الغرفة المغلقة

8 0 0
                                    

استيقضت في منتصف الليل حسب ما تشير إليه الساعة المتدلية من الحائط أمامي والتي لم ألحظ وجودها قبلا، كانت نافذة الغرفة تسرب بعض من الضوء الخافت القادم من الخارج، الظلام قد حط على المكان واسدل ستائر لينغمس العالم في سكون تام، الجميع من حولي نائم بعمق، مما دفعني للعودة نحو الفراش مرة أخرى في محاولة للنوم، لكن الصوت الذي سمعته قد حفز حواسي وجعلها متيقظة، شنفرت أذناي لألتقط صوت بكاء طفل قادم من خارج الغرفة.

طفل!!وفي هذا المكان؟ ألتفت نحو الجميع مرة أخرى علني أجد أحدا منهم قد استيقظ لكن لا شيء، الكل كان يغط في سبات عميق، وشخير رون بجانبي أكد لي ذلك، ارتفع صوت البكاء مصاحبا لبعض الشهقات التي أنقبض قلبي حزنا على أثرها، قفزت من السرير مسرعة لا أدري أين ساقتني قدماي، حيث المجهول، تصنمت أمام باب إحدى الغرف الموجودة في الممر، حيث كان الباب شبه مفتوح، عاد صوت البكاء مرة أخرى ليتحول إلى صرخات تدوي في المكان.

أصابني خوف سيطر على كل جسدي وتراجعت ثلاث خطوات للوراء احاول العودة والأستغاثة، لكن تمتمات الطفل وشهقاته المكتومة استوقفتني، تملكني شعور غريب في هذه اللحظة، شعور بالمسؤلية، أنا لن أترك الطفل الصغير في مثل هذا المكان، أنا لن أكون جبانة في مثل هذه المواقف، أنا يجب أن أنقذه من هنا، أستجمعت كل الشجاعة داخلي وتوجهت نحو منبع ذلك الصوت، حيث الغرفة، حركت المقبض ببطأ ليصدر صوت صرير مفاجئ من الباب.

قفزت للوراء بفزع لأدرك أنه مجرد صوت سخيف قد أصدره الباب المهترأ، زفرت بإرتياح وأكملت الولوج للداخل، وهنا فقط أنا لعنت نفسي على فكرة الأنقاذ هذه، مفاصلي أرتعدت وأرتددت للوراء، الأمر لا يصدق، قلبي يعتصر نفسه بألم، الدموع تدحرجت على خدي، كفي عانقت فمي سريعا في محاولة لكبت الشقهقات التي أشعر بأنها صادرة من عمق روحي، جثة أمراة مرمية على الارض، الدماء قد لطختها تماما حتى غطت كل بقعة فيها، وقدمها اليمنى لم تعد معها، لقد قطعت ورمت بجانبها، عيناها شاخصة نحو السماء، ووجهها يحمل الكثير من الألم.

صوت أنين كان بجانبها، جسد صغير متكور فوقها، متشبث بملابسها بقوة، ودافن رأسه في صدرها، يديه لم تتوقف عن هزها، وكأنه يخبرها أن  تبقى معه، أن تنهظ لتحتظنه وتربت كلى رأسه، أن تقوم لتحمله من هنا، أن تمسك بيديه وتخبره أنها بخير، لكن أي من هذا لم يحدث، هي بقيت على وضعيتها هكذا، تحاملت على نفسي وتوجهت نحو جسد الصغير، أحتضنته من الخلف لكنه لم يتحرك، بالتشبث بها أكثر، سحبته لكنه لم يتجاوب، أنتزعته من حجر السيدة ليصرخ والدموع تنهمر بشدة من عينيه.

ارجوك لا تفعل هذا، هي رحلت ولن تعود، هي ليست هنا، لكن كيف لي أن اخبر طفل صغير بهذا، كيف يمكنني أن افهمه أن الأموات لا يعودون، أنهم لن يتحركوا حتى لو هززنا جثثهم، حتى لو صرخنا بسمهم، حتى لو بقينا طول العمر ننتظرهم، الطريق نحو السماء يملك خط واحد، ولا يوجد به منعطف للرجوع.

ضممته إلى صدري أكثر وربت عليه، شددت على ملابسه وحملت خارجة من الغرفة المظلمة التي نحن بها، تشبث بي وقد بدأ يصبح أهدء، توجهت نحو الباب ليتسلل بعض الضوء من الخارج ويكشف عن بعض الأجزاء من وجهه، لقد كان جميلا جدا، لقد كان أشبه بملاك هابط من السماء، استمريت بالتحديق نحوه ليبتسم ابتسامة واهنة بدوره، ويختفي بعدها مخلفا ورائه ضباب كثيف.

توسعت عيناي بقوة وبدأت أنظر حولي بجنون، أبحث عنه، عن أي أثر له، لكن لا شيء، كل شيء كان قد أختفى، المرأة، الطفل، وحتى الغرفة، كلها أختفت لأجد نفسي أقف مقابلة الحائط، تراجعت للوراء بغير تصديق، أخذت يداي تفرك رأسي بقوة، أحاول أن أستوعب ما حصل للتو، أن أعيد نفسي للواقع، أنا بدأت أفقد السيطرة على أعصابي، أستدرت لأعاين المكان من حولي، مازلت واقفة في الممر، كل الغرف من حولي مغلقة وقد كتب عليها ممنوع الدخول، كلها بستثناء غرفتنا، شكل الممر لم يتغير، بقي مثلما رأيته اول مرة، إذا ما الذي يحصل معي والعنة!

ضعفت رجلاي فما عادتا قادرتين على حملي، هويت إلى الأرض وأنا أزحف بيداي للوراء لأستند على الجدار خلفي، أرتفعت يداي حيث يقع قلبي المضطرب، في محاولة يائسة لتهدئته..لإحتضانه، أنفاسي أصبحت تأخذ استراحة طويلة بين كل شهيق وزفير، الدم يضخ في جسدي بجنون، ألاف الأشارات التي تنبعث من عقلي، تحثني على التحرك، على الهرب من هنا، لكن جسدي شل عن الحركة وحنجرتي تعطلت عن العمل، أنسحبت حيث زاوية الحائط لأتقرفص هناك حيث أرخيت رأسي على ركبتاي وضممت جسدي بقوة ملتصقة بالجدران التي بدت وكأنها تحتضنني.

"لا أرجوك" صوت خافت اخترق حائط الضياع الذي كان يحيط بي، رفعت رأسي فورا نحو مصدره، حاولت أزالة الدموع التي تكونت جراء الضعف الذي أصابني، والتي شوشت مجرى الرؤية لدي، أمعنت النظر أمامي لأشاهد شاب صغير جالس على الأرض، يرفع يديه بطريقة دفاعية أمام الأخر..الذي كان يتقدم نحوه، رجل في أواخر الثلاثين، قميصه الأبيض قد ألتصق بجسده جراء العرق الذي كان يتصبب منه، عروق يده بارزة بشدة، وعينيه تشع غضبا وهو يوجه مسدسه نحو القابع على الأرض هناك، الشاب الصغير الذي كان يرتعش بقوة لتتوسع حدقتي عينيه وتتضاعف حركة أهدابهما، ظهر الشحوب في وجه المذعور والعرق يتصبب منه.

شفته السفى ترتجف مفصحة عن انهيار صاحبها، "ارجوك لا تطلق"، توسل مرة أخرى في محاولة ضعيفة لكسب شفقة الرجل الذي بقي بدوره منتصبا بملامحه الشرسة لم تتزحزح عن وجهه،
"أرجوك لا.." بتر صوت الرصاص جملته لينتثر الدم في المكان، توجهت جميع الأعين نحو الفجوة التي تكونت في الجزء الأيسر من صدر الفتى، والتي بدات الدماء تتدفق منها بشكل جنوني، أرتفعت يد الفتى المرتجفة نحو صدره بغير تصديق، في محاولة عابثة لسد تلك الفجوة او حتى محوها عن صدره، الأمر الذي كنا جميعا نعلم أنه مستحيل.

كنت فقط أشاهد الاحداث التي تسير أمامي بتصنم، وبلمحة بصر..تبخر الأثنان لليتلاشيان تماما عن الوجود، ويتركاني ورائهما أنضر للبقعة التي كانا واقفان فيها للتو، صداع فضيع هجم علي دون رحمة، ليزيد من وقع هذه الأحداث علي، كل هذه الصدمات المتتالية التي تلقيتها كانت كفيلة بسلب الوعي مني لأغرق في ظلمة حالكة لا قاع فيها.

حراس الحدود-border guardsحيث تعيش القصص. اكتشف الآن