الرابع والعشرين من ديسمبر الساعة الخامسة فجرا مع إشراقة شمس يوم جديد بدأت نور أولى خطواتها فى ذلك البلد الغريب
لتزيد بعدا أكثر عن وطنها والعالم الذى اعتادت الحياة فيه، تستقل سيارة أجرة من مطار مدريد متجهة للفندق وتنظر عبر النافذة لترى عالم آخر تراه فى الأفلام فقط، اختلاف الثقافة والمجتمع
معمار المبانى و تنوع الأزياء اختلاف اللون واللغة دنيا جديدة، تتذكر تلك النصائح والكلمات التى اوصتها بها أمها قبل أن تحلق فوق السحاب :
" ارتدى ملابس أكثر دفئا و لاتفوتى الوجبات ، كونى على اتصال معى دوما لا تلتقطى البرد واعتنى بصحتك جيدا "
ستفتقد تلك العائلة كثيرا كما لو ان ذلك الشهر سيمر كعام، ستفتقد حضن امها ودفئها حتى اطباقها الشهية و لحظات المرح والجدال بين أخواتها و التنورات التى تتشاركها مع أختها الصغيرة
، وأحمر الشفاه الذى أختفى كثيرا لتكتشف وجوده داخل حقيبة أختها، ذلك الشعور لم يختلف من ناحيتهم فقد كانت دوما الابنة والأخت والصديقة ،
تركتهم لتبدأ رحلتها باحثةً عن الكنز المفقود والجنة المسلوبة والأرض لا تعلم عنها سوى فى الكتب ومدينة كتب تاريخها بدماء المرابطين والشهداء و أقلام العلماء
أرض تحكى عن أمة عزيزة فى دينها وقوية فى عقيدتها، أرض الأندلس
******************************
لم تختلف تلك الساعة عن الساعة التى استيقظ فيها انريكى نفس الشمس التى داعبت نور فى رحلتها بتلك الصور والكتابات التاريخية هى من ايقظته بأشعة ذهبية تسللت إلى غرفته فى الفندق، المنظر ساحر لم تكن الطبيعة الخلابة وحدها هى ماتأثر قلبه بين الجبال بل الراحة والفخامة فى التصميم حوض السباحة الخاص بالغرفة بالخارج أمامه، يراه وهو نائم يعكس لون السماء لولا البرد لسبح فيه واحتسى كأسا من النبيذ وأطال بنظره بعيدا هائما فى الافق
لكن بدلا من الجلوس فى تلك الغرفة المعتادة فى كل رحلة فضل الذهاب فى الخارج والقيام بالجولة ارتدى حلته الرياضية الزرقاء ذات الخطوط السوداء البسيطة فى الأكمام وقد أحكم غلق السترة جيدا لتغطى رقبته و قبعة سوداء تخفى ملامح وجهه
وحذاء رياضى لونه اسود واستعد للركض بالخارج والتجول فى شوارع المدريد، وفى كل شارع وكل خطوة ذكرى بين طيات قلبه أزقة الشوارع والمحلات التذكارية خاصة ذلك المنزل الذى لم يتغير
لم يكن له ذكرى فى أول الربيع فقط بل حلم أيضا صنعه الحب لمن يحب و يتذكر تلك الكلمات التى قالتها فتاة الرابعة عشر بربطة شعر وردية وفستان ابيض مطرز و اسورة فضية ترتديها بامتنان وحنين إلى الأم التى تركتها و اهدتها تلك الاسورة كهدية تركض بجانبه وتبتسم بينما يتناولون المثلجات بعد ان انهى المدرسة لتقف امام ذلك المنزل الساحر القديم و زخرفة ومعمار يجمع بين الشرق والغرب فى اشكال هندسية وحروف عربية لا يعرفا معناها
أشجار التوت وهى تذهر فى حديقة المنزل و نافورة المياة فى وسط الساحة
تنظر لذلك الجمال واشعة الشمس تتسلل بين لأغصان وتهمس بوجه مبتسم :
"يوما ما عندما التقى بامى ساسكن معها فى ذلك المنزل ساشاهد معها تلك الأفلام المرعبة التى اكره مشاهدتها بمفردى سأملأ المنزل بأزهار اللافندر لطالما احبتها.
احبتها بالقدر الذى أحببت به أشجار التوت عندما ياتى ذلك اليوم دعنا نتناول المثلجات مرة أخرى ، انريكى"
أبتسم انريكى تلك الابتسامة المعتادة كلما رآها
وبعد واحد وعشرون عاما وقف انريكى عند ذات المبنى ولكن بدونها الفتاة التى أحب
وباختلاف السنين والأعمار اختلف المبنى أيضا واصبح اكثر قدما تساقطت أوراق
الأشجار واغصانها يحتاج لبعض التعديلات
والإصلاحات ولكن لا يبدو أن هناك أحدا متهما بالسكن فيه لذلك سيعرض للبيع فى مزاد علنى ظهر الغد...
نظر انريكى إلى اللافتة المعلقة عند الباب وفكر فى ذلك الحلم لتطرق تلك الأفكار فى ذهنه
"حتى وإن لم تكونى هنا معى سأكون أنا معك ساسقى الأشجار حتى تزهر ساعزف تلك المقطوعات الموسيقية التى احببتيها دوما
بالقرب من النافورة ساتناول المثلجات فى ايام الصيف الحارة وفى الأيام الممطرة ساجلس بالداخل لأشاهد
الأفلام واتناول كوب القهوة التى أحببته دوما حتى نلتقى مرة أخرى "
استقل سيارة أجرة ليعود مرة أخرى للفندق وفى الساحة قابل هنري الذى بدأ التحية
ويمزح معه قائلا:واو الساعة لم تتجاوز الثامنة و أنت بالخارج تمارس الرياضة اتقوم بتوزيع الجرائد بدون علمى؟
رفع انريكى حاجبه بابتسامة ونظرة ثاقبة فى عينا هنري ورد قائلا :اتمزح معى؟
بل تلك الغرفة الباردة التى قضيت الليلة فيها تكاد مياه المسبح تتجمد ما فائدة المنظر أن كان كل ما امامى مغطى بالجليد
هنري : لا تبالغ كثيرا فى حديثك
و اصنع لى معروفا وكن ضيفى فى حفل نهاية العام
أعطى له دعوة ذهبية و أكمل حديثه قائلا : لا تتأخر ستبدأ عند العاشرة مسائا
غمز بعيناه اليمنى و هو يلوح ويقول : أراك لاحقا
فقاطعه انريكى واكمل الحديث؛ وفى المقابل
هنري : ماذا؟
انريكى :اشترى لى بيتا بجانب مدرستنا القديمة سيباع غدا فى مزاد اذهب هناك أو أبعث أحد موظفين شركتك بدلا منى
فكر وقرر و ساعزف لك فى الحفل معزوفة الوداع
أدهش هذا العرض هندى كثيرا وحيره
ليس فى شراء المنزل أو قيمته بل ان انريكى هو السبب؟!
لماذا يرغب به وعائلته تعيش فى برشلونة منذ وقت طويل
ومن الممكن أن يشترى شقة بالقرب من والديه
لم يكن حتى منزله أو منزل جدته ترى ما السبب؟
اهى سارة؟
هناك منزل واحد أحبته كانت تجلس بالقرب منه كلما انتهينا من يومنا فى المدرسة حتى بعد سفره إلى هوليوود كنت أجلس معها هناك
************************
ألم يخطر ببالك يوما؟ عندما تقلب فى صفحات التاريخ وتزور الأماكن التى لم تزرها من قبل كيف كانت وكيف هى وما ستكون؟
تلك اللحظة التى تقلب فيها صورك القديمة وذكريات ماضيك؟ الأشخاص الذين قابلتهم تعابيرهم و ملامحهم صغارهم وشبابهم وهرمهم مدى اهميتهم وقربهم
والأيام التى جمعتكم و كيف الزمان يغير؟
هكذا بدأت نور فيلمها الوثائقى صورة تلو الأخرى تلك الكلمات البسيطة فى مفكرتها تعنى لها الكثير قبل أى أحد، تسافر من بلد إلى بلد وتبقى تلك الكاميرا بكل ما فيها من الذكريات ويبقى الأثر
فى كل شارع وفى كل خطوة خطتها وفى بلاد الأندلس أيضا قصص عن العلم والحضارة والحياة قبل الموت و الاستشهاد منذ الفتح إلى السقوط
تقف على أطلال حضارتها تبكى وتبتسم عزة لما كانت عليه هذة الأمة و حزنا على ما فيها، إن كنا خسرنا تلك الجنة من ضعف وخيانة وعذاب فكيف نحن اليوم نخسر أنفسنا قبل البلاد نستسلم بدون حرب أو ندم أو بكاء
تسير فى شوارع قرطبة القديمة وقلبها ملىء بالحسرة وهى تقف على باب مسجدها والشمس قربت على الغروب لا تسمع فيه صوت الأذان
كذلك الجدران القديمة بعد مئات السنين بدت حزينة تفتقد ترتيل القرآن وتكبير المصلين ودعواتهم وقت
السجود
يومها الأول كان فى قرطبة و اليوم الذى يليه فى اشبيليه ثم غرناطة وقصر الحمراء وشواطىء ملقا اسبوعا حافلا بالاماكن والتواريخ والمعالم الحروب والمعارك وضعت خطة كاملة للعمل والتصوير
ولكن ليس اليوم..
