دخلت لين هيوليت بسيارتها إلى مدرسة ميلدنهد للصبيان. خرجت من السيارة ثم اقفلتها بعد أن أوقفتها في الموقف المخصص لسيارات الاساتذة. وأسرعت مندفعة بقوة عاصفة في اتجاه المدخل الرئيسي الذي يؤدي الى البناية التي يقع صفها ضمنها. دخلت الممر الطويل في المدرسة القديمة التي يغلفها محيط أكاديمي ثقيل يشبه الهواء الخانق.
منتديات ليلاس
حملت حقيبة العمل المليئة بدفاتر تمارين التلاميذ بيدها و أسرعت نحو السلالم وهي ترتب شعرها الكستنائي الطويل الذي يتطاير في الهواء. حدقت في الممر الفارغ من الطلاب وعلمت أنها اقترفت الخطيئة التي لا تغتفر....خطيئة التأخير في أسبوع التفتيش. كان شعورها بالذنب عظيما. ارتجفت لا شعوريا وهي تشعر بوجود المسؤولين المتوعدين حولها. أنهم لجنة المفتشين في المدارس التابعة للمملكة البريطانية. كانوا، في اعتقاد لين، يقتحمون المدرسة للانتقاد والتجسس على جهاز التعليم.
استعرضتهم لين في مخيلتها الواسعة قراصنة اسكندنافيين حضروا للتخريب والسلب، ولن يهنأ لهم بال حتى يعرّوا المدرسة من كل حسناتها، ويقيّدوا حرية الاساتذة الحديثي الاسلوب والتفكير دون رحمة. وهذا يطالها مباشرة لأنها معلمة اللغة الانكليزية الوحيدة التي تمارس طرق تعليم حديثة في صفوفها.
هكذا تفهم لين عمل المفتشين. نظريتها لا تستند الى أسس صحيحة، ولكنها في ذهنها ومتأصلة ولن تحيد عنها. انها لم تلتق مفتشا من قبل. ورغم ذلك فانها تتمسك بنظريتها قلبا وروحاً، وليست على استعداد لمناقشتها أو تعديلها. انها المرة الاولى في فترة عملها في مهنة التعليم التي ستقابل فيها المفتشين وتتعامل معهم.
عرفت لين بوصول المفتشين دون ان يخبرها احد. عرفت بوصولهم من الجو غير الاعتيادي والسكون المخيف واختفاء الفوضى في البناية بأكملها. كانت البناية عادة، في ساعة الصبا الأولى، تعيش فوضى منظمة وتعج ممراتها بالحركة والحياة. والصبيان يسرعون بضجة الى الاجتماع العام في القاعة الرئيسية.
صعدت لين السلالم كل درجتين سوية دون اكتراث لما حولها. وجدت نفسها فجأة في اعلى السلالم ضمن مجموعة من الرجال يشكلون نصف دائرة في وقفتهم. وقفتهم سيئة تعرقل المسير. ووجدت نفسها تصطدم برجل من الواقفين دون قصد. رفعت رأسها مرتبكة ووجدت لسوء حظها ان الرجال الواقفين ليسوا زملاءها في سلك التعليم، بل رجال لجنة التفتيش ذوي الوجوه الصارمة الكئيبة، في ثيابهم الانيقة. ويتوسطهم مدير المدرسة الاستاذ بنستون وقد أزعجه وصول صبية جميلة مسرعة كالجرّافة.
رفعت لين رأسها بعصبية ونظرت الى وجه الرجل الذي ارتطمت به. كان المفتش لايزال يرتب ثيابه وقد ارتسم الحزن على وجهه. بدا أصغر سناً من بقية المفتشين، عيض المنكبين فارع الطول، شعرع كستنائي وعيناه الرماديتان عابستان. كان ينظر اليها يقيمها بعينيه الباردتين. رفع يده يستشير ساعته الذهبية الكبيرة في محاولة تدقيق حساب الزمن ومحاسبتها على تأخيرها. تنفست بصعوبة وهي تضبط اعصابها قدر الامكان وتمتمت:
- انا آسفة. آسفة جداً.
خاطبها المدير بصوت خشن كأنه يصرفها لشأنها:
- صباح الخير يا آنسة هيوليت.
ركضت لين تحتمي بغرفة الاساتذة في نهاية الممر.
صرخت تخاطب زملاءها الاساتذة وهم في في طريقهم الى صفوفهم:
- لقد ألغي الاجتماع الصباحي بمناسبة زيارة لجنة التفتيش.
وكأنها تعني: لقد سبقتكم بالتعرف الى اللجنة وتميّزت عنكم!
ألقت بنفسها فوق مقعد. ورفعت شعرها الاسود الطويل عن عينيها العسليتين وأخبرتهم ما حصل معها فضحك الجميع.
- لا تهتمي يا لين. ان لجنة المفتشين ليست غولاً.
قالت ماري رادكليف صديقتها في دائرة اللغة الانكليزية، ومعلمة مثلها.
- انها تجربتك الاولى مع لجنة التفتيش وسوف لا ينتظرون منك العجائب.
- لا. انا لا أصدقك. لو رأيت التقطيب والعبوس فوق وجه المفتش الذي صدمته في معدته هذا الصباح لفهمت قصدي. لو زارني في احد صفوفي لطردني في أول فرصة تسنح له.
