الجزء الأول:

2.5K 103 105
                                    

ثيودور روبرت كويل:

فبراير، ١٩٧٤

صبيحة يوم الجمعة.




"لم يبق إذن على الأسطول إلا أن يقلع إلى طروادة فيدمرها تدميراً! ولكن البحر هادئ, والرياح نائمة, ولا بد لهذه السفن المثقلة بالعدو والعديد من قوة هائلة تدفعها في هذا الخضم الزاخر.

الأيام تمضي دون أن تستيقظ الريح, والملال يدب الى قلوب الجند, من طول ما لبثوا في تلك الجهة من الشاطئ العابس المتجهم, لا يريمون, والميرة تكاد تنفذ, والخيل تعلك حديدها كأنها برمت بهذا الركود"


كان صوته الجزل يقرأ مقدمة جزء القربان التابع لكتاب الإلياذة, أشتدت يديّ تيد حول غلاف الكتاب السميك بعد أن أستنشق نفساً طويلاً حتى نظر للملامح التي تراقبه بفضول متشوقين لسماع المزيد, كان يملك ميزة الإلقاء التي شدت آذان الحاضرين حوله بالإضافة لثقته فيما يقوله تكاد تنقل من يسمعه إلى بلاد الأغريق والتصديق بخرافات الأعمى هوميروس, لكنه توقف عن القراءة خجلاً ورسم أبتسامة بسيطة على وجهه.


تفحص الساعة على معصمه وتجعد حاجبيه السميكان بشكل ملحوظ, فأغلق الكتاب بروية ورفع رأسه ببداهة إرتجال

"أشعر بالأسف, لا يمكنني الأكمال, أشعر بالتعب بالإضافة أن صوتي يكاد يتلاشى ولدي مقابلة عمل صباح الغد" أختلق كذبة بيضاء سريعة وهو يمرر الكتاب لزميله في نادي القراءة الذي شعر بخيبة وألتقط الكتاب من يده

أنزاح زميله الجالس جانبه نحوه وهو يهمس بالقرب من أذنه, "غداً هو يوم السبت, ثيودور"

نظر له تيد برعب ثم للحاضرين حوله, "عليَ الذهاب الآن" قال مقاطعاً كل سؤال يُكاد أن يُسأل, يطبطب بكف يده على كتف زميله ويتكئ عليه للوقوف, "أراكم الجمعة القادمة" قال مودعاً بابتسامة ولم يدر بالاً لما سيُقال بعده فقد أبتعد بخطوات طويلة ومتباعدة عن مكان التجمع عند بحيرة ميشيغان, في قلب حدائق إلينوي.


على الرغم من عدم إعجابه بفكرة إنضمامه لنادي القراءة المتنقل, لكنه لم يخيب ظنه بجلب السكينة لقلبه, كان بلا نزاع أكثر متعة من نادي الشطرنج في سياتل الذي أشعره بالغباء في منتصف رجال كبار السن. ففكر بالإنضمام لهذا النادي مؤخراً بعد أن أقترح أحد أصدقائه تلك الفكرة.


كانت الشمس قد أغربت, والسماء بغيومها أمتلئت, والأرواح من الشوارع هربت خوفاً من أمطار فبراير الثقيلة. فأسرع تيد بخطواته على التلة كي يصل إلى الشارع العام قبل أن يتساقط المطر للمرة الثالثة ذلك الصباح.


"أنشد يا هوميروس واملأ الأحقاب موسيقى! واللانهاية جمالاً وسحراً!"

وجد نفسه يتمتم مقطعاً من ملحمة هوميروس التي ألتصق لحنها بأذنه بينما يفتح باب سيارته الخضراء, وهو لا يزال يدندن بين نفسه حتى ترجل إلى داخل السيارة وأدار المفاتيح وضغط على الوقود بهدوء. لم يتكبد عناء تشغيل الراديو وسماع أصوات الموسيقى المزعجة, فلم تعد أي محطة تذيع موسيقى الجاز أو أغاني فرقة 'ذا سميثز' حتى, لم يكن أبداً مولعاً بالأغاني الصاخبة ولطالما شعر بأنها عذاب إلهي من الرب مصوب عليه, فقام بإضاءة سيجارة بالمقابل لتخفف عليه.


كانت سيارته تسير بنحو بطيء مقارنةً بالسرعة التي يتوجب عليه القيادة بها, يفرقع أصابعه ويستنشق الدخان من سيجارته بين تارة ويدندن مقطع أعزوفة جاز لعازفه المفضل بيل أيفانز تارة أخرى, وفجأة قد تخترق أنشودة هوميروس رأسه وتجعله يعيد غنائها من البداية بإنزعاج, فقد ألتصقت بذهنه منذ أخر مرة غناها أحد الأعضاء بروحانية مُقلقة ولم تنفك عن طرف لسانه حتى الآن.


وبينما هو يتفقد الغابات على جانبي الطريق, رأى جسداً لم يستطع تمييز لأي سلالة ينتمي, على يساره حيث تقبع أشجار عملاقة من الصنوبر تواجد جسد مجهول يحمل شيء طويل بيده. حينها,فضوله قد جعله يبطئ من سرعة سيارته ويسير بها على الجانب لكي يستطيع الرؤية بشكل أوضح.


آنذاك رأه, كان واقفا بقرب شجرة, طويل القامة, يبرز طيفه أمام خضرة الصنوبر الغامقة وزرقة الغيوم, كان يلهث قليلاً ويرتدي سترة جلدية بنية اللون بالكاد تدفئه من رداءة الطقس ويحمل بندقية بين يديه, أوقف تيد ساعاتها سيارته وهو يقترب من نافذته حتى كاد وجهه أن يلتصق بها, كان الرجل لا يزال واقفا بتجهم وقطرات المطر الثقيلة قد بللت شعره البني الذي ألتصق بجمجمته بالكامل, كان يرتدي نظارة قد أصبحت مغشاة بالماء, وعلى الرغم من بعد المسافة, إلا أن تيد أستطاع أن يلاحظ خداه المقعران ووجنتاه البارزتان وشحوب بشرته.


كان ذو هيئة مميزة ولكن مظهره وساعة تواجده في مكان كهذا كانا مثيران للقلق, فقد فكر تيد أنه بالخارج كي يصطاد, لكن بمثل هذا الجو فحتى الحيوانات قد اختبئت في جحورها, وحتى لو أن الطقس لا يمنعها, فأي حيوان قد يود أن يتواجد في حقل صنوبر موحل ولا حقل مفتوح مليء بعشب البرسيم؟


بدأ تيد بمراقبة الرجل الذي تقدم بضع خطوات للأمام نحو إحدى الأشجار الضخمة ووسط ضجيج الأمطار وهي تصطدم بالأرض الأسمنتية, صوب ببندقيته بحذر في حركة أستكشافية أكثر من حركة صياد يود أن ينهال على غزالة ممتلئة القامين, وفي اللحظة عينها التي أقترب بها الرجل صوب الشجرة, دوت صرخة قريبة أخترقت صوت حفيف المطر على اللأوراق والنباتات.


كان صوت سيارة فورد مألوفة أستطاع تيد بعد أن أستدار نحو النافذة التي على يمينه أن يتعرف عليها, تعود لأحد منضمي نادي القراءة المزعجين. كانت تسير بسرعة كبيرة وصوت البوق مستمر بالأيقاع ناحية سيارة تيد المتوقفة في مكان مثير للشك, حتى تجاوزت سيارة الفورد تيد وأختفت عند أقرب أستدارة لحافة التلة العالية.


أدار تيد رأسه مجدداً نحو يساره ليجد الرجل ينظر ناحيته, فتسلل الرعب في صدره. تبادلا النظرات, لكن عينا الرجل اللتان غشاهما المطر لم تفهما ما تريان. تحت الشعر المبتل والجبين الذي تتلألأ عليه القطرات, لم تعبر نظرته لا عن التفاجئ أو الخوف, بل عن نوع من الفرح السري الذي لا تسبر أغواره, كان في تلك النظرة ما يبلغ حد الوحشية ويقاوم العقل ولكن ليس بغريزة.


كان في الرجل شيء يعيش به كالحياة نفسها التي يتشبث بها الدم في العروق, أو الأرض في مدارها الثابت, شيء تعجز عنه الكلمات تماماً كما تعجز الحجارة عن حبس ماء الجدول, لأن الكلمات ليست موضوعة إلا لتقول نفسها بنفسها, لتقول ما يمكن قوله. أي كل شيء ما عدا ما يُمكننا من العيش أو ما نحن عليه أو ما هو عليه ذلك الطيف بين أشجار البلوط الذي ينظر الآن إلى ذلك الرجل الجالس بسيارته وهو يحمل أعقاب سيجارته من دون يكف عن النظر إليه... هو زائل.


بعدئذ أستدار على عقبيه ومضى.

ثيودورحيث تعيش القصص. اكتشف الآن