ستكونين لي

8K 178 2
                                    

عاد تشاد بعد ظهر يوم الجمعة ، حاملا معه الوثيقة لتوقعها ناتالي . . وأوحت لها نظراته بأن الهدنة التي فرضها مرضها قد انتهت . قال لها بعد انتهائه من قراءة الوثيقة :
- هل أنت واثقة أنك لا تريدين تكليف محامٍ خاصٍ ليتفحصها لك ؟ فقد أغشك دون أن تعلمي !
- أشك في هذا . . فقد كان دانيال يثق بك كثيراً. .
منتديات ليلاس
لم يتفوه بشيء ، لكن ما لمع من تحت رموشه الكثيفة . . وتحركت الكتفان العريضتان بعد لحظات :
- وقّعيها إذن . .
فوقعتها . . وعلق شيء في حلقها فابتلعت ريقها غصباً . وقالت بأنفاسٍ متقطعةٍ: أترغب بفنجان قهوة ؟
لا. . شكراً لك .
إذن . . شكراً لك .
على ماذا ؟
تنفس بحدّة . خافت من النظر إليه ، وقالت بسرعة :
- لأنك كنت لطيفاً معي حين كنت مريضة .
- لطيفاً ؟ ذلك لم يكن لطيفاً معي حين كنت مريضة .
- لطيفاً ؟ ذلك لم يكن لطفاً ناتالي . . ولا تتظاهري بالسذاجة فالمرأة التي تبيع نفسها لرجلٍ خرفٍ عجوزٍ ، لا يحق لها أن تتبني مواقف البراءة .
منتديات ليلاس
إنه يسعي لمعركة . . كان على مظهره وحشية أفلتت من كل رباطٍ ، أخافها . . فتحت فمها لترد الازدراء بازدراء مماثل ، لكنها رأت نظرة الانتظار الغريبة في عينيه ، وأدركت مع رعشة الخوف ، أنها لن تستطيع . . فردّت بهدوء :
- لكنك كنت لطيفاً .
واستدارت نحو الباب لتُظهر بوضوح أنها تريد رحيله . لكنه قال :
- إذن . . ربما أستحق بعض المكافأة على لطفي هذا . .
- لا تزعج نفسك . . فأنا أعني ما أقول . . دعني وشأني فقط .
- أفكر أحياناً بأن ضربك قد يفيد كثيراً .
- جرب ، وستري أين يصل بك هذا .
تصاعد التوتر مع لحظات الصمت ، لكنها رفضت النظر إليه . . قال بعد صمتٍ ، متعالياً :
- حسن جداً إذن . . تمتعي بالإشفاق على الذات . . وأرجو أن تكوني في مزاج أكثر تعقلاً حين أراك في المرة القادمة .
سمعت وقع قدامه ، خفيفة لرجل يماثل حجمه وقوته . . قال عند أسفل السلم شيئاً لبيتسي ثم صفق سيارته يبتعد . . لكن تعليقه حول الإشفاق على الذات كان يمنعها من الانغماس في البكاء . . وبدت في النهاية مصابة بصداعٍ وتورم في العينين . . استحمت وغسلت شعرها . . أعدت لنفسها حليباً ساحناً وأخذت قرصين من الأسبرين ، قبل أن تستلقي في سريرها لسعات وهي تفكر .
لا. . ! لا تحبه . . ولن تحبه أبداً . . فالحب لطف ورقة ، ومشاركة زعطاء . وما تحسه نحوه هو مزيج زئبقي مجنون من السحر والرغبة والكراهية .
ارتجفت وهي مستلقية في سريرها تفكر به ، وأحست بألم واشتياقٍ. . وهنا يكمن الخطر . ز الخطر في المشاعر التي تمدّد جذورها كالجوع المزمن لا يمكن لأحد السيطرة عليها . مع ذلك ، يجب أن تتعلم طريقة إخمادها ، حتى لو لم تستطع شيئاً أمام الجاذبية نحوه . . فلو استسلمت لمشاعرها ، سينتهي بها الأمر إلي أن يستغلها ، ثم يتخلص منها . . وفي هذا احتقار للذات وفقدان للثقة المريرة ، وعذاب للضمير المترائي لها مسبقاً .