قال كين مارشال زميلها الحميم ذو الشعر الأصفر في محاولة جادة لإعادة ثقتها بنفسها:
- لا تكوني مجنونة يا لين! هم لايفعلون ذلك في مهنة التعليم وخصوصاً لمعلمة من الدرجة الاولى تحمل شهادة جامعية بدرجة امتياز مثلك.
نهضت لين وجمعت أغراضها وكتبها وقالت:
- أنت مرتاح يا كين لأنهم لن يزورا صفوفك. فأنت معلم للرياضة البدنية وتعمل بموجب قوانين خاصة محدّدة ولا يتدخل أحد في أسلوبك أو طريقة تدريبك.
هز كين رأسه غير موافق وقال:
- قدّمي محتوى درس اليوم بالاسلوب التقليدي المتبع في المدرسة بدلاً من طريقتك التجريبية.
أجابت لين معترضة:
- أسلوبي ليس تجريبياً. انا أتبع طرقا مجربة نتائجها مضمونة وقد استعملت عدة سنوات في مدارس حديثة يديرها مديرون متطورون بعيدو النظر وليسوا مثل مديرنا......
وقفت لين وفتحت باب غرفة الاساتذة بينم حاول كين وماري ان يسكتاها وهما يشيران اليها اشارات خفية ليعلموها بوجود مجموعة المفتشين قرب غرفة الاساتذة. توقفت لين عن الكلام وشعرت ان مجموعة المفتشين سمعوا صوتها المرتفع والمعترض.اغلقت عينيها يائسة وأسرعت الى غرفة صفها وهي تقول:
- لايزالون واقفين.
كان ضجيج تلاميذها مسموعا خارج الغرفة، وهم صبيان بين الرابعة عشرة والخامسة عشرة من العمر.
-بحق السماء واجلسوا وأهدأوا من فضلكم.
اختفت لين في الغرفة المجاورة التي تستعملها كمستودع صغير تخزن فيها ما يلزمها. جلبت طبشورا وعادت.
-عليكم ان تحسنوا التصرف اليوم والا سيكون وضعي سيئاً. يوجد معنا مفتشون يطوقون المدرسة خلسة. أحدهم سيحضر صفي ليتجسس على عملي. سأخبركم ذات يوم كم أكره هيئة التفتيش وعملها.
صمت الجميع. كانت ردة فعلهم غير منتظرة. وساورها بعض الشك ولكنها عادت من جديد الى غرفة المخزن المجاورة وجلبت المزيد من الطبشور.
وجدت أمامها الرجل الذي لم تكن تتوقعه، الرجل الطويل المتعجرف. كان ينظر اليها بعينيه الرماديتين نظرة غاضبة، يتفحصها من قمة رأسها حتى أخمص قدميها. كان هو بعينه الشخص الذي كادت توقعه صباحاً، حين اصطدمت به فوق السلالم. ارتبكت واحمرت وجنتاها وهي تعتقد انه ربما يكون سمع كل ما قالته لتلاميذها منذ برهة وجيزة. سألته بصوت مرتجف:
-نعم؟ هل استطيع مساعدتك؟
فردد اسمها متسائلاً:
-الآنسة هيوليت؟ اسمي يورك. انا مفتش اللغة الانكليزية. أرغب في حضور صفك. هل لديك مانع في أن اجلس في مؤخرة الغرفة؟
وهل يمكنها أن ترفض؟ ثم أكمل حديثه:
-لا تهتمي لوجودي......تظاهري بأنني غير موجود.
وكيف يمكنها أن تتجاهل وجود رجل مفترس كالنمرمعها في الغرفة!
جلس الاستاذ يورك بصعوبة في مقعد في زاوية الغرفة البعيدة. رتب أوراقه وأقلامه بطريقة منظمة ثم وضع يديه في
جيوبه، ومال يستند الى الحائط خلفه وقد كست وجهه تعابير غاضبة وعابسة بانتظار أن تبدأ الدرس.
أخذت لين نفساً عميقاً وقالت بصوت واضح مسموع:
-هيا يا أولاد. كل منكم الى فرقته. رتبوا أولاً المقاعد كالمعتاد.
رتب التلاميذ المقاعد بشكل جديد بسرعة وضجيج مقبول وفوضى محتملة. كان المفتش ينظر الى أوراقه ويتسلى بالرسم عليها كما اتفق.
-كل منكم يعرف موضوعه. فرقة ألف تعمل في التقرير. فرقة باء مع المسجلة لقراءة الشعر مع الموسيقى. عليكم استعمال الغرفة المجاورة كي لا نزعج بقية الفرق. فرقة جيم في معالجة قراءة هذه الكتب وفرقة دال في الكتابة الحرة والإنشاء.
با المفتش ممتنّبهاً متعجباً وهو يرى كل فرقة تنخرط لفورها في العمل، بينما تمرّ لين بينهم تستمع إليهم تساعدهم وتعطيهم النصائح والارشاد عندما تجد ضرورة لذلك. كانت تجلس فترة مع فرقة تناقش أعضاءها في مواضيع مختلفة وتبدي رأيها المخالف لرأيهم، وتساعدهم في تكوين آرائهم الخاصة. وإذا اختلفوا فيما بينهم، طلبت منهم ان يكملوا المناقشة بهدوء ليتوصلوا الى اتخاذ القرار المناسب.
كانت لين تشعر بمراقبة المفتش الدائمة لها وهي تقوم بعملها. لقد أزعجتها مراقبته لكل حركة من حركاتها. لابد أنه يسجل كل شئ في محاولة لتقييم عملها. إنه يستمع لكل جملة تقولها. لن تسمح له ان يربكها أو أن يجعل توازنها يختلّ. ستعطي أفضل ما عندها ولن تترك له أي مجال لانتقادها.....
بدأ فريق التسجيل في الضحك والتهليل في الغرفة المجاورة. وأسرعت لين لتحاول تهدئة الوضع. وبقيت معهم فترة تستمع لتسجيلاتهم وأشعارهم. وحين عادت ادراجها إلى غرفة الصف وجدت المفتش واقفا يتكلم مع فريق القراءة. كان يسألهم اسئلة ويتصفح الكتب التي بين أيديهم ويراقب دفاترهم وملاظاتهم. تمنت لين ان يتركها وشأنها ويخرج ولكنه بقي حتى نهاية الحصة. شعرت أنها أطول ساعة في حياتها.
قالت اخيراً بصوت مرتفع:
-انتهينا. اعيدوا المقاعد الى أماكنها واحزموا كتبكم وارحلوا.
وقفت لين قرب مكتبها بعد ان خرج آخر تلميذ من الغرفة وقد بدا عليها الارهاق وتوتر الاعصاب. لماذا لم يذهب هو أيضاً؟
تقدم الاستاذ يورك ببطء الى الامام وتوقف قرب مكتبها كأنه يريد ان يتكلم ولكنه غير رأيه وشكرها وخرج.
تراخت جالسة على كرسيها من التعب. كان خوفها من رأيه بها وبتعليمها يشلّ تفكيرها وحركتها. اخيراً انتهت الحصة وخرج فلا موجب للعصبية. ثم ان التلاميذ تصرفوا بطريقة احسن مما انتظرت منهم. لم يخذلوها.... انتهى الكابوس وانتهت حصة التفتيش.... لن يحضر مرة ثانية بعد.
انتهت ساعات التدريس الصباحية وأقفلت لين غرفة صفها. ثم مرت بطريقها على صديقتها ماري وصديقها كين لتذهب بصحبتهما الى غرفة الطعام المخصصة للاساتذة ليتناولوا غدائهم. سألهم كين وهما ينزلان السلالم:
-كيف سارت الأمور؟
أجابت لين:
-أفضل بكثير مما توقعت. لقد تصرف التلاميذ احسن تصرّف.
قاطعها كين مختصراً:
-لأنهم يحبونك....
-.....ولكن المفتش لم يبد أية ملاحظة.
سألتها ماري متعجبة:
-ألم يتكلم معك بعد الدرس؟
-لا. وهل كان عليه ان يفعل؟
أجابتها ماري:
-هذا ما يحصل عادة. يسأل عن المنهاج المقرر لهذه السنة...... لا تهتمي. ربما يكون قد حصل على كل المعلومات التي يريدها من قبل.
هزت لين كتفها كأنها تقول ان رأيه في اسلوب تعليمهاوطريقتها في التدريس لا يهمها. حملت صينية طعامها وجلست قرب ماري وكين هزت لين كتفها كأنها تقول ان رأيه في اسلوب تعليمهاوطريقتها في التدريس لا يهمها. حملت صينية طعامها وجلست قرب ماري وكين.
-انظري من حضر الى هنا......انهم لجنة المفتيشين بصحبة مدير المدرسة.
قال كين مستغرباً وجودهم:
-انه يرعاهم كما ترعى الدجاجة صغارها.
قالت لين بلهجة ساخرة:
-انه يبالغ بالاهتمام بهم وسيقدم لهم طعامهم ايضاً.
-هل هذا الشاب الطويل الأنيق هو مفتش اللغة الانكليزية؟
سألها كين بصوت يكاد لا يسمع:
-لقد رآك يا بطتي. أرجو ان تتصرفي كما يجب.
أجابته بصوت منخفض:
-سيحضر الآن الى هنا ويفسد علي طعامي.
-اعتقد انه شاب لطيف ووسيم ومرح وهو متعلم ومصقول. ماذا تريدين اكثر من ذلك؟
سألتها ماري وهي تراقبه من زاويتها بتأن:
-يبدو في منتصف الثلاثنيات من عمره، مثلي. نسبيا، هو صغير لهذه الوظيفة التفتيشية.
-هل تعرفين يا لين،
قال كين معلقا:
-ان هذا الرجل لا يستطيع ان يبعد نظره عنك..... ماذا فعلت له؟ هل سحرته؟ انه يراقبك منذ دخل الى هنا.
-صحيح؟ هل نقدم له مشهداً ساراً يا كين؟
نظرت لين الى كين نظرة حالمة.
فقطب كين ضاحكاً وقال:
-إذا تابعت نظراتك تلك فسأضطر لمعانقتك أمام الجميع.
-ارجوك ان تفعل يا كين.
وبعبث وخبث قربت نفسها منه اكثر.
قال كين مرتبكاً:
-ابتعدي يا لين أرجوك.
وكذلك انزعجت ماري تصرفاتها المثيرة المصطنعة:
-لقد أعطت تصرفاتك نتائجها. ها هو يركز اهتمامه على طعامه ويشارك اصدقاءه الحديث. هيا لنعد الى مطحنة العمل. لقد انتهينا من طعامنا.
قاموا ومشوا خارجين. وحاولت لين ان تتفادى المرور قرب طاولة المفتشين، ولكن المدير الأستاذ بنستون لمحها وناداها عبر الغرفة.
خافت لين وتساءلت ما الذي فعلت لاستاهل كل ذلك؟
-اهلا آنسة هيوليت.
رحب المدير بها وهو يعرفها الى هيئة المفتشين:
-آنسة هيوليت هي المسؤولة حالياً عن دائرة اللغة لانكليزية في غياب الاستاذ بلاكهام رئيس الدائرة لأسباب مرضية.
ثم نظر الى الاستاذ يورك ليعرفها اليه.
-اعتقد انك التقيت هذا الصباح الاستاذ كريستوفر يورك مفتش اللغة الانكليزية.
هز الاستاذ يورك رأسه بأدب دون ان يرفع ناظريه إليها.
-وهؤلاء بقية المفتشين.
أكمل المدير الاستاذ بنستون تعريفه وهو يسمي كلاً باسمه.
-ربما تتعجبين لماذا ناديتك الى هنا؟ اريدك في مكتبي في الساعة الثالثة إلا ربعا كي نقول بدورة في انحاءالمدرسة مع المفتشين.سأطلب من جميع وؤساء الدوائر ان يرافقونا.ارجو ان تتدبري أمرك لمرافقتنا.
وافقت لين بسرعة وهي تتظاهر بالغبطة والحماس.ضحك المدير كثيرا تحى نزلت نظارته فوق أنفه.وبحركة مهذبة من يده نظر الى لين وصرفها لشؤونها. تركت لين المدير وصحبه وهي تتأسف على الوقت الثمين الذي سيضيع في جولة المدرسة مع فريق التجسس من المفتشين.والمزعج الاول بينهم سيكون الاستاذ يورك بالطبع.
منتديات ليلاس
حضرت صديقتها ماري في الوقت المحدد لتأخذ عنها صفها كي تذهب لين الى المدير وصحبه. وتمتمت لين تخاطب ماري:
-لو كنت انت المسؤولة عن الدائرة بدلاً مني؟
-ولكن درجتي العلمية ليست بامتياز مثل درجتك يا عزيزتي.
أجابتها ماري بهدوء:
-لقد نلت تقديراً يوم تخرجت وهذه النتيجة لاتؤهلني لثقتهم في ادارة الدائرة.
دخلت لين الحمام في غرفة الاساتذة وغسلت وجهها ثم رتبت شعرها وأعادت تزيين وجهها ونظرت الى الرآة تطمئن لجمالها. ألقت على نفسها نظرة رضى وهي تقول: تعابير وجهي المريرة هي التي تؤثر على جمال شكلي....ابتسمت بلطف وقالت: هكذا أفضل، سأبتسم للجميع ما عدا الاستاذ يورك.
قرعت لين باب مكتب المدير ثم دخلت. كانت آخر الوافدين والمرأة الوحيدة بينهم. نظرت العيون إليها باعجاب ونهم، وشعرت لين برغبة في ان تركض هاربة بعيداً عنهم. عم السرور جميع الموجودين بدخولها ما عدا واحداً. أحد المفتشين قال بفروسية: يسرهم ان تكون معهم سيدة شابة جذابة لتضفي لوناً سحرياً منعشاً على تجوالهم في المدرسة.
ضحك المدير معلقاً ثم رحب بها وهو ينحني بأدب:
-حضر الجميع يا سيدتي، رؤساء الدوائر والمفتشون. هل نبدأ جولتنا؟
ثم نظر الى مفتش اللغة الانكليزية وقال:
-يا استاذ يورك. ستكون الآنسة هيوليت بخدمتك.
تحرك الاستاذ يورك وهو يبتسم ساخراً. هل نمشي؟
تمتم وفتح لها الباب لتخرج قبله.
سارا جنبا الى جنب صامتين في الممر الطويل. وشعرت لين بكآبة وهي تتساءل: كيف ستتفاهم مع شخص متعجرف وانعزالي وعنيد مثله؟ بماذا ستتحدت معه؟ عن الطقس؟ رغبت في الضحك وشعرت انها تتصرف بطريقة جنونية. رأت استاذ اللغات مقبلاً نحوهما.
-اسرع يا استاذ ويلكنز!
-هل تعملين في هذه المدرسة منذ زمن يا آنسة هيوليت؟
قفزت لين من نبرة صوته الرزينة الهادئة.
-منذ ثمانية عشر شهراً.
-وعلى افتراض أنك قمت بسنة تدريب.
وتوقف قليلاً. هزت لين رأسها موافقة.
-وهذا يجعلك في الثالثة والعشرين من عمرك؟
ولماذا يسأل عن عمري؟ غضبت ثم اجابته باقتضاب:
-الحقيقة انني في الرابعة والعشرين من عمري.
