٦. أنا بالِغة!

436 44 24
                                    

الفصلُ السادِس | مع العُمر كُل الغامِض يتِّضِح، و كُل المُستتر يتكشَّف، و كل مُتصنِّعٍ يسقُطُ عَنهُ قناعُه.

***

كُنتُ في حوالي الثامِنة أو التاسِعة من عُمري عندما حضرتُ جلسةً لأمي مع صديقاتِها، و سمعتُ واحدةً مِنهُن تُهاتفُ ابنتها و تقولُ لها:

"قشِّري البطاطا و اطهي الأرز حالما أعودُ للمنزِل."

وقتها لا أدري لمَ شعرتُ بالغيرةٍ من تلكَ الفتاة ابنة صديقة والدتي. قطَّبتُ جبيني الصغير و نظرتُ لأمي التي تتبادلُ الأحاديثَ مع صديقةٍ أُخرى، و استجمعتُ كُل شجاعتي المُستحدثة لأقولَ بملء فمي:

"لماذا لا تطلُبين مني أبدًا أن أقشِّرَ لكِ البطاطا حالما تعودين؟"

كلامي بدا ساذِجًا و ضحكَت أمي و صديقاتُها على لطافتي! و لكنني حقًا لم أكُن أمزح! لقد كُنتُ أغارُ من تلكَ الفتاة البالِغة التي تعتمدُ عليها والدتُها أثناء غيابِها عن المنزِل!

لم ألقِ بالًا وقتها أنني كُنتُ في الثامِنة و تلكَ الفتاة في حوالي الرابعة عشر على أقل تقدير، و لكنني أردتُ تحمُّل المسئولية مثلَها!

و قفزَت بي الأيامُ لأولِ يومٍ طلبَت فيه أمي منِّي أن أصنعَ لها قدحًا من الشاي، و عليَّ أن أخبركم أنَّ هذا كان في نظري وَقتها أفضل الأيامِ في حياتي!

قفزتُ من مكاني و طفقتُ أبحثُ عن عُلبة الشاي و علبَة السُكَّر، و بدأتُ تسخين المياه، و في كُل خطوةٍ أفعلُها كُنت أسألُ أمي "ماذا أفعلُ بعد؟"، و إعدادُ الشاي الذي هو أسهلُ شيءٍ في الوجود كان في نظري عملًا جبارًا و لكنني كنتُ مستمتعةً و كأنني في نُزهة!

للأمانة.. لقد كانَ قدحًا مُريعًا من الشاي و لكنني كنتُ سعيدة!

و مرَّت أيامٌ أكثر إلى هذا اليومِ الذي شمَّرتُ فيه عن ساعديَّ و قررتُ المُشاركةَ في جلي الأواني! أمي رفضَت الفكرة بشدَّة و أخبرتني أنني ما زلتُ صغيرةً و لن أستطيع، و لكنني عقدتُ النيةَ و قررتُ خوضَ تحدي جلي الأواني!
مع أول طبقين غسلتُهما كنتُ غارقةً بأكملي في المياه و مُنهكة حد الموت. تلقيتُ توبيخًا من أمي و عدتُ إلى غُرفتي، و لكنني عدتُ مُنتصرة!

دائمًا ما كُنتُ أسألها "هل تُريدين قدحًا من الشاي؟"، ليسَ لأنني أشعُر أنها تُريد، بل لأنني أريدُ أن أشعُر أنني بالِغة، و الشايُ كان حرفيًا هو الشيءُ الوحيد الذي أستطيعُ إعداده!

و مرَّت أيامٌ أكثر، و كُل ما أفكِّرُ به هو أنني أريدُ أن أكبُر! أريدُ أن أصبِح بالِغة لأتحمَّل المسئولية و أكون بطلةً مثل أمي! نعم، لطالما رأيتُها بطلة!

ثُم دخلتُ في بدايات سن المُراهقة، و بدأتُ أكبر كمراهِقة، و كُلما زادَ عُمري سنة شعرتُ بشغفي ناحية صُنع الشاي و الاشتراك في أعمال المنزِل يقل.. و لكنني كُنتُ أفعلُ ما يطلبُ مني أحيانًا..

و صادفَت المُراهقة الصغيرة أول موقف غَدر أصدقاء، تلاهُ موقفٌ لئيمٌ من زميلةٍ في الفصل، تلاهُ مشاكلٌ في المنزِل و صياحٌ مُستمر!
ليسَ و كأن هذا كان جديدًا على أذني مثلًا، و لكنني لأول مرة بدأتُ أفهم ماذا يقولون!

بدأت المشاكلُ النفسيةُ تتراكمُ على كاهلي لأسبابٍ قابلةٍ للبوح و أسبابٍ في أعماقِ نفسي غيرُ قابلةٍ للإفصاح!

العالمُ بدأ يُعاملني يومًا بعد يومٍ بعد ذلِكَ أنني بالغة، و تمرُّ بي السنوات و تزدادُ المشاكلُ و الضغوطُ النفسيةُ فوقَ رأسي، و تعلمتُ البُكاء على الوسادة و الأرق و اختناقُ القلب، و بدأت بالفعل تُصيبني حالاتُ ضيق تنفُّس!

مهلًا مهلًا! كُل ما أردتُه أن أقشِّر البطاطا و أطهو الأرز ريثما تعودُ أمي! ألم يكن هذا معنى البُلوغ؟

أيُّها الزمنُ، على رسلِك! أنا عدلتُ عن قراري و لا أريدُ أن أكونَ بالغةً بعد الآن! و لكن الزمن لم يعُد يومًا..

أنا البالغةُ التي أصقلت المشاكلُ خبرتها و وسَّعت آفاقها و علمتها الكِتابة لتُخرج ما بداخِلها..

أنا البالغةُ التي تُريد أن تنتصرُ في معركتها في الدُّنيا و تُثبت لنفسِها و أهلها و للعالمِ كُلِّه أنها بالفعلِ بالِغة بعقلٍ بالِغ، و ليسَ فقط بجسدٍ بالغ و عقلٍ فارِغ!

لقد سئمتُ صنعَ الشاي و جلي الأوانِي بعدما علمتُ أنها أهونُ الأمورِ على هذا الكوكَب!
الآن علمتُ لمَ تكرهُ أمي جلي الأواني، لأنها "كبالغة" لديها ألفُ شيءٍ تقلقُ بشأنه باسنثناءِ جلي الأواني!
لم تكُن الحياةُ بتلكَ البساطة و السُهولة التي تخيلتُها للأسف فصفعني الواقعُ بشدَّة و تركَ علامة للآن أحاولُ إخفاءها!

و الآن بعد أن علمتُ أنَّ البُلوغ ليسَ في صُنع قدح شاي لأمي.. هل سأجلسُ حالي كحالِ جمادٍ لا حولَ له و لا قوَّة أتأملُ سقفَ غُرفتي؟

لا! بل سأقاتِل، سأحارِب، سأعافِر، و سأعملُ بجد، لكي أكونَ شيئًا يستحقُّ التذكُّر!
و عندما تحاوطني الضغوطُ من كُل جانِب سأتذكَّر أنها ليسَت نهاية الطريق، و سأصمُد، لأنني بالِغة.. و هذا ما يفعلهُ البالغون!

- بيلا بلاك 🌸

مُحتوى للبالغين حيث تعيش القصص. اكتشف الآن