المقدمة

9K 100 13
                                    

تحت شجرة الظهيرة يستلقي الرجل كما لو أنجز كل المهمات الصعبة، يراجع الدفاتر القديمة المنسية في ذاكرة مليئة بالأمنيات والقلق، ثم يغلق باب الحيرة بنسيج من الوله والغرابة. لا يتذكر اسمه ولا عنوانه ولا عمره، قلبه ينبض وشوكته تئن، هو أسير الأزمنة الأولى التي لا يعرف مبتدأها ولا نهايتها، هو المسجون في قفصه الصدري حيرة وإرباكاً، هو ليس مجنونا ولا عاقلا، هو متنزه في مجلسه الصغير، في أفكاره، ودماغه الملعون بالطيش. 
منذ متى؟، لا يتذكر، ولايعرف أيضا ما الذي يشغله، ولا إلى أين الطريق؟، وأحياناً تغيب عنه الحقيقة إن كانت هي حاضرة في ذهنه.
هل هو حيوان أم إنسان أم نبات متسلق في بيت طيني قديم على ناصية زقاق مسدود.
ربما، يحتاج إلى من يتذكره، أو يذكره، لكنه يغفل الفكرة، ويسرح بعيداً في تفاصيل زقاق فيه بضع أشجار وبضع رجال يجلسون على الظل على تلة من الأحجار المجلوبة من المقابر، وهم يحتسون العرق تحت ضوء القمر، ومن بعيد يسمعون صوت مذياع ينبعث من أحد بيوت الزقاق، صوت فنان أرهقه الدهر لكنه مصرّ على الغناء.
كان في شبابه نجم زمانه، واليوم لا أحد يتذكره حتى هو نسي نفسه، هل هو ذلك المغني، ذلك الفنان الذي كان، ليس متأكداً أيضاً، وفجأة تعجز عن تحديد من أنت، وما هيئتك في هذا الوجود فتلك حيرة كبرى.

على أية حال، سيقبل بالواقع على أنه جزء من تفاصيل هذا الكون المربك، على أنه حجر أم شجرة أم سلحفاة أم بيضة ديناصور منقرض، لكنه يشعر بألم في مكان من جسده، يحتاج إلى طعام لكي يسكت الألم، لو كان حجرا هل كان سيحس بالألم، ليس متأكداً، كان إلى جوار حجر كبير تحت الشجرة
يسأله: هل أنا منك؟.
لكنه لا يسمع سوى صداه ينبعث من أعماقه، يفكر أن عليه أن يكون شجاعا ويواجه نفسه بالحقيقة، هو إنسان بلا ذاكرة، وبلا عنوان، وعليه أن يبحث عن معنى لوجوده في الحياة بأن يبدأ الآن في ترتيب الأشياء، يختار اسمه وصفته ومهنته، وهو الذي لا يتذكر أي مهنة كان يمتهن، كما أن خبراته القديمة لا ذكرى لها، من الجيد انه يمشي ويتبول ويأكل، رغم أن العثور على الطعام مهمة صعبة ففي هذه المدينة التي جاءها، لا أحد يمنح شيئا دون مقابل، لا أحد يتوقف ليترحم عليك أو يسألك ماذا تريد أو يرد على تحيتك لا بأحسن منها، ولا أقل من ذلك، الصمت، العجلة هي التي تسيطر على الجميع، الكل مهرولون إلى أشغالهم وعائدون منها، الكل مشغول، الكل مرتبك، الكل خائف، الكل ملعون.
لا يعلم من تفاصيل المكان سوى أنه تحت شجرة، ينظر هل سيرى زقاقا، فلا يرى سوى البشر الهاربون إلى المكاتب والشركات والبيوت المتراصة فوق بعضها البعض، في بنايات عالية، بعضهم يقود سيارات وبعضهم يترجل، نساء ورجال وأطفال وعجائز، من كل حدب ينسلون وليس ثمة علامة على إمكانية للتفاهم معهم، يبدو ان لهم لغة مختلفة فالكلمات التي ينطقون بها غير مفهومة بالنسبة له، وأي لغة كان يتحدث "هو" لا يتذكر، فقط يمكنه أن يتحدث مع دماغه، مع تلك الجهة المجهولة في غيب بدنه، ثم يحاول أن يترجمها لكلمات فيعجز، كيف سيتفاهم معهم، سيكتفي إذن بالإشارة كأصم أبكم ويتأمل سحنتهم هم ليسووا غريبين عنه، سيتذكر بصعوبة أنهم أبناء جلدته، لكن لماذا هو عاجز عن فهم لغتهم، ما الذي جرى له أو لهم، هل هو في حلم، فإذا كان ذلك فسوف ينسى كل شيء بعد قليل ويضحك طويلا، سيحاول أن يستيقظ وأن يصدق أنه يحلم وعليه أن ينهض من سريره أو من منامه في مكان لا يتذكره داخل الحلم، لكن هذا الحلم طويل على ما يبدو، حلم يشبه حياة طويلة جدا، حياة مقلقه وقاسية.
ما الفرق بين النوم واليقظة؟ لقد خطرا بباله لكنه لم يفرق بينهما!
ما الحياة داخل حلم، وما الحلم داخل حياة، يتذكر بصعوبة دونما حاجة للغة يتذكر بها انه كان في عالم ما، وهناك كانوا يفصلون بين حياتين، حياة اليقظة وحياة المنام، لكن أيهما الحقيقة، أين الظل وأين الشجرة؟!، يقف على قدميه ويسير لخطوات، يقارن بينه وبين من حوله أحياناً يكتشف ان النظرات تلاحقه، فيكتشف انه عليهم أغطية وهو مجرد منها، هو إذن عار،
ويسرع أحدهم فينهال عليه بعصا، الجميع يعرفون إنه قاتل لكنه "هو" لا يعرف، فقط سيشعر بالألم ويبدأ في الصراخ، اللغة التي لا تحتاج إلى ترجمة، والجميع حوله يضحكون، ويبدأ في الشعور بالفرح وسط الألم، فهاهو سيبدأ الآن في فهم لغة بنى جلدته، "إنه الضحك" سيقول لنفسه، أيضا دونما حاجة للغة أو إدراك أن "ا ل ض ح ك " هي كلمة أو مفردة من شيء اسمه اللغة، هو أمر مفهوم، متبادل ويتم الشعور به، لكن إذا كان فهمه وفهم الألم فسيفهم باقي مفرداتهم وتفاصيل حياتهم قليلا قليلا، شيئا فشيئا، هو جائع ومتألم والشرطي يحمله إلى مكان ليس بعيدا، وجمهرة من الناس تنقاد وراءهما، ويدخل به من بوابة كبيرة مكتوب عليها بعلامات يتذكر ان لها معنى في ذلك العالم القديم الذي كان ينتمي له، لكنها الآن لا معنى لها، هي أشياء مغفلة ومنسية وغبية.
يدور حوار بين الشرطي ورجل يجلس وراء طاولة مترهلة قديمة منهكة بالية لا جدوى منها سوى أن الرجل يسند ساعده عليها ثم يقف ويحمل العصا ويبدأ في ضربه، يالهذا الحلم المزعج، متى استيقظ منه؟ يا لهذا المنام الطويل، ولكن لا جدوى!.
عليه إذن ان يصبر، وان يسكت لانه لن يقدر على التفاهم سوى بالهمهمة والصراخ والإشارة باليدين، في إشارات غير مفهومة البتة لهذه الكائنات التي ستبدو غريبة عنة رغم تذكره الآن بدرجة أوضح انه ينتمي لها، فقد أدرك انه يشبهها في الشكل، فهو يعرف الآن أنه لم يكن يشبه ذلك الحجر ولا تلك الشجرة،
سيحاول أن يفهمها أن يتألم لكنهما يقيدانه الآن بحبال متينة ويقودانه إلى غرفة صغيرة ثم يرميان به وهو يتألم ويصرخ ويتمادى في الضحك وحده بعد أن يبدأ الألم في التلاشي ساعة يسد الباب ويبدأ ضجيج الخارج في الخفوت وتغيب الإضاءة كأنما المكان مظلم أو هو كذلك أو أن الشمس قد غربت.

أيسر :

كان ايسر یحتضن إبنة احمد والدموع تسیل من عينة وھو يراه  غارق في دمه، وكان ھناك ثلاثة أشخاص یقفون ملامحھم غیر واضحة بسب النور المنبعث من خلفھم من مصابيح سیاراتھم التي تقف في الصحراء.

و التوقیت كان منتصف اللیل :

نظر ايسر إلى الشخص طویل القامة الذي كان یقف في المنتصف بغل وغضب،
والدموع تسیل من عیونه وقال له : لماذا فعلت ذلك؟
رد علیة بصوت هادئ مخیف : لأنة تدخل فیما لا یخصه
ايسر بغضب : سوف تدفع الثمن
رد علیة بنفس الھدوء : لن أمنحك الفرصة
صوب مسدسه نحو ايسر وأطلق رصاصة لتستقر في رأسه قبل إن يتحرك.

إنتقامحيث تعيش القصص. اكتشف الآن