ففى تلك الليلة سيستقبل العالم سنة جديدة، ليلة مليئة بالاحتفالات والألعاب النارية، تسير بشوارع مدريد وتلتقط الصور تتأمل المشهد أمامها وأشجار الكريسماس المزينة بالانوار و الأطفال حولها يلعبون مع آبائهم..
ذلك المقعد الخشبى تحت الشجرة يجلس عليه زوجان عجوزان ملئ الزمن وجههما
بالتجاعيد وعلمتهما الحياة الكثير والكثير ولكن ما علماه للحياة هو الحب
تكتشف لحظات جديدة فى حياتها بنفس التوقيت فى كل عام تبدأ حياة جديدة، ولكن تلك الدقائق المعدودة قبيل الساعة الثانية عشر ملئت قلبها شعور الخوف والضياع
بينما تسير فى ذلك الزقاق الصغير متجهة إلى الشارع الرئيسى لتستقل الحافلة وتعود مرة أخرى إلى الفندق صادفت ثلاثة من الشباب يبدو عليهم سن الجامعة يسيرون بطريقة عشوائية يبدو عليهم آثار الثمالة....
يبتسم واحد منهم ناظرا لها بطريقة مريبة القت في نفسها الرعب وكانها تعلم مايقوله لاصدقائه بتلك اللغة الأجنبية التى لا تعرف عنها سوى كلمات قليلة تعرفتها فى الافلام "الفتيات العربيات لديهم سحر مختلف
لما لا نحظى ببعض المرح"
تسرع من خطواتها ليجرى أحدهم فيمسك بيدها فتوكزه بقبضة يدها الضعيفة و تنهار من البكاء.
لا يوجد أحد هناك و قد بدأ العد التنازلي فى الميادين استعدادا للسنة
وحدها تخاف لا تعرف الطريق ولا تعرف كيف تسير كل ما استطاعت فعله هو أن تضرب ساقه ضربة قوية بقدمها حتى يختل توازنه ويترك يدها
ولكنه أبتسم بغضب يضغط على دروسه، ويفقد حواسه ويصفع وجهها فيتورم خديها وتجرح شفتها
ويمسكها من حجابها فى عنف ويجرها على الأرض وهى تبكى وتصرخ فى خوف لا يوقفها سوى صوت واحد ياتى من الخلف أن اتركوها، ظل طويل تحت مصباح خافت تمعن النظر لتراه
ماهذا اهو روبن ام اننى فقدت عقلى بعض الشىء أأتخيل ام سقطت فى عالم الأفلام؟
يمشى ناحيتها بسرعة ، فيمسكه أحد من كتفه ليتوقف ولكن لا يجد ردا سوى الضرب لكمة على وجهه وبدأ الشجار بينهم، يتفادى الضربات ويوجهها بمهارة تفوق الأفلام مهارة واقعية وقوية حتى وإن لم ينقذها على الأقل سيمد لها يد المساعدة ويترك لها مجال للهروب لتعود للوقوف مرة أخرى وتركض باتجاه مبنى تحت الانشاء تصعد على السلم بخوف هاربة من ذلك الفتى الذى يركض نحوها
وورائهم روبن بعض أن فقدا الآخرين وعيهما
لتقف عند نهاية الطابق الأول عند حافة بغير سور ويأخذ خطوات نحوها بطيئة
خطوات يأخذها الصياد قبل اصطياد فريسته ومع كل خطوة تركض هى للوراء
حتى سقطت من الحافة واصطدمت بشاحنة نقل واقفة تحمل بعض الاخشاب المكسورة وأكياس من الرمل والاسمنت تشعر بألم شديد فى ظهرها وراسها تنزف
تنظر للسماء لترى عرض الألعاب النارية وفى عقلها ذكرى أشد مما هى فيه
ذكرى تحمل نفس الشعور الموت و هى على قيد الحياة...
تحت الأسمنت والانقاض لثمانى وأربعين ساعة بعد قصف منزل جدتهالا ترى ضوء النهار ولا تنير سمائها النجوم لا تشرب سوى الخوف والتراب
تغلق عينيها باستسلام لواقعها
فى تلك اللحظات والسماء منيرة يركض كل من حولها هربا بعيدا ويركض هو باتجاهها فى ذعر وكأن هذا المنظر و دماء تلك الفتاة تطارده من جديد
أنت تقرأ
بحبها اهتديت ❤
Romanceبين الشرق والغرب اختلافات فى الفكر والروح وحروبا بالقلم قبل البنادق فماذا عن حروب الحب كالقطارات نحيا فى خطوط متوازية نلتقى ونتقابل ولكن لكل منا طريقه فمن الذى سيمضى فى طريق الاخر ويتنازل ولعل تلك الرواية تلخص فروقا بين العالمين وقلبين التقيا وارض...