لذا ، كانت مسرورة لأنها كانت في الطابق الأعلى حين رن جرس الباب في اليوم التالي ، ومسرورة أكثر لأنها تمكنت من كبح جماح بيتسي قبل أن تنبح وكشفت نظرةٍ سريعةٍ من النافذة وجود سيارة تشاد ، فوقفت بيدين ملتفتين حول عنق الكلبة ، بالكاد تتنفس ، آملة منه أن ينصرف . رنّ الجرس مراتٍ عديدة ، قبل أن تسمع وقع خطواته السريعة على الرصيف ، فاسترخت . . لكن ليس طويلاً . . فقد جاء صوت السيدة مونرو واضحاً :
- صباح الخير سيد غرايزر . ز أنه يوم جميل ، أليس كذلك ؟
- جميل جداً . . أخبريني هل رأيت الآنسة كونراد وهي تخرج ؟
ردّت العجوز بعفوية بريئة :
- لا . . لقد أخذت بيتسي في نزهة هذا الصباح . . لكنني على ثقة بأنها في المنزل الآن . . أنها لا تخرج كثيراً ، وتعرف هذا .
- أعرف .
شيء ما في صوته جعل ناتالي تتصلب ، وجاء صوته أكثر ارتفاعاً ووضوحاً وهو يكمل :
- لم تكن على ما يرام حين تركتها بالأمس ، وأتساءل ما إذا . .
وقعت السيدة مونرو بفخه الذكي:
- أوه . . أتظن أنها مرضت مرة أخرى ؟ ماذا علينا أن نفعل ؟
- يمكنني كسر القفل . . أو ربما . . لا ، لا أظن أننا يجب أن نستدعي الشرطة . . مع ذلك ، لو دخلت فهل تظنين أنك قد . .
- أوه . . بالطبع . . يلزم المرء أسابيع عدة ليشفى من أي فيروس يلتقطه في مثل هذا الطقس . . ياللطفلة المسكينة ، قد تكون أصيبت بنكسة جديدة . .
صرّت ناتالي على أسنانها ، تدرك أنه لن يعطيها فرصة لتتجنبه . وأطلقت بيتسي من يديها في اللحظة التي رن فيها جرس الباب مجدداً .
- آه . . أنت هنا !
كانت نظرته الزرقاء المليئة بالحيوية ، وقحة ومتسلية ببرودة .
سألت السيدة مونرو بلهفة حقيقية :
- هل أنت بخير ؟ بدأنا نقلق .
تمكنت ناتالي من الابتسام وهي تنفي أي أثرٍ للمرض ، ودعت جارتها للدخول لشرب الشاي بعد الإدعاء أنها لم تسمع الجرس . لكن السيدة مونرو اعتذرت ، فأمامها نضعة أشياء لتنهيها في المنزل .
هذا لم يترك سوى تشاد أمامها . . ونظر إلي ناتالي . . ثم قال بتحفظٍ مثلجٍ :
- لا تفعلي هذا مرة أخرى ، فأنا قادرٌ على كسر القفل لو اضطررت .
- لماذا لا تفهم ؟ لا أريد رؤيتك !
منتديات ليلاس
ابتسم بسخرية :
- لقد أمضيت وقتاً طويلاً من ليل أمس في التفكير . . !
- أوه . .
ابتسم ثانية، وتقدم من الصوفا ليجلس عليها :
- أجل . . تعالي واجلسي إلي جانبي ناتالي
كان متعجرفاً ، يأسر عينيها بتسليةٍ سلخرةٍ . . لكن تحت تلك السيطرة الباردة على النفس ، كان غاضباً .
- ناتالي الماكرة . . أم اناديك ناتاليا . . إنه اسم جميل . . وغير اعتيادي ، اسباني ، كما قبل لي . . هل أخبرك ماذا قررت بشأنك ؟
- وهل يمكنني ان أمنعك ؟
- لا .
لم يكن مستعجلاً للبدء في الكلام ، بل كان يتمتعّ بلحظات السيطرة هذه . لكنه حين تكلم ، عاد إلي خشونته ، وإلي طريقة المحامي المجرد من العاطفة:
- كنت مندهشاً للإرث الذي تركه لك دانيال . . وقد أصرّ حين اقترحت عليه أنك قد تفضلين المال ، على أن تذهب مجوهرات جدته لك . . وتساءلت عن السبب ! على أي حال ، لم تكن قيمتها كبيرة ، وبما أن ابنته آنا ، كانت ستبيعها ، قررتُ أنه ربما وعدكِ بالمجوهرات ، وأن هذا كان إذعاناً لطمعك . . لكن الأمر أثارني بما يكفي لأن أبدأ بالبحث عن شهادة ميلادكِ.
- لكن . . هذا غير قانوني !
منتديات ليلاس
-  صحيح . . لكنني لم أكن أنوي استخدام هذا لأي غرض غير قانوني . . كانت المعلومات عند عودتي إلي المنزل ليلة أمس الأب ، واسمك دون أدني شك ناتاليا ، وهو للصدفة اسم جدة دانيال . . أليس هذا مثيراً للاهتمام ؟
قالت بخفة :
- أنا واثقة أنك لن تستطيع الصبر لإخباري.
- هكذا ، تحدثت إلي أمي وهي تملك ذاكرة قوية . . قالت أن دانيال ، منذ ما يقارب العشرين سنة ، كان له سكرتيرة تدعى فوليت كونراد . .وهذا ليس صدفة. ز ألا توافقيني على هذا ؟
لم تردّ. . فأكمل:
- كانت سكرتيرته جذابة جداً ، امرأة رائعة ، كان قد ترمّل منذ فترة قريبة . ز وعرفت العائلة بالعلاقة فحولت حياته إلي جحيم ، إلي أن  تخلص من السكرتيرة. تذكر أمي هذا جيداً لأن العائلة كانت متشدّدة جداً ضد فوليت تلك . . ويمكن للمرء أن يري سبب موقف العائلتين.
قالت متصلبة :
- تهنئتي لك . . ماذا تريد أكثر ؟
رفع ذراعيه ليضعهما تحت رأسه :
- حسناً . . هل تتزوجينني ناتالي ؟
حاولت مرتين أن تتكلم ، كان العمل الآلي لدماغها مغلقاً . . وحين استعادت صوتها ، كان رفيعاً وغاضباً .
- لا تكن سخيفاً .
استدار رأسه وبدا وكأنه سيقتلها :
- لماذا ؟ انا لا أرضي بأن أظلم فتاة ساذجة مثلك دون تحمّل النتيجة . . هذا ليس أسلوبي ، وتعرفين هذا .
- حسن جداً . . ستضطر . . ولأنه لا سبيل لأن أتزوجك فأنت مضطر للتعايش مع الفكرة ، لكن لا أستطيع أن أفكر بشخصٍ مثلك ولا يمكنني الزواج به .
ردّ عليها بنعومةٍ ، رافعاً نفسه على مرفقة :
- حقاً ؟
أكّدت:
- حقاً !
بدا صوتها طبيعياً . وكانت تستشعر السعادة حين تبددت هذه السعادة بتعليقه التالي: - ولماذا ؟ لقد اكتشفنا بأننا متناسبان في أشياء رئيسية ، وأضنني أرغب في إكمال الطريق !
مدّ يده ليتلمس وجهها ، فشهقت ، ودفعت عنها اليد المثيرة لأحاسيسها . . فقال بكراهية :
- أرأيت ؟
سألته غاضبة :
- وهل تخطط للزواج بي إرضاءً لرغبتك فقط ؟
قال ساخراً ، مقاوماً كل محاولاتها للخلاص :
- ليست بفكرةٍ سيئةٍ .
- بل إنها . . فكرة سيئة. أنا لست . . انا لن . .
منتديات ليلاس
كانت محبطة ، ساخطة أكثر من أن تستطيع التفكير . . رنّت ضحكته الخشنة في أذنيها وهو يرفع رأسه لينضر إلي وجهها الأحمر . . أدارت وجهها عنه في دفاعٍ متحدٍ ، غبي . تحاول بجهدٍ دفع دماغها إلي التفكير .
قال :
- بل أنت . . وستكونين لي . . أنتِ حقاً ساذجة . . صحيح كنت غاضباً، لكنني منذ رأيتك أول مرة مع خالي ، وأنا متشوق إليك . . وكرهت نفسي لضعفي ، لكن مع ذلك ، آمنت أنك لست سوى مزعجة رخيصة ، تستخدمين صِباكِ المبهرة لإغواء رجل عجوزٍ. . ولم أستطع إبعادك عن تفكيري ، ولا من دمي.
آلمتها كلماته لأن هناك رنة غريبة في صوته تكشف مدي غضبه من أن يعترف بضعفه . . وقالت بخشونة : حتى ولو كنت . ز ما ظننته بي . . لم يكن من حقك أن تقول لي ما قلت !
تردد قليلاً :
- أتظنين أنني لا أعرف هذا ؟
تسللت أصابعه من معصمها الرقيق لتلامس يدها ، كانت لهجته حين عاد للكلام ن ناعمة ، وباردة.
- لقد قلتُ لك إنني آسف .
أوقفته ضحكتها المخنوقة:
- ما الأمر ؟
- متى كان هذا ؟ أنت لم تعرض عليّ أي اعتذار. . لا أذكر قولك أبداً بأنك آسف .
- تعالي واجلسي . . !
منتديات ليلاس
انتظر إلي أن جلست إلي جانبه ، ثم ركز كتفيه على ظهر الصوفا ، ثم قال بوقارٍ :
- إذن أنا آسف لهذا أيضاً.
حرّكت غريزة الأنثي فيها شعوراً بأن ما يأسف عليه تشاد حقاً لم يكن تأثير أقواله عليها ، فهو لا يزال يمقتها ، ويبدو هذا جلياً في رنة صوته ، وتعرف لماذا . . أصبحت تفهمه خلال الفترة التي تعرفت إليه فيها . . تفهمت كل شيء عنه خاصة خلال الأمسيات التي كان يقضيها مع دانيال . ز ورغم هذا لم تكن تدرك أنها كنت مفتونة به . وتعلمت قبل أي شيء آخر أن أكثر الميزات التي يُعجب بها ، ويجدها مرغوبة وضرورية ، كانت السيطرة على النفس . . كانت هذه بالنسبة إليه حجر الزاوية لحياته . كان اعتذاره مجرد استرضاء لضميره ، كما كان عرضه الزواج بها ، لا شك أنه يظنها حمقاء ـ إضافة إلي أنها لا تستأهل الثقة بها .
- ناتالي ؟
ارتجفت وأدارت رأسها إليه لتقول بخشونةٍ :
- أوه. . أقبل اعتذارك . . لكنني لن أتزوجك تشاد . .
أردفت ساخرة :
- تأخر الوقت ليؤنبك ضميرك . ز مهما كان الأمر فتأنيب الضمير ليس بالأساس الصالح للزواج . منتديات ليلاس
لن يتوسل إليها بالطبع ، ولن يجادلها كذلك . . فقد أدهشه رفضها المصمم وأغضبه في آن واحد . . وكان من الواضح أنه من النادر رفض طلب له . . خاصة وأنه طلب زواج . . حسناً . . تفهم هذا . . لا شك ان هناك العديد من النساء اللواتي يتلهفن ليكن زوجة له . .
- هل هذه كلمتك الأخيرة ناتالي ؟
هزّت رأسها ، وقالت بوقارٍ:
- لن ينجح هذا الزواج . . وعندما أقرر الزواج أنوي أن يكون زواجاً أبدياً . . ونحن لا نحب بعضنا . . فأي نوعٍ من الزواج سيكون ؟
- من النوع الذي يعتبره أكثر المخلوقات طبيعياً .
نظرت إليه ، لكنها لم تجد شيئاً لقرأه على وجهخ . . فقالت بفمٍ جافٍ :
- أظن أنه من الأفضل رحيلك !
وذهب . . وقفت بعد أن أغلقت الباب خلفه ، لفترة طويلة تحدّق في الغرفة ، وعيناها مغشيتان فوق فم محمرٍ ومرتجف . إنه يريد الكثير . . لقد لا حظت نظرة التملك التي نظر بها إليه وهو يخرج . .
لن يكون لهما مستقبلٌ . . حين يبلغ الجنون ذروته . . سيبقي لهما كأسٌ فارغ من المشاعر الميتة وسيمزقان بعضهما إرباً . جلست قبل أن تخلد إلي النوم تلك الليلة قرب النافذة تراقب نقاط المطر الفضية وهي تضرب الزجاج ، وتستمع إلي أنين الرياح الخافت . ز فكرت أن كل ما يريده تشاد هو استسلامها الكامل . . وقد جعلت غريزة السيطرة والتملك فيه من
منتديات ليلاسالمستحيل عليه أن يتقبل فكرة الزواج الحقيقية وهي العلاقة التي تضم الزوجين برباط الحب والثقة ، ثم الرغبة . . أي مستقبل لهما معاً يجب أن يكونا فيه متعادلين ، لا فرق بينهما سوى واقع أنها أنثي وأنه رجل . . وإذا لم يستطع الفهم أنها بحاجة إلي تقبّله لهذا الواقع ، بقدر حاجتها إليه . . إذن لا مستقبل أمامهما معاً . . كانت لا تزال تراه كرجل يفتنها فقط . . أما كلمة الحب فلم تخطر ببالها ولو لمرةٍ واحدةٍ .

شمعة تحت المطر_للكاتبة روبين دونالدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن