١-بحثٌ سرمدي.

2.4K 146 102
                                    

في مكانٍ ما, حيثُ كانتِ الشمسُ باهِتة, الهواءُ مداعبٌ بإصرار, والأصواتُ عديدةُ الأنواعِ في الأرجاء. حيثُ كلَ بضع دقائِقٍ اهتزَتِ الأرضُ وعلا صوتُ صريرٍ على الحديد موثِقاً وصولَ مركبةِ قطارٍ صلبة المظهرِ مليئِة بمختلفِ الراكبين.

في يُمنةِ المكانِ وعلى كرسيٍ لامِعَ شاغرَ الأطراف, تموضَعَ هو وهدوءُهُ كستارٍ مهلهل مُسدل عليه. لا يكثرُ جسدُهُ الحركة, هذا إن أقبلَ على أيٍ منها, وعيناهُ تجيءُ وتروحُ مع المارين من أنواعِ البشر.

لمرة أو مرتين, استشعرَ أصابعَهُ تعبثُ بكُمِ مِعطفِهِ, دونَ إدراكٍ و بوعيٍ ليسَ لهُ حقٌ أن يُذكر. كان مُشتتاً, ولكنَ ليسَ تشتيتاً كذلك الخاص بالأشياء التي تعجزُ عن الإحاطةِ بهِا علماً, بل هو تشتيتٌ من نوعٍ مغايرٍ بالكامِل. كان تشتيتاً خياراتُهُ هي من سلمتهُ مفتاح إراقته, لا واحداً وقعَ لهُ ضحيةً. ليس الأمرُ شبيهاً بأن تغرقَ بنهرٍ, بل أن تسمحَ لهُ بجرفِك بعيداً نحو حتفٍ مجهول.

عندما وصلَ قطارهُ داعياً بالركوبِ دونَ همة, احتضنت كفهُ يدَ حقيبتِه الجلدية بحزمٍ, حيثُ في الباطِنِ لم يحمِل سوى بضعَ ملابسٍ قد تعدُ كافية لشابٍ, وأكثرَ من كافية لواحدٍ مُنظم. أظلهُ السقفُ المنخفِضُ سريعاً, وكانَ أحدَ راكبي القطارِ القلة ممن يمكنُكَ عدهُم على أصابعِك باستخدامِ يدٍ واحدة.

قلة هم الراكبونَ دونَ شكٍ, فوجهتُهُ هي تِلك التي لم يكُن ليقبِلَ عليها أحد.

أركاديا, مدينة ضئيلة من كُلِ طرفٍ إلى حدٍ لن يمكِنك بهِ ملاحظتُها بسهولة على خرائِطِ كوريا, حتى أن بعضاً من تِلك الخرائِط يتغاضى عن وجودِها بكامِلِه فقد لا تجِدُ لهُ حضوراً بتاتاً, ينسُبُها البعضُ حيناً للمدينة القريبة الكبيرة, وحيناُ أخرى يقرونَ بكونِها مدينة كاملة مستقلة. مدينة لم تسعِفها الجغرافيا, وليست ذاتَ مساحة وفيرة, ولا حتى لها ذاك التاريخَ الذي به يجتبى المجدُ ويفتخِرُ الساكنون, لكنها كانت هُناك, في مكانٍ ما وعلى هذهِ الأرض, وقد كانت وجهِته.

على النافِذة الواسعة ركزَ عينيه, شاهدَ صورةَ العالمِ يزولُ مع كلِ ثانية تعدو نحو الرحيل. الدينا تنطفِئ بفعلِ حركة القطار, والفضاءُ يصبحُ صورةً ضبابية.

وكانَ مع ذلِك السيناريو يزولُ بروية.

أكان مع كُلِ مسافةٍ تطويها المركبة الحديدة يطوى معها؟ أكان ينثرُ بملءِ إرادَتِهِ أجزاءً منهُ ويمسَحُ بتريثٍ حتى لا يبقى منهُ إلا ما يسرُ الناظرينَ؟ حتى وإن كانَ الناظرونَ قلالاً بحكمِ ما طالبَ بهِ من شُحٍ للساكنين؟ رغبةُ في أن يرى الفراغَ ويجدَ نفسَهُ عند كُل مقتطعِ طُرُقٍ فيه؟ عند كُل تجويفٍ يجِدُ قطعة من وجدانِهِ الفقيد.

رِحلتُهُ هذه بدت كفعلٍ غير ناضج بالنسبة للمحيطين, بل حتى فارغة من المعنى إن بادرَ بمحاولةِ الشرحِ لأيٍ كان, وحتى لنفسِه. لكنهُ كان يفقهُ تماماً مغزاها والظلف فيها, يدركُه, يعيه, ويسعى إليه.

كانَ هذا الرحيلُ المؤقت, أو الإجازة القصيرة, كما قال منمقاً المسمى أمام والدتِه القلقة, هو رحلة لتوديعِ آخرِ بقايا مراهقتِه, زمنِ طيشِه, مع أحلامٍ مطموسة الوجهة والمنال, مشاعرَ متضاربة وعكرة كبركةٍ بعد فيضان, وقلبٍ ريان.

بالضبط, لم تكن هذهِ سوى محاولة للهروبِ من ضياعه, وأعوامِ تيهِه, ومتنفسًا لجهلِهِ في الحياة من وجهةِ نظرِ البالغين. كانت رحلة بتخطيطٍ ضعيف وتوقٍ عظيم, رجاءً لراحة ومنفذاً من الفزعِ الذي يولدُهُ مرورُ السنين.

كان بجدية راحلاً مرافقاً لوحدتِه وخبايا أحاسيسِه, لأيامٍ معدودة لم يُكلِف نفسَهُ عناءَ التفكيرِ بطُرقِ جريها. يكشُطُ عن خوالجِهِ الوجلَ مما هو قادم, ويثلمُ الخوف في صدرِه. إحلالاً للرضى محلَ الرفض, وترحيباً بالرشدِ مكان الصبا, أو مجردَ محاولةٍ للإيمانِ بأهدافِه, وكأنَ جميعَ أفكاره نبراسٌ يهديهِ بعيداً عن المكانِ الذي سيفقِدُ فيه عقله.

مجرد محاولة, وبحثٌ سرمدي.

__________________________

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

__________________________

مجرد تجربة فارغة أخرى لجمع أفكار مبعثرة في أمرٍ يحملُ معنى؟

شكراً على القراءة، لا تنسوا التعليق والتصويت💕

Juvenile | يافعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن