سعادة قصيرة العمر

9.2K 183 4
                                    


ذهبت ناتالي تلك الليلة إلى الفراش باكراً . . استلقت مستيقظة لوقت متأخر يدور دماغها في ذاكرة الأحداث غير المعقولة التي مرت بها. خمدت ببطء أصوات النزل و ضجيجه . . خقت بعد ذلك أصوات زحمة السير في الشوارع ، حتى أن الصمت كان شديد الوطأة، ما عدا
منتديات ليلاسأصوات غريبة و مألوفة من البيوت العتيقة . .
كانت ناتالي مستلقية و يديها خلف رأسها ، تحدّق بالسقف . . وارتجفت الآن ، فاستدارت تدسّ نفسها تحت البطانيات. . لقد توصلت إلي قرار. . لن تسمح بوجود تشاد غرايزر أو بدونه ، لأي نوع من الفضيحة التي يحاول نشرها ، أن تمنعها من التعرف أكثر إلي دانيال ويبستر. . كانت طوال حياتها تتوق إلي لأب . . والآن وقد وجدت هذا الأب ، لن تسمح أحد أن يخيفها كي تهرب. وهناك سبب آخر كذلك. . " دانيال" فهو وحيد. . ولا يتمتع بصحبة ابنه أوابنته. . ولم يكن بإمكان ناتالي أن تدير ظهرها لشخص هو بحاجة إليها. هكذا حين اتصل بها في النزل في الصباح التالي، واقترح أن تأتي إلي العشاء معه ، قبلت دون تردد، وسحبت بعضاً من مدخراتها من المصرف ، لتشتري لنفسها تنورة من محل في أسفل الشارع كانت قد أعجبت بها في الماضي ، وكانت منكبة جداً على التوفير فلم تشترها ، هذه الآن مناسبة ، والتنورة لائقة مع سترة حمراء من الصوف المحبوك ، وبلوزة بلون زهري وذهبي ، تزيد التركيز على شطايا الذهب في عينيها . لم يكن زوج أمها يشجع وضع الماكياج ، لكنه لم يحرّمه ، لذا كانت دائماً تضع أحمر الشفاه. . وأدركت منذ قدوها إلي أوكلند، بأن هناك طرق في وضع الماكياج أكثر بكثير من تلوين الشفاه. . استخدمت مزيجاً من اللون الزهري والذهبي على وجنتيها قبل أن تضع ظلال الرموش. . ولامست خديها بفرشاة خدود، ثم استخدمت أحمر الشفاه ، أتبعته بطبقة لماعة. حين وقفت متراجعة تنظر إلي نفسها في المرآة ، لم يبدو لها أن الكثير قد تغير، ما عدا أن عينيها الكبيرتين بدتا أكبر وأكثر لمعاناً وبرز خداها ليزيدا من جمال قسمات وجهها . قالت بصوت مرتفع ، ترفع ذقنها الصغير المربع أمام المرآة: يا إلهي !
دست حذاء جديداً تحتفظ به للمناسبات. . لم تكن مذهلة ، ولا أنيقة أو جميلة ، لكنها على الأقل ، ستبدو لائقة. كانت جاهزة حين وصل والدها منذ عشر دقائق. . وقررت أن لا تقول شيئاً عما جرى في الحديقة . . فهذا سيكدر دانيال فقط ولا تريد هذا . حيّت أباها بابتسامة دافئة ، ورد عليها بمثلها ، مقبلاً خديها:
- لقد حجزت لنا طاولة في مطعم يدعي " فلامنغو" أظنه سيعجبك.
- هل هو كبير جداً ؟
- لا. . بل صغير وودّي.
منتديات ليلاس
رفعت بصرها إلي نوافد المطعم المزينة بستائر مخرمة، وأحست فجأة بالسعادة . . هذا والدها معها . . وسيتعلمان في الأشهر التي ستأتي تفهم بعضهما والتقدير المتبادل ، ليبنيا بحذر الجسر فوق فجوة الحياة التي صنعتها السنين. كانت الأرض بالداخل مرصوفة بالأسود والأبيض ، القماش الأبيض يغطي الطاولات المحاطة بكراسي خشبية بيضاء. . كان الفلامنغو منزلاً قديماً بطابقين، مع جو مرحب عفوي. على كل طاولة شمعة في شمعدان زجاجي، زهور ، وأطباق صغيرة فيها الملح والبهار والزيتون. وكان هناك أيضاً ، تشاد غرايزر مع امرأة أنيقة، ترتدي فستاناً أسود ، تبدلت نظرتها من الإثارة إلي نظرة تكبر، حين لحقت بنظرة مرافقها ورأت من دخل المطعم لتوه. أحست ناتالي بخفقة في معدتها ، وضاقت حنجرتها تحت فم أصيب بالجفاف فجأة. . يالها من صدفة بائسة! وقف تشاد، والتقت نظرته فعرفت أن الأمر ليس مصادفة. . فلقد اكتشف خطة دانيال وقرر أن يقوم بدور الحارس له . . كان يمكن لهذا أن يكون مسلياً ، لولا أنه مؤلم. قال دانيال وقد بدا عليه السرور لرؤيتهما:
- كيف حالك أونا عزيزتي؟ وأنت تشاد. . جميل أن أراكما معاً.
ما أن انتهت التحيات والتقديمات ، حتى استدعي تشاد رئيس السقاة ، وانتقلوا جميعاً إلي طاولة أخى. وجلست ناتالي ، تدرك ببؤس أنها لن تتمكن من تناول الطعام تحت نظرات تشاد ، ولا نظرة أونا المتعجرفة المركزة عليها . وسألتها بصوت ناعم ، مرتفع النبرات قليلاً:
- هل أنت جديدة في أوكلند ناتالي ؟
احست بقشعريرة غضب تضرب بشرتها : أجل .
ابتسمت أونا تعاطفاً. . تخفض رموشها كثيفة فوق عينين لوزيتين:
- أنه عالم كبير مربك هنا . . أيس كذلك ؟
منتديات ليلاس
ردت ناتالي بأدب ، بالكاد يخفي عداءها :
- لا. . بل أجده مثيراً جداً . الناس رائعون ، لكن كثرتهم تذكرني بالقطعان . . أغنام في الواقع ، في القطعان . . وهذا ما أنا معتادة عليه.
تدخل دانيال ليهدئ من نبرة التحدي قي صوت ناتالي وتمسكت أونا بلهفة بما قال . . وبدا أن الثلاثة يدورون في حلقة اجتماعية ضيقة . . كان والد أونا صديقاً لدانيال ، وكان صديقاً أقرب لوالد تشاد حين كان حياً .؟ والجميع يعرف هذا. فكرت ناتالي بإحباط: إنها عائلة كبيرة وسعيدة . . وأدركت أن تشاد وأونا يفعلان ما بوسعهما لإبراز هذا وليجعلا دانيال يحس أن ناتالي لا تناسب مع الدائرة. كانت ناتالي مع كل ذلك تشعر ببعض المشاعر التي تصلها من تشاد . . مشاعر أخافتها . . وأحست أونا دراير بها كذلك. . وقالت شيئاً منخفض ، وضربت أصابعها الزهرية الأظافر يده . . لكنه تجاهلها مركزاً عينيه على ناتالي . . ربما كان ينتظر منها هفوة تجعلها تبدو غبية، ووجدت أنها تكرهه من كل قلبها ، وتكره أونا لأنها تحذو حذوه. . لكنها كانت حذرة في أن تبقي مشاعرها لنفسها . . فقد افسدا أمسية لها ولن تسمح لهما بإفسادها على دانيال. هكذا أصغت بهدوء لأونا تتابع أطراف الحديث . تتحدث طويلاً عن المطاعم الفاخرة التي زارتها في أنحاء العالم. . أحست ناتالي بالدفء في شرايينها ، مما حذرها بأن تتحرك قليلاً كي لا تشعر بالنعاس. وقفت معتذرة وذهبت إلي الحمام النساء، ولحقت أونا بها . . وما إن اختفتا عن الأنظار حتى سقط قناع الحيوية وأخذت أونا تنظر إلي ناتالي بإزدراءٍ متكبرٍ، كان من المفترض أن يجعلها تنكمش . . بشجاعة باردة ، كانت دائماً تهب لنجدتها كلما دعتها ، رفضت ناتالي الاستجابة لاستفزاز المرأة الأكبر سناً . إلي أن قالت أونا ببرود: منتديات ليلاس
-  أتعرفين . . أعتقد أن دانيال بدأ بالخرف . . يا للمسكين العجوز ! أنا لا أتوقع منه أن يطلب الكثير من الحديث منك ، إلا أنك فعلاً غبية، ألست هكذا ؟ على أي حال لا شك ستدفعين ثمن طعامك بطريقة أو بأخرى.