سره ارتباكها وانزعاجها وقال:
-انا آسف. لا تسأل سيدة عن عمرها!
اضطربت لين ولم تفكر بجواب يصدمه. وارتاحت قليلاً لأنهما وصلا الى مدخل القاعة العامة. فتحت الباب ودخلا. انضما الى بقية المفتشين ومرافقيهم في قاعة الاجتماعات. واحاط بها بعض الموجودين وهي تشرح لهم عن لائحة الشرف للمدرسة. تكلمت عن اللوحات الزيتية المعلقة فوق الحيطان والتي تصور المدراء الأقدمين والشخصيات المهمة التي تنبت مشروع المدرسة ورعته والتي تفخر المدرسة بهم.
شعرت لين وهي تتكلم ان الاستاذ يورك قد ترك المجموعة. انزعجت من تصرفه. وفتشت عنه فوجدته في زاوية القاعة يتفحص الأرغن القديم عن كثب.....انابيبه الذهبية التي ترتفع الى السقف وتغطي اجزاؤها الحائط الخلفي بكامله. لقد استرعى الأرغن كل اهتمامه، وترك اصابعه تعبث فوق مفاتيحه دون ان يخرج صوتاً. ثم جلس على الكرسي الصغير امام الارغن دقيقة او اكثر قبل ان يقف ويعود ادراجه الى المجموعة وقد وضع يديه في جيوبه.
خاطبه احد رفاقه مازحاً:
-انك متشوق لتلعب على الأرغن يا كريس. لماذا لاتفعل؟ المستمعون محجوزون لأمرك ومستعدون للتصفيق فوراً.
ضحك الاستاذ يورك مع صحبه ومال برأسه الى الوراء فبانت اسنانه ناصعة البياض. وجدت لين نفسها تنظر اليه باعجاب وهي تفكر كم هو وسيم! ولكن لماذا تهتم لجاذبيته؟ انه ليس صديقاً. ونظراته العابسة تؤكد عداوته تجاهها وهي تشعر بها بكيانها ادارت لين ظهرها له وهي تكمل شرحها للمجموعة المتحلقة حولها عن التمثيليات التاريخية التي تخرجها دائرة اللغة الانكليزية بمعاونة دائرة التاريخ. وذكرت لهم ايضاً ان دائرة الموسيقى تنظم حفلات موسيقية ممتازة تقيمها في هذه القاعة بالذات. كما وان المدرسة تشجع وتعتز بفرقة شبيبة المدرسة الموسيقية. اكملوا جولتهم بعد ذلك وزاروا مركز الجمباز والاستاد ومختبر العلوم والمكتبة وكل زاوية تستوجب الرؤية، وهذا يعني انهم زاروا وتجولوا في كل مكان. وحان وقت تناول الشاي فدعاهم مدير المدرسة الاستاذ بنستون الى مكتبه لتناوله هناك.
مشوا جميعهم عبر الممر بكثافة اجبرت اي شخص آت في الاتجاه المعاكس لهم على التراجع أو الانتظار. كان اندفاع موكب المفتشين في الممر وهم في طريقهم الى مكتب المدير مثيراً للضحك. ابتسمت لين لنفسها وهي تراقبهم.
حين اقتربت الموكب من غرفة الاساتذة، فتح الباب وظهر كين. وقع نظره على لين وغمز لها مازحاً. ابتسمت له ابتسامة ساخرة وتمنت ان لا يكون احد لاحظ مابينهما. ومع ذلك وجدت ان مفتش اللغة الانكليزية ابتسم ايضاً. وتغيرت تعابير وجهه قليلاً مما يدل غلى انه لاحظ نظراتها العابثة الى كين. وللفور تطلع عبر النافذة يشغل نفسه بالنظر الى الملاعب. وبعد قليل نظرت اليه لين من جديد لتجده قد استعاد تعابيره الصارمة القاسية. واعتقدت ان خيالها هو الذي صور لها ضحكة صامتة في عينيه.حملت لين فنجان الشاي بيد وصحن الكعك باليد الاخرى،ودارت بنظرها تفتش عن مكان فارغ تجلس فيه.امسك الاستاذ يورك بذراعهادون استنذان وقادها الى كرسي مريح في زاوية الغرفة البعيدة.انزعجت لين لأنها شعرت انها العمل وشكرته مكرهة.حمل لها فنجان الشاي والصحن ووضعهما قربها على طاولة صغيرة.
-والآن يا آنسة هيوليت.
وقف الاستاذ يورك امامها مباشرة وقطع عليها الطريق الهرب وكأنه صمم ان يحتفظ بها حتى ينتهي من حديثه معها. وضع احدى يديه في جيبه وحمل فنجان الشاي باليد الثانية. اخبريني.
كانت عيناه الرماديتان القاسيتان تتفحصان وجهها بدقة: وسأكون مهتماً بجوابك.
تكلم ببطء شديد وكأنه يصيغ سؤاله بتأن.
-ما هو الدور الذي يجب ان تلعبه التقاليد في هذا العصر في حياة المدرسة باعتقادك؟
فكرت لين قليلاً. لماذا يستجوبني؟ عبست وهي تشك في الأمر. هل تخبره حقيقة شعورها وتسلمه رأسها وتعرض نفسها للخطر؟ ام تكتفي ببعض الملاحظات التافهة التي لا تؤثر في الموضوع ولا تؤثر في الموضوع ولا تظهر له حقيقة تفكيرها؟ فضلت ان تقول الحقيقة لأنها كانت واثقة انه لن يقتنع الا بها.
-اعتقد ان التقاليد(بدأت تجيبه ببطء) في المدرسة تشبه الدرع الحديدي للجندي المحارب.
-اوه؟ رفع حاجبيه الى اعلى متسائلاً:
-ولماذا؟
ابتسمت له ابتسامة عريضة:
-لأن التقاليد تغلف وتقيد كل شئ تحتويه كالدرع. اذا خلع الجندي درعه شعر بحرية الحركة. ما اعنيه ان على المدرسة ان لا تتمسك كثيراً بالتقاليد بل تتكيف مع النظريات الحديثة في التربية.
حدقت به متمنية ان يحاول فهم قصدها. شعر الاستاذ يورك ان توازنه قد اختل وهو ينظر الى عينيها العسليتين الواسعتين وهي تترجاه.
-هل تقصدين ان التقاليد تقيد الانسان الى الماضي؟
انضم الاستاذ ويلكنز رئيس دائرة اللغات اليهما وبدأ يستمع الى المناقشة وهو يشرب الشاي. وعلق دون استئذان:
-هل تعلن لين افكارها الثورية في التربية والتعليم من جديد؟ هي دائماً معارضة.
فضل الاستاذ يورك ان يتجاهل ملاحظة الاستاذ ويلكنز. ونظر الى لين واصر ان يسمع جوابها هي.
-نعم. هذا ما اقصده. التقاليد تمنع التقدم. الطرق القديمة في التربية كانت دون شك تناسب الزمن القديم. واذا استعملناها لزمن آخر ستكون مفارقة تاريخية في غير موضعها.
-هل تعنين ان علينا ان نهمل كل شئ قديم لمجرد انه ليس جديداً؟
-لا. انا اعارض ان نقيد انفسنا بالتقاليد لمجرد انها تقاليد نعتز بها. مثلاً مدرسة جديدة ومؤسسة تربوية جديدة لاتربط بالتقاليد..... انها تتحرك بحرية دون التزامات بالماضي وبالتالي تتبنى طرق التعليم الحديثة دون شعور بالجرم لأنها لا تقيم وزناً للتقاليد.
-حسنا. لقد شرحت رأيك بوضوح. ولكن هناك شيئاً يذهلني في ملاحظاتك.
كان الاستاذ يورك يتكلم عن قناعة وهو يسألها كالعاصفة:
-بحق السماء! لماذا اخترت العمل في مدرسة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتقاليد وتعتز بتاريخها وماضيها المجيدين؟
شعرت لين كأن ضربة قاصمة قد سددت اليها. هل هذا ما كان يبتغيه من مناقشتها؟ انه ليس صديقاً وما اهتمامه بها الا من اجل الايقاع بها في الشرك الذي نصبه لها كي يستطيع ان يسلخها عن المدرسة.
-هذا ما نطلبه من الآنسة هيوليت دائماً.
قال موجهاً كلامه الى الاستاذ يورك:
-لماذا لاتترك المدرسة –المستنقع العفن- كما تسميها؟
صعقت لين من حديث زميلها وحاولت ان تدافع عن نفسها:
-انا لم اتكلم عن المدرسة هكذا ابداً.
قال الاستاذ سبنسر بهدوء:
-قيل لي انك قلت شيئاً من هذا القبيل......ربما هي اشاعة.
نهضت لين من مجلسها وقد نفد صبرها:
-انا اعمل هنا حباً بالتحدي. الجو الثقافي مشبع بثاني اكسيد الكربون الخانق ونحتاج للأوكسجين النظيف نحقن به الجو لننظفه. يحتاج الجو للتجديد، كما نقول في حياتنا العادية. يحتاج لهواء نظيف، هواء تربوي جديد.
قالت لين بتحد عاصف:
-وداعاً يا استاذ يورك.
ثم مشت باتجاه مدير المدرسة. وقبل ان تبتعد سمعت الاستاذ ويلكنز يضيف:
-حماس تبشيري في غير موضعه.
-شكراً لمساعدتك.
قال الاستاذ بنستون وهو يربت على كتفها بحنان ابوي.
ولم يكن قد تناهى الى سمعه بالطبع اي جزء من المناقشة التي دارت في زاوية مكتبه.
خرجت لين مسرعة دون ان تنظر الى الخلف. مشت عبر الممر الى غرفة الاساتذة. واحست براحة كبرى لأن الغرفة كانت فارغة. فجمعت اغراضها بسرعة وعادت الى منزلها بمزاج معكر للغاية.
بقيت لجنة المفتيشين اسبوعاً في المدرسة. كان المفتشون يدخلون ويخرجون من صف الى آخر مما جعل كل افراد الهيئة التعليمية والطلاب يشعرون بوجودهم بطريقة او باخرى. كانت لين تلتقي عدوها الاستاذ يورك في الممر وتخظى بنظرة غير ودودة منه. التقته مرة خارج غرفة الموسيقى يتكلم مع استاذ زميل. والتقته مرة ثانية يتحدث مع زميل له في هيئة التفتيش. رجل متوسط العمر ومرح. كانت لين في طريقها الى غرفة صفها. تحرك الاستاذ يورك قليلاً ليفسح لها مجالاً لتمر بسلام. لم تبتسم له ولا هو رفع نظره اليها. سلم زميله عليها بحرارة قائلاً:
-صباح الخير.
وسمعته لين يقول للاستاذ يورك:
-فتاة جميلة وجذابة وصغيرة لتتولى رئاسة الدائرة الانكليزية. الا تعتقد ذلك؟
اجابه الاستاذ يورك ساخراً:
-انها صغيرة جداً.
فكرت لين باسئلة الاستاذ يورك وحللتها يتأن فوجدت انها معقولة. شعرت ان غضبها في غير محله ولا يمكنها ان تصبه عليه. كان عليها ان تصب جام غضبها على زملائها الاساتذة الذين تناولوها بأقوالهم امام اعضاء التفتيش بعبارات قاسية وانتقادية. لماذا تلومه؟ هو مستاء لتصرفها وكلما التقته شعرت بأنه لا يغفر لها. يحزنها بل يزعجها لأنها كانت تأمل ان يكوّن فكرة حسنة عنها وعن عملها.
جلست مع ماري وكين وقت الغداء. واخبرتهم ماري ان الاستاذ يورك زارها مفتشاً على احد صفوفها.
سألتها لين باهتمام:
-وهل قدم لك بعض ملاحظاته؟
-تحدثنا طويلاً بعد الدرس. سأل عن المنهاج المقرر واسئلة اخرى. انه شاب معقول ولذيذ. رأيه صائب ومقنع. لقد تحاملت عليه مسبقاً يا لين.
شعرت لين ببعض الحسد وهي تقارن نفسها مع ماري. لقد اعطى ماري اهتماماً خاصاً في تعامله معها معاملة الند للند بينما اهملها هي كلياً..... مع انها تحمل شهادة علمية ارفع وبدرجة امتياز.
كانت سارحة بأفكارها حين لكزها كين في ذراعها. نظرت لترى كريس يورك حاملاً صينية طعامه في طريقه الى طاولتهم قدمت ماري له كرسياً قربها:
-اجلس يا استاذ يورك. اهلاًبك. ما الذي حملك الينا؟
سأله كين وهو يضحك:
-مجاملة لنا؟
-يمكنك اعتبارها مجاملة. لقد استقبلتنا بحفاوة بالغة يوم الاثنين الماضي وانا ارد المجاملة الآن.
لحظت لين انه لا يحب المجاملة والتمجيد. كانت قد انتهت من تناول طعامها وبدأت تشرب قهوتها. نظرت الى صحنها وهي تلعب بالمعلقة وسط بقايا الطعام. لم تفهم لماذا يخالجها شعور بالاحراج لقربه منها. ارتبكت ولم تجد اية كلمة تتفوه بها معه. كان يتناول طعامه ويتكلم مع كين وماري بسهولة وعفوية. اخبرهم عن موطنه في شمال انكلترا وجمال الريف هناك.
-هل زرت شمال انكلترا ياآنسة هيوليت؟
شعرت كأن صوته ايقظها من احلامها.
-يوركشاير؟ لا. ربما ازور المنطقة قريباً. سيعقد هناك مؤتمر تربوي وانا افكر جدياً بحضوره.
-اوه.
بدا المفتش مهتماً للأمر.
-يجب ان تزوري الريف في وقت فراغك اثناء فترة المؤتمر. الأفضل ان تجدي شخصاً يملك سيارة لتذهبي برفقته الى المستنقعات.عليك ان تتجولي مشياً على الأقدام ولا تفعلي مثل الغالبية التي تزور المنطقة بالسيارة فقط. هناك صمت غريب لايمكن ان تكوني قد اختبرته من قبل.
سألت ماري بفضول:
-الصمت هوالصمت! كيف يمكن ان يكون مختلفاً؟
منتديات ليلاس
-لا. للصمت انواع مختلفة. في المستنقعات الصمت ملموس ومسموع. انه كثيف تحسه وتشتطيع ان تلمسه. عندما ارغب في الهرب من كل مشاكلي او احتاج لحل بعضها او يخالجني احساس بعاطفة خاصة....كلنا نمر بمثل تلك الظروف احياناً حتى انا....اذهب بسيارتي واوقفها ثم اخرج لأتمشى اميالاً، اقطع الهضاب وسط السكون الغريب. تأثيره غريب علي كالبلسم الشافي للجراح.
-انا اصدقك.
قالت ماري: هناك عدد من الأديرة القديمة المشهورة في ذلك القسم من البلاد.
-نعم. معظم هذه الأديرة مبنية في مواقع بديعة وخلابة. منها دير فونتان ودير جيرفو. ثم دير ريفو الى جهة الشرق.
ثم نظر مخاطباً لين يحاول اثارتها:
-ولكن هذه الآثار لا تهم الآنسة هيوليت. كل شئ قديم، بالنسبة لها، عبء ثقيل يجب التخلص منه. الجديد هو المرغوب فيه....
قالت بحدة:
-هذا غير صحيح وانت تعرف ذلك يا استاذ يورك!
هز يورك كتفه واكمل شرب قهوته. نظر كين وماري اليها باستغراب وتبادلا نظرات الدهشة. نظر المفتش الى ساعته ثم وقف قائلاً:
-اعتذر. علي ان اسرع. شكراً لرفقتكم المسلية.
ورفع يده مودعاً.
-من الواضح انه يتحامل عليك يا لين. ما السبب؟
سألتها ماري:
-ومع ذلك فهو شاب لطيف ومشوق.
وافقها كين ايضاً:
-يبدوكذلك.
هزت لين رأسها غير موافقة بعصبية وهي لاتزال تشعر بحزن وألم من جراء اتهامه الخاطئ لها.
-بصراحة نحن لن نتفق!
منتديات ليلاس
كان يوم الجمعة هو آخر يوم من اسبوع التفتيش الطويل. كل شئ يسير على غير ما تشتهي لين. اضاعت دفتر الغياب والملاحظات ووجدته بعد عناء وتفتيش مدفوناً تحت اكداس الورق فوق مكتبها فتأخرت عن صفها. ثم اكتشفت ان اقلامها مثلمة وتحتاج للبري فتأخرت أكثر. ركضت في الممر كأنها ارنب يهرب من ثعلب، ولم تراع بذلك القانون الذي سنته بنفسها لتلاميذها: لا تركض في الممر.
وصلت اخيراً الى الصف ودهشت للهدوء المخيم. هي المرة الوحيدة التي تتذكر ان طلاب هذا الصف، وهم بين الحادية عشرة والثانية عشرة من عمرهم، يجلسون في مقاعدهم دون ضجيج في غيابها. مشت الى داخل الغرفة ووضعت كتبها فوق الطاولة. ورفعت نظرها وهي لا تستطيع ان تتنفس. كادت توقع اغراضها على الأرض من شدة ارتباكها. جف حلقها واحست بحاجة لتجلس وتستريح لأن رجليها لاتقويان على حملها. لقد لمحت مفتش اللغة الانكليزية الاستاذ يورك يجلس في مؤخر الصف.
-تابعي عملك يا آنسة هيوليت. تظاهري بأنني غير موجود.
وقف مكانه وخاطبها بكل جدية.
شعرت لين بالمرض. بدأت تسجل الغياب في دفتر الملاحظات وهي تفكر اسئلة تحيرها: لماذا زارها مرة ثانية؟ لماذا يصر على ازعاجها؟ لم يسبق ان زار مفتش معلمة مرتين؟ هل يعني ذلك .... استجمعت لين قواها وبذلت جهداً كبيراً لتتابع عملها.
طلبت من التلاميذ تغيير ترتيب الكراسي وبعد ذلك تجمعوا في فرقهم المختلفة. احس التلاميذ بارتباكها وعدم ثقتها بنفسها وتوتر اعصابها، فاغتنموا كل فرصة سانحة ليثيروا الشغب والفوضى في الصف. لم تستطع ان تضبطهم كما يجب. اذا وقع الطبشور من يدها يضجون بالضحك، واذا نظرت الى دفتر الملاحظات تستشيره كانوا يغتنمون يغتنمون الفرصة للوشوشة والثرثرة. جمع المفتش اوراقه في نصف الحصة وانسحب. وشعرت لين انها بحاجة للبكاء.
كل شئ كان يذكرها بفشلها، وبالتأكيد، هذه نهايتها في سلك التعليم. ما يؤلمها اكثر ان المفتش كان يتناول طعام الغداء على طاولتها في اليوم السابق ولم يذكر لها انه سيزورها مفتشاً صفها للمرة الثانية. ربما لأنه يرغب ان يشاهدها متلبس بالجرم المشهود ولقد نجح.
انتهت دروس بعد الظهر. مشت مضعضعة الأفكار الى غرفة الاساتذة وجلست الى مكتبها. وضعت يدها فوق رأسها وانحنت فوق طاولتها. وحضرت ماري الى غرفة الاساتذة بعد قلبل.
-ما المشكلة يا لين؟
سألتها.
اجابتها بأنها متعبة جداً.
-لك رسالة من سكرتيرة المدير. يريدك في مكتبه بعد المدرسة.
هذا ما كانت لين تخافه.
-عليك ان تذهبي الآن؟
مشت لين تجر نفسها جراً الى مكتب المدير. كانت تخاف ما سيقوله لها. كان خوفها يزداد كلما اقتربت اكثر من المكتب. لم تكن تتوقع ان ترى مفتش اللغة الانكليزية بقامته الفارعة، يحدق من النافذة كأن صبره قد نفد وهو ينتظر وصولها الى الاجتماع.
أنت تقرأ
كيف ينتهي الحلم الكاتبة: ليليان بيك
Romanceفي حياة كل منا لقاء اول. وهو احيانا كالسهم يصيب موضع القلب فيجرح بلا رحمة و احيانا كثيرة يطيش في الفضاء ولا يخلف الا ذكرى عابرة و مريرة او صدى معينا يتقلب في ليل العاصفة ولا سبيل الى الخلاص منه في معظم الاحيان..... كانت الانسة لين هيوليت تتساءل كثير...