Flash back
فلورنسا
2002 م
أمام المرآة رتبت هندامها ،تسترقُ النظراتِ بين الفينةِ والأخرى مُتفقدةً أطفالها ،بضع ثوانٍ مضت لتتنبه إلى اغفائهِ صغيرتها ،أغلقتِ التلفاز لتحمل شقرائها إلى سريرها ، بينما الجالس بعيدًا عن توأمهِ منهمكٌ في تصنيف ألعابه ،ربتت على رأسه والبسمة تكتنف المُحيا ، مازالت رائحةُ العودِ الشرقي ، ورِقةُ صوتها الشجن تقاسيمٌ متجذرةً في ذاكرته
"مارسيل ،لن أتأخر ،مارسيليا في عهدتك حتى أعود ، احذر ايقاظها !"
أوصدت البابَ من خلفها ،لترحل آخرَ نفحاتِ هذا العطرِ موصدةً أبوابَ الذكريات....وللأبد
-مارسيل-
"أمي الحبيبة
اليومَ أتممت عامي الثامن ،استيقظت مارسيليا ولم تعودي انتِ بعد
مرت سنتان ، انتظرتكِ طويلًا !
وقفتُ خلف البابِ كثيرًا حتى مللت ، استرقت النظر من الفتحاتِ السفلية لا أثر لقادم !، شرعتُ نوافذ البيتِ وقفت أمامها نافذةً نافذةً ، بكت مارسيليا كثيرًا ، و كنت أهدئها في كلِ مرةٍ ، أعلم بأنني الأصغر ، لكن انتِ من طلبتِ مني الإعتناء بها ! ، لاحجة للكبر الآن ، صحيح يا أمي؟ "
انتشلتني يدٌ ما من الإنغماس في الضباب ،لا أذكرُ شيئًا ،لا يُخالط ذاكرتي إلا صورةً ضبابية تفيض بالسواد ،وردٌ أبيض ،الكثير من الزوار ،دموع جدي التي أراها للمرة الأولى ،وبكاءُ مارسيليا رغم أنها هي الأخرى لا تعي شيئًا !.
التقطتُ رسالتي ،أودعتها صندوق البريد
وعلى ظهرالمظروف عنونتها إلى السماء
أعلمُ جيدًا أنها ستصل إلى هناك آمنة ، صديقتي كيت تفعل ذلك أيضًا .
-مارسيليا-
لايُفارق ذاكرتي بريقُ الحزنِ الذي كسا عينيه يوم ذاك ، كان يقفُ وحيدًا حائرًا بين جموعِ المعزين ،أعلم كم كانَ مُتألمَا لرحيلها ،لكن وصيتها الأخيرة جعلته أكثر تجلدًا أمام أختهِ الباكية .
كنت وحدي الصغيرة هناك ،أما هو امتثلَ قائمًا أمامي مادًا منديله إلي كلما بكيت .
بقينا في منزل جدي سنةً كاملة ،حتى رحل هو الآخر ، تاركًا خلفه الكثيرَ من اللحظاتِ الدافئة.
-مسك-
تمام العاشرة ،ها نحن في المكان الصحيح ،اعتقدُ بأننا جلنا طويلًا حتى أنهكني المسير
جلسنا في الخلف ، تقلب يمام دفاترها بينما تغمرني الرهبة ! فتحت إحداهن النافذة ليهبَ نسيمٌ بارد متزامنًا مع أغنيتها ، لم تكن تدرك أن سماعتها غير موصولةٍ بشكل تام.. بدت منسجمةً مع كلماتِ الأغنية ، يالعذوبتها ،علاء الدين ! شعرت وكأن كلماتها كانت تخاطبني ! إلا أنها وعلى النقيض كانت تتردد على مسامعي كثيرًا في طفولتي ، وبعد كل هذا الوقت ..مازلت أحفظها غيبًا .
تذكرت .. راودني شعور الألفة ذاته وكأنني عدت بالزمن إلى الماضي ، شرعت اخرج دفتر الملاحظات يسترعي الفؤادَ دفءٌ كان قد هجره ! ، لحنها الطفولي عانق الجزءَ الغابرَ فيّ ، الحنينُ إلى الوطن ! ، وفي غمرة الشرود توقف هذا الصوت !"جميلة صحيح؟" أعقبتها ضحكة تحاول كتمانها ،بادرت بالحديث إلا أنها اشارت إلى القادم للقاعة لتلتزم كلانا الصمت
ثم فجأة غابتِ الأنوار !
-كيت-
دخلَ إلى القاعة بقامتهِ الفارعة ، جارًا معهُ ستارًا أسدل على فضاءِ القاعة ظلمةٍ موحشة!
ثم ومنِ عُمق الظلمة تتوالدُ الأنوارُ بخفوت ، تتوقدُ مصابيحٌ ملونة بفعلِ فرقعة أصابعهِ ، وكأننا في حضرةِ لاعبِ خفة !
بخطواتٍ خفيفة يفتحُ الباب
لتدخلَ بعده عازفة الناي متجاوزةً صفوف الطلبة ، لتجرَ كرسيها إلى مقدمة القاعة ، تمررُ أصابعها على مفاتحيهِ وبلمحةِ بصر
هأنذا أمامَ معزوفةٍ آلفها .!
الأخضرُ المتوهج في حضرةِ السكون ، التماعةُ عينيهِ ودكونِ ابتسامتهِ ، وهذا الطيف الذي يحولُ بيني وبين أفكاري
صوت الناي يزدادُ شحوبًا ، ابتسامةُ عينيهِ في ازدياد ، أما هيَ فتبدو مغمورةً حد الإنغماس.تتداعى إلى مخيلتي حكايا قديمة مشوشة ، باهتةُ الملامح.
-مارسيل-
أخذت أذرعُ ممراتِ المتحف مُتفقدًا ارجائه، لم يمر على وصولي سوا عشرون دقيقة ، الحركة على أشدها ، الزوار من كافة الفئاتِ كبار سنٍ وطلبة ، أطفال ، و آخرينَ وحيدين بلا رفاق .
لفتني طفلٌ صغير ماثلٌ أمام لوحةٍ كبيرة ، بادرت
"هل ضللت الطريق أيها الصغير؟"
توجه ناحيتي محاولًا إخفاء علامات الفرح المختلطة بالبكاء وكأنهُ ماثلٌ أمام منقذه ! أومأ بالإيجاب لما رأى شارة المتحف على قميصي !
أخذنا نجولُ بين الأقسام ، باحثينَ عن امرأةٍ في مطلع الثلاثينات ، شعرٌ كستنائي ، عينينِ عسليتين ، متوسطةُ القامة.
صعدنا ثلاث أدوار حتى تنبه الصغير إلى الواقفة بين جموع الأطفال ، ليركض ملؤه اللهفة ، تشبث بساقيها وأخذ يبكي
بينما ضحكت هي ، ربتت على رأسه "استوقفتك ذات اللوحة مرةً أخرى ، ماثيو؟ ، كيف لم ألحظ غيابك أيها الصغير"
تنبهت إلي لتتقدم وعلى ملامحها شيءٌ من حرج "اعتذر ، هذه المرة الثالثة التي يضل فيها ماثيو الطريق ، بسبب تلك اللوحة"
بادلتها إلى الإبتسامة وانصرفت إلا أن رائحة العطرِ أعادت لي سيلَ الذكرياتِ ذاك مجددًا !
أخرجت هاتفي محاولًا التناسي ، ماذا تفعلُ مارسيليا في هذا الوقت يا ترى ؟.
-------
مر وقتٌ طويل ، لم نعد كما كنا ، رغم أننا لم نكن يومًا على حافةِ الوصل
حالت بيننا الظروف ، مزاجيتكِ ، قداسية الإنعزالِ ،وقتكِ حصونكِ المنيعة
ورسائلي التي لن تصل..
يتبع.....
أنت تقرأ
ملامح
Fantasíaهفوة ! او رُبما زَلة!؟ يُسدلُ الليلُ ستارهُ الداكنَ على قلبكَ المكلوم.. فيضٌ من مد الألم يغمُر فلورنسا النائمة على كتفِ جبالِ الشمال. تعتصرُ جوانبُ من المأساوية عواطفها لتُصيرها شتاتاً او رُبما بقايا ملامح! هُناك... تلتئمُ أواصرن...