أنهت ناتالي تلوين فمها مجدداً ، وبشرتها تكاد تجف من فرط التوتر ، وردت بلا مبالاة أو أي دليل في صوتها:
- كم أن لك تفكيراً مبتذلاً!
وبينما كانت أونا لا تزال فاغرة الفم، تابعت ناتالي بثقة بالنفس:
- لو كنت مكانك ، لما حاولت العجرفة أكثر من هذا لأن محاولتك تجعل كلماتك غير مترابطة.
- أيتها . . أيتها . .
ابتسمت تتراجع الى الوراء:- الآن سنعرف كيف تتصرف سيدة راقية، كما أعتقد.
ووقفت تراقبها تشد قبضتيها بحقد، تقطع راحة يدها " بالمخالب" الطويلة. وصاحت أونا:
- أخرجي من هنا . . وإلا سوف . . سوف . .منتديات ليلاس
-  أنت متبجحة . . لن تفعلي شيئاً . . لكن تذكري هذا في المستقبل . . إذا كنت لا تستطيعين التحمل فلا تبدئي شيئاً . . أما أنا فلدي أخلاق . . لكن قد يدخل شخص يوماً ما لدائرتكم تختلف تربيته عن تربيتي . . وإذا لم تصوني لسانك فقد تعرفين قدر نفسك بطريقة تحطم غرورك . . مع أن هذا لن يضيرك أبداً . . بالطبع.
خرجت ناتالي بسرعة و برأس مرتفع عالياً قبل تبلور ردّ الفعل عند أونا.
وقف الرجلان ، بحركة تبرز مدى فظاظة تشاد يوم كان يراقبها من المقعد في الحديقة ممدد الساقين. وقابلت نظرته المفترّسة متحدية . . يشعل الغضب عينيها . . فمها مشدود بقوة لمنع الشفتين من الارتجاف . . إنها تحتقره الآن أكثر لإشراكه أونا إلى جانبه، و للحظات بدت مشاعرها ظاهرة . ورأت ناتالي القلق على وجه أبيها فسارعت للابتسام له . . هذا أمر سهل . . لكن كان من الصعب أكثر أبقاء الابتسامة مع عودة أونا . . صحيح أنها لم تقم بهجوم مفتوح . . إلا أنها تجاهلت وجود ناتالي تماماً . . و كان الرجلان سريعين في التقاط التوتر ، و دقيقين تماماً في تخمين السبب.
هكذا كانت بقية السهرة مكبوتة . . و أحست ناتالي بالارتياح حين تحرك دانيال للذهاب ، لكن ارتياحها تحول إلى توتر، حين سمح تشاد لنفسه بمسؤولية توصيلها. - سيارتي متوقفة قريباً من هنا . . أعطني خمس دقائق و سأعود بها .
- لا . . أنا فادر تماماً على السير.
هكذا ساروا معاً إلى السيارة . . سيارة مختلفة . . عملاقة يبدو عليها المال الكثير . .
كان تشاد بالطبع سائقاً ممتازاً . . أتت ردة فعله سريعة أمام سائق أرعن تخطى الإشارة الحمراء، و كادت السيارتان تصطدمان لولا براعة تشاد . . وقفزت ناتالي غير قادرة على منع نفسها من صيحة خوف منخفضة ولا مس على الفور والدها يديها المضمومتين ، و ابتسم لها مطمئناً منتديات ليلاس
استدارت في هذه اللحظة أونا لتلعن بلسانها اللاذع سائق السيارة الأخرى . . و تسمّرت عيناها على أيديهما المتشابكة . . لم تقل شيئاً . . لكنها التوت في مقعدها و على تعابير وجهها أنها تتشوق لأن تخبر تشاد.
للحظات، أبعدت نفسها متصلبة عن الرجل الجالس إلى جانبها، تحس بالغثيان . . لم تقل شيئاً لكنها عرفت أنه فهم و لن يحاول أن يغير رأيها لو قررت الانفصال عنه . . لقد سبق أن قال لها بأنه يحس أن ليس من حقه طلب محبتها أو وقتها.
عادت الشجاعة ، التي ساعدتها طوال السهرة لمساعدتها، مرة أخرى. . دانيال ويبستر هو والدها ولها كل الحق في صحبته . . كل الحق في بناء العلاقة معه. وارتفع ذقنها بدون وعي بحركة كبرياء. . واتخذت فوراً القرار. لكن ، فيما بعد تلك الليلة ، وفي الوقت الفاصل بين الصحو والنوم، أخذت تتساءل عما إذا كان تشاد قد عانق أونا حين أوصلها إلي منزلها. أبعدت خصلات شعر مبللة عن جبينها . ما الذي يهمها لو أن أونا حبيبة تشاد؟ كلاهما كريه، ومتناسبين أكثر من اللازم . لكن تفكيرها لم يدعها ترتاح. . وأكملت تصوراتها لتغفو وتدخل في حلم حلت فيه مكان أونا.
نسيت الحلم لحسن الحظ مع اقتراب الفجر، وصرفت النظر عن الإحساس الذي عرفته واعتبرت أنه مجرد غيرة. وما تبقي منه دفعته إلي دائرة النسيان في دماغها. كانت الأسابيع التي تلت مشحونة . . طوّرت هي ووالدها ببطء روتيناً محدداً. كان يأتي في أيام الصحو إلي الحديقة أو يأخذها إلي الغداء في مطعم صغير أو مقهي. . وثلاث أو أربع مرات في الأسبوع تذهب بسيارة تاكسي إلي منزله ، حيث يقضيان الأمسيات يتحدثان ويصغيان إلي الموسيقي .
منتديات ليلاسويكتشفان بسعادة مشتركة أنهما يحبان الأوبرا ، والمؤلفات العاطفية . . لكن الكتب كان لها أقل اهتمام بالنسبة لناتالي. . ودفعتها سعادته بالقراءة لأن تقرأ أكثر مما فعلت لسنوات، لمجرد أن تتكلم عما تقرأ معه . كان يسلي نفسه بوضع قائمة بأسماء المؤلفات التي يجب أن تقرأها إذا كانت تريد أن تعد نفسها مثقفة . وكان يضحك لانتقاداتها ، ويجعلها تبرّرها ، حتى أنها اتهمته بأنه أستاذ في أعماق نفسه . وعرفت أنه لطالما أراد مزاولة مهنة التعليم ، لكن والديه ارتعبا للفكرة. وأكمل:
- فاستسلمت لهما . إنها قصة حياتي. . فلا تسمحي لأحد أن يدير لك حياتك ناتالي حتى من يحبك . ستجدين عند وصولك إلي النهاية ، أن كل ما حققته هو طموح الآخرين.
- لا أصدق بأنك سمحت لأحد ما بان يدير لك حياتك طوال عمرك. . لم تأت بعد إلي النهاية. . وأنت لست كبير السن جداً .
-لقد تجاوزت الستين. . ولا تحاولي القول إنك لا تعتبرينني عجوزاً . . لأنني أذكر كيف كنت أنظر لمن تجاوز الثلاثين، وأنا في سن العشرين.
-حسن جداً. . وماذا في هذا؟ يحيا الكثرون حتى التسعين. لماذا لا تذهب إلي مدرسة محلية وتعرض عليهم أن تستمع إلي قراءة الأولاد ؟ أو. .
ضحك معلقاً على شخصيتها المنفتحة وأقفلا الموضوع. لكن فيما بعد تذكرته ناتالي وبكت.
تعلمت أشياء كثيرة في تلك الأمسيات . . لكن الأشياء غير المحسوسة التي كان يرشدها إليها ، كانت أكثر أهمية لها واستوعبت دون وعي مواقف وتصرفات ومُثُلْ لم تكن تدركها من قبل. . وعرفت أنه كان يعطيها الثقة بنفسها لتكون نفسها . . ولم تكن ممتنة لهذا إلا بعد وقت طويل. أحست ناتالي أول مرة جاء فيها تشاد بالقلق . . لكنه بدا أنه لا ينوي مهاجمتها في وجود خاله. . وأمضي معظم الأمسية يتحدث إليه ، وكانت تستمع وتجد ، لدهشتها ، أنها تتمتع بلقاء دماغين رائعين.
عرض عليها تشاد في الساعة الحادية عشرة أن يوصلها إلي النزل. لكن دانيال رفض عنها ، فرفع تشاد حاجبيه ولم يقل شيئاً . قال دانيال بعد أن أقفل الباب خلف تشاد :
-لقد كان في أوستراليا في عمل . . وأنا مسرور لعودته، لأنني أتمتع بالكلام معه . إنه يشبه والده كثيراً ، وذكي مثله تماماً ويملك إحساس بالمرح كان يفتقده والده . . أنت لست معجبة به. . أليس كذلك ؟
-ليس كثيراً . . أنه مخيف. . قليلاً.
ضحك دانيال.
-أنت لا تظهرين هذا . . إنه يأتي لرؤيتي مرة في الأسبوع على الأقل . . ويخفي تحت ذلك القناع المتسلط قلباً لطيفاً.
ربما . . لكن بكل تأكيد ليس بالنسبة لناتالي. . أملت أن لا تتناسب أمسية زيارته اللطيفة مع زيارتها . . إلا أن زيارته لمرة في الأسبوع أصبحت مرتين، وفي بعض الأحيان ثلاثة . . وذكرت لوالدها مرة أنها بالكاد تراه وحده الآن ، ورد عليها دون التزام بحيث أدركت أنه يريد هذا ، أو على الأقل يتقبله. هكذا أجبرت نفسها على تجاهل الاضطراب الذي كان يسبّبه تشاد لها . . وكانت جهودها أسهل مع واقع أن تصرفه نحوها لم يتغير . . كان يعاملها كابنة خال صغيرة ، وحدها الاتهامات في عينيه تكشف عن رأيه بها. . كان من الواضح أن دانيال يتمتع بهذه المناسبات ، لذلك تحملتها ناتالي. . ثم استدعيت ليلة سبت إلي الهاتف ، وكان تشاد.
قال دون مقدمات:
-مات دانيال منذ ساعة.
لم تندهش ناتالي . . صحيح أنها صُدمت وفُجعت، لكن في عقلها اللاوعي كانت تتقبل الأمر . أحست بالعذاب كحد السكين، وضغطت يدها على قلبها.
-ناتالي ؟
كان صوته نافد الصبر . . فردت كالمخدرة:
-نعم . . أنا هنا . . ما سبب موته ؟
- نوبة قلبية. . لقد حذره الأطباء بأن لا يجهد نفسه. . ولنأمل أن لا تكوني أنت قد قتلته.
عرفت لماذا هو شرس هكذا. . وأحست بالألم الفج ، والحزن في صوته العميق .
سألت : متى الجنازة ؟
- صباح الثلاثاء. . وهذا سبب اتصالي . . أنت قطعاً غير مرحب بك في الجنازة.
منتديات ليلاس
ردت دونما تعبير : بالطبع لا. وأدركت أنها تبكي . . لم تكن تنتحب ، بل مجرد دموع صامتة تجري على وجهها . وتابع صوت تشاد دون رحمة:
- على أي حال، أنت مستفيدة في وصيته. . سآتي لآخذك يوم الأربعاء وقت الغذاء.
ابتلعت ريقها بصعوبة ، تحاول التخلص من غصة قاسية في صدرها:
- لا داعي لتزعج نفسك . . لن أذهب معك.
قاطعها :
- أوه. . وفري عليّ مشهد التنسك هذا . . كوني حاضرة . . سنتناقش الأمر يومها .
صمت الهاتف ، وقفت ناتالي بغباء والسماعة التي لم تعد لها نفع في يدها مضغوطة على أذنها . . ومرت بها فتاة توقفت تنظر باستغراب نحوها :
- أخبارٌ سيئة ؟
أدركت ناتالي كيف تبدو وردت وهي تعلق السماعة : أجل .
- أتريدين فنجان شاي أو شيء ما ؟
كانت الفتاة تحاول المساعدة ، وأحست ناتالي بالدفء نحوها ، فقالت :
- لا. . سأذهب لأستلقي قليلاً . . ليس بالأمر المهم .
لكن الفتاة بقيت قلقة عليها . . وأطلّت إلي الغرفة بعد ساعة مسؤلة النزل وهي امرأة متوسطة العمر ، وسألتها عما إذا كان هناك من شيء قد تفعله لأجلها ! كانت ناتالي مستلقية على سريرها جافّة الدموع :
- لا شكراً لك . . أنا . . أنا بخير الآن .
منتديات ليلاس
- موت ؟
- أجل .
- قريب ؟
- أجل .
وأكملت لنفسها بسخرية " مجرد أبي . . أبي الذي ما عرفته سوي لمدة قصيرة". ظهر إعلان الوفاة في الصحيفة مع مقالة صغيرة عن حياة دانيال . . قصّت ناتالي الإعلان والمقال ، ثم ذهبت إلي المقبرة ووضعت هناك وسط الأكاليل الضخمة من الزهور ، باقة صغيرة متواضعة دون بطاقة عليها . ز وانهمرت دموعها مرة أخرى . . لكنها كانت قد بكت معظم حزنها واستعادت بعد بضع دقائق سيطرتها على نفسها ، وعادت بالباص إلي النزل. كان تشاد يجلس حين خرجت من العمل يوم الأربعاء في سيارته بنهاية الشارع . . وخرج منها هذه المرة وهي تقترب وقد بدت تعابير وجهه متجهمة وهو يبحث في وجهها . . لم تكن في أفضل حال . . كانت تعرف أنها متعبة، لكنها أعطته نظرة بنظرة ، تري دلائل محبته لخاله في بروز عظم فكه تحت جلده وتلاشي كل البريق من عينيه ، وكانتا سوداوتين باردتين .
قال وهو ينطلق بالسيارة :
- لقد حجزت طاولة غداء لنا .
كان المطعم أنيقاً ومن الواضح أنه معروف جداً هناك ، وبعد أن قام السقاة بما عليهم قال تشاد بصوت حاد:
- لقد احتفظ دانيال بمال في المصرف لمصلحتك . . وترك لك المنزل ، ومجوهرات جدته.
منتديات ليلاس
صدمتها السخرية في صوته . . وابتسمت سعيدة لأن والدها كان عطوفاً بما يكفي ليترك لها شيئاً هو ملك لناتاليا الأولي. . لقد أخبرها الكثير عن تلك المرأة القوية الصغيرة الجسم التي كانت الشخص الوحيد الذي أحبه في صغره.
قال تشاد موبّخاً :
- راضية؟ ليس بهذه السرعة ناتالي لأن ولديّ دانيال سيطعنا بالوصية ، وإذا رُفضت قضيتهما أبقي أنا وصيك الوحيد . . وأنا أسيطر في الواقع بالضبط على كل ما تحصلين عليه من الوصية . . وهذا سيكون قليلاً جداً ، قدر ما أستطيع . ومجوهرات جدته هي مجرد قطع متواضعة ، كلها بالكاد تصل إلي قيمة قطعة مجوهرات قيّمة.
اشتعلت شرارات الذهب في عينيها لتغرقهما :
- أهذا كل ما تريد أن تقوله لي ؟
- أليس ما كنت تأملين به ؟ أجل هذه حصتك من كل شيء. .
-إذن أنا واثقة أنك لن تمانع لو تركتك .
حاولت الوقوف بأدب ، وأمسكت يده بسرعة بمعصمها قبل أن يقول من بين أسنانه:
-لا . . الآن لا يعرف أحد ماذا أفعل . . وتظن تلك المرأة البدينة هناك بأنني أمسك يدك تودّداً . . حاولي بحركة واحدة أخرى أن تتركي هذه الطاولة وسأظهر للجميع هنا شيئاً يتكلمون عنه لأشهر طويلة.
أرتبكت للحظات . . كان وسيماً في بذلته القاتمة ، عملي المظهر . قد يرتدي الرجال مثله ، لكنهم لا يفعلون شيئاً مما تهدد به عيناه. مع ذلك استكانت في مقعدها ، وأطلقت أنفاسها طويلاً في تنهيدة.
قال : فتاة طيبة.
رفضت بعد هذا أن يكون ردها أكثر من كلمة واحدة. . لكنه أجبرها على البقاء ، وكان يأكل بينما هي تدير العجة في طبقها . . ثم قال ساخراً :
-هذه المرأة البدينة الآن مقتنعة تماماً أننا حبيبين.
جالت عينا ناتالي بشكل مهين على شكله ، ثم نظرت إلي نفسها تسأل بأدب :
-حبيبان ؟ وهل يحب رجال مثلك أمثالي ؟
لامست وتراً حساساً فيه . . لامسته ؟ بل طعنته برمح ! فقد شحب وجهه ، وهي تراقبه مذهولة ، واشتد فمه إلي خط مستقيم حاد قوي.
وصل في تلك اللحظة رئيس السقاة ، وتوقف ليسأل ما إذا كان كل شيء على ما يرام . . وأسعدت ناتالي محاولته إجبار نفسه للسيطرة على غضبه قبل أن يرد على الساقي بالإجاب . . وما إن عادا لوحدهما حتى وقف وأخرجها من المكان وأصابعه القاسية على ذراعها . لم يقل شيئاً في السيارة ، سوى : سأتصل بك .
وانطلق مبتعداً. عادت ناتالي إلي عملها وكأنها أمضت ساعة الغداء تتلمس طريقها عبر حقل ألغام . . وبدأت تقلق على " بتسي" وهي في طريقها إلي النزل . لقد قال لها دانيال إن ولديه الآخرين ، لا يحبان الكلاب. . ولا شك أنهما وجدا مكاناً آخراً للكلبة الصغيرة ، ثم وجدت نفسها في الباص متجه إلي هناك . . كانت إحدى جارات دانيال تحب الكلاب ، ولا شك أنها تعرف مصير بتسي. منتديات ليلاس
كانت بتسي في الواقع عندها.
- حين كانوا على وشك التخلص منها ، اضطررت لفعل شيء . ترك رجال النقل البوابة مفتوحة ، وكانت المسكينة تجري في كل اتجاه وكأنها تبكي على السيد ويبستر . . فجئت بها إلي هنا واستبقيتها .
- دفعت ناتالي يدها في شعرها :
- - ماذا . . أنا آسفة . . لكن أي رجال نقل ؟
- عزيزتي ؟. . كانوا في الصباح التالي لموت دانيال . . وخرجت أنظر إليهم . . تسمعين قصصاً كثيرة عن جرأة هؤلاء اللصوص هذه الأيام . . لكنهما كانا هناك . . لذا كان كل شيء على ما يرام. . رغم أن الأمر لم يكن لائقاً !
- هم. . من ؟
- ولداه . . السيدة غاردنر وريتشارد ويبستر . أخذا كل شيء ، ولم يزعجا نفسيهما حتى بالتنظيف قبل رحيلهما . . لكنني نظفت قليلاً المكان . .
انحنت ناتالي تمسح رأس بيتسي : - ألديك مفتاح سيدة مونرو ؟
- أجل . . لدي مفتاح ، لقد سلمني إياه السيد ويبستر حين كان يسافر لأرعي بيتسي . . لكنني الآن مضطرة للسفر عند ابنتي ولا أعرف ماذا أفعل بشأن بيتسي . .
أحست ناتالي بالجسم الصغير الدافئ يضغط نفسه على ساقيها وأعطاها غضبها الشجاعة :
- سآخذها . . في الواقع ، وإذا أعطيتني المفتاح ، سأسكن في المنزل . . فقد تركه السيد ويبستر لي .
منتديات ليلاس
اتصلت ناتالي برقم منزل تشاد ، وبعد أن رد عليها صوت يشابه صوته ، ربما أمه ، رد عليها :
- ماذا تريدين ؟
أخبرته بما حصل ، وبقرارها أن تسكن في منزل دانيال . . لكنها لم تقل له شيئاً عن نقل الأثاث . فهو على الأرجح يعرف هذا ، وموافق عليه.
رد عليها باقتضاب:
- ليس لك حق قانوني إلي حين تثبت وصيته.
- لا أهتم. . سأنتقل إليه. . فإذا كسبتم القضية سأتركه. . وأكون حتى ذلك الوقت ، قد وجدت بيتاً لبيتسي.
ساد صمت قصير ، وتصورته يعبس مفكراً بما سيفعل ، قال أخيراً :
- حسناً . . سأتحمل المسؤلية . . لكن تأكدي من أن يكون معك مال يكفي لدفع الإجار الذي سيُطلب منك إذا ربحوا القضية.
- يا لهما من ولدين ساحرين. . أليس كذلك ؟ ولا شك أنك تشجعهما .
- هل خاب ظنك ناتالي ؟ ماذا. .
جاء من مكان ما صوت امرأة. . لم يكن صوت أمه اللطيف ، بل صوتاً مميزاً ، أونا دراير. ضحك تشاد لقولها وأجابها :
- سأكون معك في دقائق حبيبتي.
قبل أن يكمل كلامه المهين لها قالت ناتالي:
- هل لك لو سمحت أن تشرح للسيدة مونرو أن كل شيء على ما يرام ؟ . . أرجوك.
- أوه . . حسن جداً .
انتقلت إلي المنزل في نهاية الأسبوع . .
منتديات ليلاس
وصرفت مدخراتها لتشتري سريراً بسيطاً ، وما يكفي من أغطية كي لا تتجمد برداً . . لم يكن هناك شيء في المنزل عدا كومة بسط قديمة متروكة في الكاراج، والرفوف المثبتة التى لم يستطيعوا خلعها ، واختفت أيضاً أدوات الحديقة . اشترت صباح السبت سكيناً زملعقة وشوكة ، وبضع أدوات مطبخ ، مع بضعة عظام لبيتسي . .
كانت بوجه عام ، نهاية أسبوع حافلة . وضعت بعد ظهر السبت الرباط على بيتسي لتخرجها في نزهة طويلة طويلة. . وكانت كلبة لا تزال حزينة على دانيال . . وأظهرت موافقتها بالقفز والنباح. كان الهواء البارد منعشاً ، هادئاً بعد توتر الأسبوع المنصرم. . وأهملت ناتالي مراقبة الطقس . كانت والكلبة على بعد نصف ميل من المنزل في طريق العودة ، حين بدأ المطر ينهمر . . ولم يكن هناك مجال لأي ملاذٍ لهما . . وزاد انهمار المطر وكانت كل نقطة تضرب بقوة . . وأصبحت ناتالي قبل أن تركض لخمسين يارداً ، مبلّلة حتى العظام يرتجفان بشكل بائسٍ.
لم تستطع منع نفسها من نظرة الأمل حين توقفت سيارة إلي جانبها . . وسرعان ما أجفلت فقد كان السائق هو تشاد غرايزر، وهو من فتح الباب لها .
قال آمراً: أدخلي .
هزت رأسها :
- أنا مبللة أقطر ماء ، وكذلك بيتسي. ولم يعد المكان بعيداً الآن!
صاح :
- أدخلي أو أُجبركِ .
بدا غاضباً بما يكفي ليفعل ما يهدد به . . وتسلقت ناتالي إلي الداخل تحمل بيتسي بين ذراعيها ، لمنعها من أن تنفض الماء عنها داخل السيارة الفخمة.
قالت :
- است بحاجة إلي. .
منتديات ليلاس
قاطعها بوحشية :
- أصمتي . . أتسمحين ؟
وكان هذا كل حديثهما إلي أن توقف قرب كاراج المنزل .
- افتحي الباب . . أنت مبللة ، أما أنا فلا . . أوجدي لي بساطاً أجفف به السيارة . لو سمحتِ. .
- اسمع . . لم تكن مضطراً لالتقاطنا في سيارتك . .
قاطعها ثانية لكن هذه المرة من بين أسنانه :
- افعلي ما أقوله لك. . وبسرعة.
أسرعت . . وأحضرت له منشفة قديمة تخلي عنها ولدي دانيال . . وكان المكان داخل الكاراج مظلماً فأدارت مصبابيح الفلورسنت ، تراقب بيتسي تنفض نفسها بحماسة . . ثم قال تشاد :
- ارتدي ثياباً جافة ! وسأهتم بالكلبة اللعينة . . استحمي بماء ساخن.
حين بدأت تظهر التمرد ، هددها :
- وإلاسأفعل هذا بنفسي. منتديات ليلاس
هربت وكأن وحشاً مفترساً يطاردها . .
كانت حين نزلت مرة أخرى بعد عشرين دقيقة ، ترتدي تنورة صوفية حمراء، وقميصاً صوفياً من اللون عينه ، طويل الأكمام. كانت خصلها المبللة تحيط برأسها ، وتجعلها تبدو في سن لا تزيد عن الستة عشر عاماً .

شمعة تحت المطر_للكاتبة روبين دونالدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن