٨- والجًا الحقيقة والمجهول

265 43 97
                                    


حدث أن فارق الظلمة التي كانت تأويه بسرعة. وكأنه انسلخ من رحم الفناء. ظلمة لم يكن قادرًا على وصفها, ولا له فيها رخاء.

انكسر التحام جفنيه بومضة. استقام وهو يشهق, لا يزال يشعرُ بالفزع متصلبًا على أطرافه.

حدق في الأرجاء.

انقطع حبلُ مناجاته للحياة.

وكاد يقعُ قتيلًا للواقع في مكانه.

لقد كان في غرفته, في بركة من الأغطية المبعثرة التي ولدتها تحركاته.

انتفض واقفًا على قدميه دون تأني, ساحقًا أي تردد من الإرهاق الذي يتخصره.

هرع راكضًا إلى المرآة المشؤومة والدبقة في الغرفة, رفع رأسه بقلة صبر, وأخذ يشزرُ صورته من أعلى ممررًا بنانه على الفقرات الوسطى لعنقه الطويل. لا شيء.

لا شيء!

جذوة الوجع في عنقه من كمّ البربرية التي كان يخنقُ فيها لا تزالُ تحترق. مقدمة رأسه التي أقرنت بالأرض لا تزالُ تنبض. لكن لا أثر كان راضخًا في المرآة. لا كدمة ولا شق ولا تورم. والملابس التي ارتداها البارحة هي ذاتها ليست خاصة بالنوم.

رمى بذراعيه على الجانبين, لكن لم يكُن هذا عربون استسلام. لم يتمهل ثانية قبل أن يقضي على المسافة بينه وبين الباب خارجًا من غرفته. والجًا إلى المجهول. ليته فقط يعرف.

لم يأبه بصقيع, أو بأرضٍ ملتوية. لم يحدق ناح الأمواج في الطريق, ولم يأخذ خطواتٍ متساوية. لكنه سار بإصرار, دون تأنٍ لثانية.

حتى تراءى لهُ خطٌ معووج لبناءٍ قديم ذميم كان وجهته القاسية.

ولكن, كيف للواقع أن يكون بتلك الشاكلة, كاذبًا جدًا؟

بدا المكان وكأن أحدًا لم يتنفس في مسافة نصف مترٍ منه منذ شهور. موحشًا كما لم يتوقع لشيءٍ مقدرة كونه كذلك, ومغبرًا إلى أبعد الحدود.

تخشب في أرضه متقهقرًا بالمرأى أمامه, قبل أن يعود لإكمال نثر خطواته حتى وإن لم يكن واثقًا كالبداية الآنفة.

وضع يده على الزجاج المتجمد غير آبهٍ بألم, ودفع بكامل قوته حتى وإن كان يرى السلسلة المكبلة للمدخل بجفاء. لم يتحرك الباب ولو قدر أنملة. يا للسخرية!

ماذا يحدثُ هنا بحق الواقع؟

أيكون هذا حلمًا آخر؟ مستحيل!

وإن كذب عنقه الذي يزعق, لا يمكنه إنكار الأيام الفائتة جميعًا. هذا لا يمكن أن يكون رؤيا!

Juvenile | يافعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن