنزل ببطء الى قاعة المحاضرات وتنضم للمستمعين دون ان تلفت اليها الأنظار.
وهكذا فعلت. نزلت وجلست بالقرب من جون هلويك. ونهض عريف المؤتمر فعرف المحاضر الاول. نظر اليها جون مبتسماً وهو يؤنبها على تأخيرها، ثم أشار الى المنصة حيث جلس كريس بين المحاضرين وقال:
-أليس هذا صديقك؟
هزت لين رأسها موافقة.هل لاحظ كريس تأخرها؟ لا تعرف! حاولت جاهدة أن لا تنظر الى المنصة حيث يجلس حتى لا تلتقي نظراتهما. وظلت تحق في الصفحة الفارغة أمامها بينما كان المحاضر يتلو محاضرته. سجلت بعض الملاحظات التي وجدتها مفيدة، ولكنها لم تكن جديدة عليها. وبعد أن انتهى من محاضرته، صفق له الحاضرون واغتنمت لين هذه الفرصة فنظرت بسرعة الى المنصة. كان كريس ينظر اليها نظرة تساؤل مستغرباً تصرفاتها وقد وجمت وأجفلت وازدادت ضربات قلبها سرعة.
نهض عريف المؤتمر من جديد وعرف كريس قائلاً:
-نختتم المؤتمر بمحاضرة الاستاذ كريستوفر يورك وعنوانها: لنعط اللغة الانكليزية الحياة...
نهض كريس وبدأ يتكلم بطلاقة وثقة. كانت اين تراقبه وقد تبخرت كل مقاومة او تصميم على كرهه. بل على العكس وجدت انها تشعر بفخر واعتزاز كبيرين. كان متمكناً من قوله وقد سيطر سيطرة تامة على انتباه المستمعين وتفكيرهم.
بدأت الكلمات تدخل عقلها الواعي. لم تصدق أول الامر ما كانت تسمع. كانت تنظر اليه مشدوهة وتحاول ان تقرأ تحركات شفتيه بعينيها حتى تفهم كل كلمة ينطق بها.
كانت كل أفكاره تدعم أفكارها، وكل آرائه في طرق التعليم الحديثة هي نفس آرائها. لقد بذل جهده في تطوير التفكير الجديد لمعلمي اللغة، وحثهم على تقبل الوسائل الحديثة في التدريس. ودعم جهود المعلمين المتخرجين حديثاً والذين يكابدون الأمرين في محاولتهم تطوير طرق وأساليب التعليم بعقلية جديدة رغم المعارضة.
ولفت النظر الى معارضة الأهالي وكذلك الى معارضة المعلمين التقليديين الكبار والذين يجدون صعوبة في تغيير طرقهم واتباع الطرق الحديثة. لقد آمن بكل شيء كانت تؤمن به هي في الماضي، وكانت تظن انه يعارضه بل ينعته بطيش الشباب وتهوره.نجح في أن يجعل الحياة تدب في المؤتمر كله من خلال محاضرته. ثم أكمل يقول:
-انني مفتش في وزارة التربية واستطيع ان أرى الموضوع برمته بشكل عام. انني اراقب الجميع (ضحك المستمعون لتعليقه). يجب ان ترتكز اللغة على وسائل تعليمية حديثة. عليها ان تنطلق بعيداً عن الطرق التقليدية المتبعة والتي عفى عليها الدهر. علينا ان نلتفت الى الطرق الحديثة في التفكير والبحث. وما هو دور المعلم هنا؟ من الواضح انه ليس انساناً آلياً (ضحك الجميع لهذا التشبيه) درب على ايصال معلومات معينة ومبرمجة. يحمل الطبشور في يده وصوته مرتفع ويملك القليل من الخيال. بل هو المرشد والقائد والمراقب، تقع على عاتقه مهمة اذكاء الانتباه وارساء الاهداف السامية واستعمال الخيال الواسع في البناء والعطاء. على المعلم ان يملك الارادة ليستطع التغيير. عليه ان يؤمن بالآراء الجديدة دون شك.
