وجدان كاتب

95 15 15
                                    

تتعثر ذاكرتي في دهاليز الماضي تسحبني نحو ذكريات لربما ما عادت تنتمي إلي ، بل ما كانت تنتمي إلي اذ كنت فيها مجرد شاهد على الحدث ، البطولة فيها ما كانت قد من نصيبي لكنها كانت بطولة قلمي  .

كنت طفلة تعبر زقاقا ضيقا نحو المدرسة و تحيي متسولا هناك رغم رعشة الرعب التي تدب في قلبها ، و لم أدر يومها ما الشيء الذي يثبت قدمي و يطلب مني تأمله ، لم أدر ما حاجتي إليه ، ما الغرض من رغبتي في الاقتراب منه ، ما سبب الفضول الذي يدعوني إلى سحب قلنسوته و النظر إلى وجهه ، ما كل هذه المشاعر هنا ؟ كانت لدي محفظة حمراء على شكل دب ، كانت فيها دفاتر و أوراق وأقلام ، و لم أدر يومها أن كل حاجتي كانت في الجلوس و الكتابة عنه !

كانت الكلمات تنبض في صدري منذ نعومة أظافري ،  أقرأ و أستمع إلى أمي تنشد الشعر ، أحب تعلم كلمات جديدة و حفظ بعض الأبيات ، أحب النصوص البديعة و أقفز فرحا إذا كتبت جملة حلوة .

كنت طفلة عاشقة للأدب ، مغمورة في بركة من الحروف ، محاطة بالكتب و الشعر و القلوب الرقيقة التي تهتز لوقع الكلمات ، كنت و لا زلت ، الفرق الوحيد أني يومها لم أكن أعلم ، لم أعلم أني خلقت لأكتب و بعثت على الأرض لأكتب و لا غاية في الدنيا لي غير أن أكتب .

لطالما آمنت أن في السماء قصرا على الغيوم ، أن البراق سيهبط و يحملني إلى هناك ، أن تحت سطح البحر أوطانا و ممالك و أمراء ، أن الحيوانات تفهمني  ، و أن كلماتي -في بداياتي- يمكن أن تغادر الورق لتحضن المنكسرين حول العالم .

رجوت الله كثيرا أن تصبح لي أجنحة ، سألت أبي يومها ثلاث مرات متتالية إذا كان الله يجيب دعواتنا حقا كأنني كنت خائفة أن أرسل بأمنيتي هذه إلى السماء ، لم يكن هذا العزاء الديني الوحيد الذي حظيت به ، عزيت نفسي بالإسراء و المعراج ، بقصة سيدنا سليمان و النملة و أخبرت نفسي أن قصري المنشود هو الجنة .

ما زلت مأخوذة تماما بعاطفتي ، بهذه الأحلام الصغيرة و الخيالات الواسعة ، بهذه القوة الجبارة التي دفعتني نحو الكتابة أول مرة ، ما زلت الفتاة ذاتها ، و ما زلت أملك ذات العينين القادرتين على تحوير الأشياء و سكبها في غير قوالبها ، لا زلت أملك نظرة أفلام الخيال تلك ، النظرة التي تقترب من النقطة اللامعة في السماء لتراها مجرة و مجموعة و شمسا و كواكب و أقمارا و كائنات و مجتمعات و حقول و تقنيات علمية و حربية ، بل أبعد من ذلك كنت أملك البصيرة ، سبر أغوار هذه الكائنات الخضراء القصيرة ، الطيب و الشرير ، المتمرد ، الطفل الذي يريد لعبة جديدة ، السخط على كوكب آخر و حتى الرغبة الخفية الدفينة في قطع هذه المسافة و عبور الجسور الممتدة من قلبي إلى حيث لا أدري .

لم أصب بالقحط الأدبي قط ، بحاجة ماسة و دائمة لتفسير العالم لمن حولي ، لأصرخ في وجه الوجود الأصم بأن العالم يتسع لنا و لصغير طموحاتنا ، لأطالب الأرض بأن تنبت و الغيوم بأن تمطر بل و حتى لأصحح نطق اسمي ، و فوق ذلك لأشرح للمستجدين في عالم الكتابة أن صحراء هذا العجز الأدبي -الملقب قحطا- هي أطنان من حبيبات الكلام تحتاج من يربطها و يجمعها كتلة واحدة .

كانت تلك نظرتي إلى العالم ككل ، عدسة مختلفة اللون و القياس ، غريبة كنت وسط الحشود ، صعب جدا أن يتعذر عليهم النظر إلى حيث تنظر ، بل كيف تنظر ! 

في السابعة من عمري ، في لحظة غضب أخبرت أختا لي أن في بؤبؤ عيونها الزمردية غابة و أنها وقود الشجار بيننا ، كانت تلك أول صورة بيانية لي ، لكن لم يكن فيها من المجاز شيء و أنا أرى في عينيها ألسنة لهب مستعرة حتى ما عاد للون الأخضر وجود ، و ما كان فيها من البديع شيء و أنا أرى شطرا من قلبي بهذا القدر من البشاعة .

ذاك حكمي على القواعد اللغوية أيضا ، المجاز لا يكون مجازا إلا إذا كان مخالفا لواقعي ، ما شأني أنا بما ترون إذا اختفت الأرض من تحتي في لحظة إلهام ؟ و ما دخلي بقوة الجاذبية إذا حملني عصفور معه ؟ و ما علاقتي أنا بهذا المحيط الضيق من العالم إذا كنت أعيش خارج الدائرة ؟

لا أخضع للقانون في عاطفتي ، و لا للفيزياء في اندفاعاتي ، و لا للطبيعة في جملة سلوكاتي ، أنا أنتمي للأدب ، لقلم الحبر و الورق الخشن ، أنا أنتمي لقصائد عنترة و إلياذة مفدي و "إذا الشعب يوما أراد الحياة " ، أنا جزء من رفوف أمي و فكر أبي ، أنا قاموس جدي و أقلامي ، أنا هي أنا ، حيث لا حدود و لا أوطان و لا عوالم .

أنا أنتمي إلي ، إلى كلماتي إلى أقلامي إلى كتبي إلى قاموسي ، أنا أنتمي إلى اللحظة التي وقفت فيها أمام متسول في زقاق ضيق و لم أعرف من أنا .

بقلم من فضة حيث تعيش القصص. اكتشف الآن