الجزء الرابع:

359 29 21
                                    

جيفري ليونيل:

فبراير، ١٩٧٤

مساء يوم الجمعة.


سواد, كل شيء أسود. رؤياه وذلك الإحساس الذي يعتري داخله وببطئ يسقيه من رأسه لأخمض قدمه, شعر بشيء صلب تحت جسده الممدد وشعر ببعض الألم في قدمه سوى أنه لم يكن متأكداً إن كانت اليسرى أو اليمنى, ربما كلتاهما يؤلماه.

هنالك صوت بعيد, صوت شخص ربما. في الحقيقة كان الشيء الوحيد الذي يسمعه جيفري, كأنه يغرق في بطن البحر وهنالك من يناديه لكنه مخدر ولا يستطيع السباحة للأعلى, هل هو يغرق أم يموت؟ أهكذا يبدو الموت, كأنك تغرق سوى أن السواد يملئ رئتيك, لا الماء؟

صفعة قوية أمالت رأسه للجهة الثانية وأيقظته من شروده, فتح عينه بقوة ثم أستنشق الهواء بينما جسده تلمس الأرض الأسمنتية تحته وحاول إسترجاع بعض المعلومات, هو لم يكن يغرق, لكنه لا يزال يحاول إلتقاط جزيئات الأوكسجين من حوله كأنه لم يتنفس منذ ساعات.

"-الحمد لله!" سمع صوت هسهسة من فوقه, كان هو مستلقي ضد الأرض ورجل راكع بجانبه, يغطي وجهه بكلتا يديه كأنه يصلي للرب. أنزلقت يده للأعلى كي يجر خصلات شعره الشقراء ثم رأى أن من وجده على الأرض ممدداً كان صامت وينظر إليه بصدمة.

"غزال" قال جيفري بدون وعي بينما أرتسمت أبتسامة على وجهه, بكل بساطة لم يستطع كبح لسانه, أدت كلماته تلك إلى إثارة الأستغراب على وجه الرجل الراكع, ثم ضحك بصوت مرتجف.

"يا للهول, لقد أخفت اللعنة عني-" قال بهستيرية, ربما لم يسمع كلمات جيفري أو تجاهلها. العروق على جبينه كانت واضحة خاصةً وأن قطرات من الماء تغطيها- إنها لا تزال تمطر...

"هل- هل تستطيع النهوض؟" قال الغزال وهو يمسك بجيفري من معصمه بحركة تلقائية.

جيفري لم يستطع إزاحة نظره عنه, كان في غاية الجمال عن قرب, رائحة عرقه التي بانت حينما أقترب منه كانت مقدسة لأنفاس جيفري, وهي ممتزجة برائحة المطر والتراب. كان شعره مبللاً بالكامل وأنسدلت خصلاته الحريرية على جبينه حينما حاول مساعدرة جيفري على النهوض.

جيفري كان طيعاً بين يديه, أستند بيده الحرة ضد الأرض كي تساعده على الوقوف, حتى مر خيط من الألم على طول قدمه في اللحظة التي أقام بها جسده.

"لا- لا أستطيع لا أستطيع" بكى جيفري ألماً, شعوره بالتناقض يكاد يفجر داخله, هو فقط لم يستطع التمييز بين الحقيقة والواقع حينها, لم يعلم إن كان هذا يوم سعده أو عذابه. كل شيء كان غير منطقي, أنه لا يزال ينصاع وراء القرارات الطائشة والغير مبررة التي تجعله يحمل بندقية ويركض في الأرجاء بحثاً عن الغزال ممشوق القوام.

ربما فكرة إبتعاده عن هذه المدينة والرحيل بعيداً قد أثرت في مكنوناته الداخلية, كان يتمنى أن يفعل شيئاً بخصوص لقائه بهذا الرجل, قالب عالمه. لكنه لم يتخيل ولو لدقيقة أن اللقاء سيكون بهذه الطريقة.

كان جيفري على وشك السقوط من بين يدي الغزال لولا أنه أمسكه من تحت ذراعه وشبكه ناحية صدره, "أنت- اللعنة" تمتم تحت أنفاسه بتوتر. "عليّ رؤية قدمك, ربما تعرضت للكسر..." أضاف على كلامه بثقة أكبر بعد صمت غير مريح. "سأعيدك على الأرض, حسناً؟" قال بهدوء وفعل ما طلب دون إنتظار إشارة من جيفري.

جلس الغزال على الأرض جانب المصاب, وضع يده على ساق جيفري اليسار أولاً, حتى جفل تحت أثرها من شدة الألم, إذاً هذه هي المصابة. نظر الغزال لجيفري بقلق ثم أعاد عينيه نحو الساق, "لا تقلق... أنا طبيب" قال بهدوء وبدأ برفع حافة البنطال رويداً رويداً.

جيفري صرخ تحت أنفاسه وأعاد رأسه للوراء, شاعراً بقطرة ماء تنزلق على جبهته, لم تكن من ماء المطر, كانت دموعه الدافئة التي أشعرته بالقشعريرة, يا للأحراج. فكر في نفسه.

"إنها مكسورة- أو لا, لا أعلم..." أبعد الغزال جسده قليلاً للوراء وضغط على شفتيه بقوة للداخل. "لا أعلم كيف سأكون قادراً على أخذك لعيادتي, ولا أستطيع تركك هنا تحت المطر" قال بتبرير بينما زحف على ركبتيه ناحية رأس جيفري. "ماذا حصل؟ كيف تعرضت ل-"

"أظن أن حظي عاثر اليوم يا صاح" تأوه جيفري بين أنفاسه ثم أبتسم نحو الغزال, صاباً المزيد من القلق في نفسه القلقة. "لكن بنفس الوقت, أنا محظوظ لأنك معي" أضاف جيفري لا شعورياً, أبتسامته تختفي خلف ملامحه الجامدة.

"كيف ه- كيف هذا؟" قال الغزال بنبرة هادئة, وقلق متملك على كافة عقله الغير متزن بينما أقترب من رأس جيفري كي يلتقط كلماته.

"لأنك طبيب, أليس كذلك؟" قال جيفري بأبتسامة أفصحت أسنانه, ثم عاود إرجاع رأسه للوراء بينما كانا معصميه يسندان جسده ضد الأرض من الخلف.

"صحيح-" أجاب الغزال. نظر ليديه ليجدها ملطخة بالدم والماء, منظر مفزع حتى أدرك مصدر الدماء كان من قدم جيفري الجريحة. أنه يكاد يفقد عقله وهو قلق حقاً بشأن هذا الشاب المريب أمره, هل تعرض للتنمر؟ هل هو من تنمر؟ هل سيكون هنالك شرطة؟

رفع الغزال رأسه للأفق, هنالك ضوء ساطع يسير ببطئ ناحيتهما, ضوء سيارة أعمى بصره فقام بوضع يده الملطخة بالدماء على نصف عينه كي تحميه من شدة السطوع بينما أنتظرها للوصول إليهما على الرغم من تيقنه أن السيارة ستسير وتترك كلاً منهما في سبيله فالمنظر الحاصل في نصف الشارع وبين أشجار البلوط الضخمة التي تزين حواف الشارع العريض في ليلةٍ تأبى أن تنتهي وأمطارٍ فوق رؤوسهما تعتلي, يثير الخوف والشك في أشجع القلوب.

أقتربت السيارة بشدة منهما وتوقفت, تفاجئ الغزال وأبتسم بعدم تصديق قبل أن ينظر إلى جيفري الذي بانت ملامحه بفضل ضوء السيارة الساطع. قام الغزال ناحية السيارة بسرعة, لم يخرج أحداً بعد لكن زجاجة باب الراكب قد أنزلت للأسفل ليجد أمرأة عاقدة حاجبيها.

جيفري أجلس نفسه على الأرض, وكل ما رأى عدا ضوء السيارة الساطع كان لونها الأخضر.

أخضر كلون ثمار الزيتون...

ثيودورحيث تعيش القصص. اكتشف الآن