امستردام 2014
هذا الصباح مات ابي وغزت ظلمة كئيبة منزلنا الصغير في احد شوارع هذه المدينة الكبيرة لا اعلم ان كنت حزينة ام لا فلم استطع ان ابكي رغم محاولتي الجادة ولو بدمعة واحدة اعبر فيها عن اشتياقي له والغربة التي شعرت بها بعد التفكير بأني لن اراه مرة اخرى او اسمع صوته يتناغم في اذني.
لم تكن علاقتي جيدة مع امي كما كانت مع ابي رغم ذلك لن ادعها تقاسي هذا الحزن وحدها سأتقاسمه معها حتى تكون بخير في النهاية, كنا نتلقى تعازي الاصدقاء والجيران من العرب الذين يقطنون هنا بعيدًا عن بلدانهم كإخوة تلاقوا بعد صراع لم نكن نفرق بين المسلم او المسيحي او الذي من غير ديانة تعاملنا كان على اساسيات معينة تقتضي بأننا كنا في يوم نتكلم لغة واحدة ويطلق علينا مسمى واحد وهو العرب, حتى ان لدينا سوق خاص بنا لمن يمتنع عن بعض الطعام او للتأكد من المصادر السليمة لها.
على اية حال كل ذلك لم يكن يهمني البتة بقدر ما كنت احب العيش على طريقتي الخاصة فحسب, بعد ان ذهبوا المعزين جاءنا اتصال خارجي فعلى ما يبدو ان اهل والدي قد وصلهم خبر وفاته في البداية ترددت ان ارفعه فلست في مزاج يسمح لي بالاستماع لأي كلمة تصدر عنهم سواء كانت جيدة او سيئة, بينما كنت افكر في العواقب التي ستنتج بعد ان ارفع سماعة الهاتف اخذته امي مني وقطعت جذور الحيرة التي كانت تنمو داخلي واجابت بصوت يجهش بالحزن.
ـــــ مرحبا, نعم كان هذا الصباح .. سنكون هناك في نهاية الاسبوع.
بقيت اراقبها بعدما اغلقت وكأني كنت انتظر ان تفسر لي ما سمعته, رمقتني امي بنظرات غريبة وقالت:
ـــــ زهراء لدي شيء اود الحديث عنه وارجو منك تفهم كل ما اقول فهذه هي رغبة والدك الذي كنت تقدريه كثيرًا.
اجبتها:
ــــ هاتي ما عندك ولا تناديني بهذا الاسم لو سمحت.
اقتربت من عندي وامسكت كتفي فأحسست بشيء من المواساة التي كنت احتاجها بعد والدي, كنت اسمع انفاسها المتعبة قبل ان تتحدث وبعد صمت قالت:
ــــ تعرفين انك في الحقيقة عربية وانت تجيدين تلك اللغة ايضًا رغم انك لم تذهبِ هناك البتة لكن يبقى العراق موطنك يا صغيرتي وبعد رحيل والدك لا يمكننا البقاء في الغربة اكثر من ذلك ثم ان وصيته كانت ان يدفن في ارضه التي ولد فيها وهي كربلاء يا حبيبتي.
لحظة يا امي كيف يمكن ذلك هل تودين مني بعد كل تلك السنوات ان اترك هذا البلد المتعلقة به روحي, اخطأت الاعتقاد فالوطن بالنسبة لي هي هولندا وازقتها, هذه المدينة التي احتضنتني طيلة الثماني عشرة سنة وترعرعت فيها مع اناسها, هل تريدين مني الرجوع لأجل ان يتخلى عني وطني مستقبلا كما حدث معكم من قبل.
يبدو ان كلامي الجارح قد اصاب قلب امي فتبدلت ملامحها لغضب جامح وهي تقول شئتِ ام أبيتِ سنعود الى العراق خلال هذه الايام احزمي امتعتك لنعود حيث ننتمي بدل التسكع مع شياطين الراب خاصتك.
اشتطت غضبا واخذت العن كل ما هو حولي ثم تركت امي وصعدت الى غرفتي احاكي وحدتي فحتى ابي لم بعد موجود كي ابث له ما يحزنني.
صباح اليوم التالي نزلت وانا متجاهلة وجود امي ومتثاقلة قول صباح الخير لها او تقبيلها على غير عادتي, لم اتناول شيء من الفطور الذي وجدته مغطى على الطاولة البيضاء المستديرة التي كانت مخصصة لثلاثة اشخاص فقدنا احدهم البارحة واليوم شخص اخر كره التواجد هناك نظرت اليها بيأس وتناولت كأس الماء الذي دخلت المطبخ لأجله وخرجت باتجاه السلم.
خطوت اول خطوة على السلم عندما سمعت امي تناديني بذلك الاسم مرة اخرى وذهبت اليها فقالت لست امزح بشأن حديث البارحة اجبتها ببرود تام وكذلك انا لم اكن امزح فقالت حسنًا لنعقد اتفاقا دعينا نجرب العيش هناك سنة واحدة ان وجدتِ صعوبة في التأقلم اعدك اننا سنعود.
قلت لها دعينا نؤجل تجربتك تلك بعد ان اتخرج من الجامعة كما تعرفين بعد يومين سأخوض الاختبار التأهيلي, اجابت بإصرار تام:
ــــ لا, فقد قُرر كل شيء.
بعدها خرجت من المنزل للقاء بعض الاصدقاء في طريقي رن هاتفي وعندما رفعته كانت مرام الفتاة السورية وصديقة الطفولة عليه اجبت مرحبة بها فقالت:
مرحبًا يا ايمي متأسفة على الاتصال متأخرة لكن الان فقط علمت بوفاة والدك تقبلي تعازيي فقلت لها بنبرة حزن ان كنت متأسفة حقا اريد ان التقيك سأنتظرك في الحانة التي ذهبنا اليها المرة الاخيرة قالت لكن ..وقطعت الخط.
ذهبت اتخبط نفسي واجرها الى مكان كان يكرهه ابي كثيرًا ويحذرني التواجد فيه, لم تكن تحفظات ابي تعني لي شيئا ربما هو وكما يقول قد ولد في مدينة اسلامية شيعية لكن ما ذنبي انا لأعيش حياة مجتمع لم اره او اختلط به, وصلت الحانة ولم ابادر بطلب شيء بينما كنت انتظر وصول مرام عندما قدمت صرخت بي ثم جرتني خارجا عندما خرجنا من الزقاق قالت لي ما بك يا ايمي هل هذا ما كان يريده والدك؟ قلت لها ما دخله بي فهو اليوم يريد مني العودة الى بلده وبلد عائلته واصدقائه اما انا فأمستردام بلدي وازقتها منزلي واصدقائي هنا هم عائلتي احتضنتني وانا ابكي وقالت ايمي يا صديقتي عودي فما ادراك ربما يخبئ لك القدر شيئًا.
كانت مرام من عائلة مسيحية لذا اعتدت على كلامها بسم رب المسيح وعلامة الصليب التي كانت ترسمه على صدرها في كل مرة نقع بها في مأزق وبعد حديث طويل تمكنت مرام من اقناعي بالذهاب.
عدت الى المنزل فوجدت امي قد حزمت كل شيء حتى امتعتي وكأنها تستعجل المشقة التي تنتظرها في وطنها العزيز قالت لي جهزت كل شيء وسننطلق بعد غد هل رأيتِ مرام قلت لها هكذا الامر اذن انت من اطلعها على الموضوع برمته فقالت لا يهم واكملت ما كانت تفعله.
في اليوم التالي ذهبت الى مقر فرقتي التي قضيت معهم اجمل ايامي ونحن نؤدي بعض العروض وقلت لهم سأعود بلا شك لذا لا تستبدلوا بمكاني احد اخر فكلها سنة واحدة لا غير.
تركتهم وتركت قلبي هناك معلق بين الآلات الموسيقية ونغماتها وعدت خائبة لا ارتجي شيئًا غير ان تعود حياتي كما كانت.
أنت تقرأ
وتردّ سلامي
Non-Fictionعندما يتعلق الامر بالحسين دائمًا ما اجدني امام شعورين متناقضين ما بين السعادة والحزن ينبت حبي الازلي اليه, ذلك الرجل العظيم الذي اقام من كربلاء صرحًا وملجأ يأوي اليه التائهين في هذا العالم المظلم.