ثم ختم محاضرته قائلاً: منتديات ليلاس
-ان طرق تعليم اللغة يجب ان تتبدل. علينا ان نتخلى عن الطرق التقليدية القديمة البالية ونرتكز على اسس جديدة تتمشى وحاجات الجيل الجديدة... جيل الانفتاح والتكنولوجيا... جيل عصر الفضاء.
جلس كريس مكانه خلف المنصة وسط التصفيق الحاد المتواصل. هلل له بعض الاساتدة من الشباب مستبشرين خيراً بمساندته العلنية لهم ووقوفه الى جانبهم في هذا الموضوع الشائك.
وصفقت لين اعجاباً. نظرت اليه والتقت نظراته المتسائلة. ابتسمت له ابتسامة عريضة كأنها تقول له: اشكرك كثيراً لدعمك المعنوي لي. لقد رددت الي ثقتي بنفسي وايماني بطرقي في التدريس.وبعد ان هدأ التصفيق نهض عريف المؤتمر وأعلن انتهاء المؤتمر التربوي وتمنى ان يكون الجميع قد استفادوا بطريقة او بأخرى من ايام المؤتمر الخمسة الماضية.
تركت لين مقعدها وخرجت مع الآخرين. وأخبرت جون الذي كان يمشي خلفها أنها ستأخذ القطار على الفور. خاب أمله كثيراً لأنها لن تتناول طعام الغذاء برفقته كما كان يتمنى.
-اعطيني عنوانك يا لين. ربما نلتقي في يوم من الايام مع انني اعتقد انك ستتزوجين في القريب العاجل. ومن الواضح الآن ان خطيبك يوافقك الرأي في كل افكارك بصدد التعليم.
صعقتها كلماته وشعرت ببعض التشنج والانفعال. اخيراً... تتوافق آراؤها مع آرائه في وسائل وطرق التعليم الحديثة. ضحكت ضحكة هستيرية وقالت:
-أوه. لا أعرف... ولكنني سأعطيك عنواني.
زكتبت له عنوانها في كنت على غلاف برنامج المؤتمر.
صافحته مودعة وحملت حقيبتها من غرفة المعاطف الى سيارة الاجرة التي كانت تنتظرها في الخارج، بعد أن سلمت مفتاح غرفتها والرسالة التي كتبتها لكريس الى السكرتيرة. ورجتها ان تسلمها له بعد الغداء. نظرت حولها تتأكد من أن كريس لم يرها. ثم دخلت السيارة وأعطت السائق وجهة سيرها وارتمت فوق المقعد مجهدة...
جلست لين في القطار شاردة ساهمة وهو يسرع باتجاه الجنوب. كانت كريشة في مهب الريح تتقاذفها شتى الافكار. تذكرت كلمات الاغنية التي كتبها الشاعر الهندي طاغور والتي تقول:
-لا تذهبي يا حبيبتي دون ان تخبريني....
رددت كلمات الاغنية في عقلها وامتلأت مآقيها بالدموع. لقد ذهبت دون ان تخبره...
كانت عواطفها كالبحر الهائج تتصارع في داخلها، وفي عقلها اسئلة متعددة لا تجد لها أجوبة: لماذا لم يخبرها بخبر خطوبته لانجيلا؟ لماذا كان يتهرب من الاجابة عن اي سؤال حول علاقته بها؟ لماذا نفى حقيقة خاتم الخطوبة الذي كان في اصبعه؟
كانت لين تحدق عبر النافذة ولكنها لا ترى شيئاً. وكان الركاب يمرون بها دون ان تلحظهم.
كان تفكيرها ينصب على كريس: ربما يكون قد انتهى من تناول غدائه، وهو ينتظرها الآن في المدخل الرئيسي. كيف سيكون شعوره عندما لا يجدها؟ هل سيغضب او يثور؟ هل سيفقد رباطة جأشه؟ هل سيسر لأنه لن يتكبد مشقة احتمال رفقتها لساعات عديدة ولمسافات طويلة؟شعرت بالجوع يداهمها. بحثت في حقيبة يدها عن أي شيء تأكله، ووجدت قطعة شوكولاته صغيرة في زاوية حقيبتها. اكتفت بها وفضلت ان لا تتكلف مشقة السير الى مقصورة الطعام. أغمضت عينيها من شدة التعب والألم وغفت لفترة طويلة. واستفاقت قبل قليل من وصول القطار الى المحطة الرئيسية في لندن.
دخلت الحمام وغسلت وجهها بالماء البارد، وحاولت ان ترتب زينتها وتمشط شعرها وبذلك انتعشت قليلاً. وبعد أن وصل القطار الى المحطة الرئيسية في لندن.
دخلت الحمام وغسلت وجهها بالماء البارد، وحاولت ان ترتب زينتها وتمشط شعرها وبذلك انتعشت قليلاً. وبعد أن وصل القطار الى المحطة نزلت تحمل حقيبتها واتصلت هاتفياً بمنزل والديها لتخبرهما بوصولها قبل الموعد.
منتديات ليلاس
دخلت منزل والديها وهي متعبة ومجهدة، وارتمت بين احضان والدتها.
-يبدو عليك الارهاق يا صغيرتي.
نظرت والدتها ورأت دموعها تملأ مآقيها.
-كنت انتظر ان اراك في حال أفضل بعد قضاء عطلة قصيرة في المؤتمر التربوي. تعالي اخبريني ما الأمر؟
أطل والدها من مكتبه ورحب بها قائلاً:
-اهلاً وسهلاً يا صغيرتي. انني كالعادة في مكتبي أصحح دفاتر تلاميذي. اخبريني هل كان المؤتمر ناجحاً؟
-نعم. كان المؤتمر جيداً ولكنه لم يحقق غايته المنشودة.
قالت والدتها بتعجب:
-لماذا أنت متعبة الى هذا الحد؟ هل من مشكلة؟
-لا يا أماه. اريد فنجاناً من الشاي. سأصعد الى غرفتي وأفرغ حقيبتي بينما تحضرين لي الشاي.
-طبعاً. سأحضر الشاي الى غرفتك.
أمطرها والدها وابلاً من الاسئلة حول المؤتمر والمحاضرات. وتحدثت معه بطلاقة وعفوية وقد ساعدها الحديث على استعادة توازنها.
أحضرت والدتها الشاي ووضعته قربها فوق المنضدة وجلست قائلة:
-هيا يا لين. تكلمي واخبريني القصة بحذافيرها.
-اعتقد يا أماه انني لن استطيع ان أخفي عنك أي شيء...
وببطء واختصار أخبرتها لين مقاطع متفرقة من القصة. اختلطت الحقيقة على والدتها لأنها سمعت أجزاء من الحقيقة ولم تسمع الحقيقة الكاملة. ولكنها لم تستفسر منها او تطلب المزيد من التفاصيل بل فضلت أن تتركها على هواها. حاولت ان تهدئ من روعها وأبدت بعض الشفقة على حالها والأمل في عودة المياه الى مجاريها بينها وبين المفتش. ولكن لين كانت تعرف حق المعرفة ان القصة بالنسبة لها انتهت وانطوت صفحتها الى الأبد.
شعرت لين بتحسن كبير في نفسيتها بعد أن افرغت جبعتها وألقت ببعض همومها على كتفي والدتها. ثم التفتت اليها وأخبرتها ان الجوع قد تمكن منها كثيراً. هللت والدتها فرحاً وأسرعت تطمئن صغيرتها قائلة:
-لا تحزني يا صغيرتي. ستنسين هذا الرجل مع الوقت. في المستقبل ستتساءلين لماذا أحببته؟ لقد آلمك كثيراً. لم يكن صريحاً معك، ولا يستاهل حبك ومن الأفضل ان تخرجي من حياته.
هزت لين رأسها موافقة وابتسمت لرأي والدتها.
نامت تلك الليلة ملء جفونها. كانت أحلامها كلها تقتصر على كريس. جرحها لا يزال ينزف ومع مرور الزمن ستشفى من جراحها. وربما ستبقى علامات ظاهرة لهذا الجرح، لكنه سيلتئم وستطوي الأيام ذكرى كريس كذلك.

كيف ينتهي الحلم  الكاتبة: ليليان بيكحيث تعيش القصص. اكتشف الآن