الحلقة الأخيرة

8.8K 407 58
                                    


مرت ثلاثة أشهر منذ انتقلوا إلى ذلك المجمع السكنى ، حقا الحياة به تختلف تماما عن الحياة بوسط البلد، فهنا لا ازدحام ولا ضوضاء هدوء يبعث للسكينة والراحة النفسية ، لكن كلما زادت الراحة كلما قست الماديات .
الحياة فى المجمع السكني تحتاج لمصروفات أكثر فهنا لا أسواق شعبية عليك شراء كل لوازمك من المتاجر بأسعار أعلى ، مما يزيد الضغط المادى على الأسر التى تنعم بالأطفال.
بدأ العام الدراسي وإلتحق الطفلين بمدرسة قريبة ، لم تشعر هنا بالراحة رغم أن المنزل اكبر من شقتهم القديمة وله حديقة خاصة إلا أنها تشعر بالوحدة فى غياب أطفالها بل وأحيانا بالخوف فلم تتعرف إلى أحد واحتفظت بخصوصية لنفسها.
بدأ فاروق يشعر بالضغوط المادية التى تسبب بها الفرق في مستوى المعيشة، إلا أنه لا يملك حق الشكوى فهو من أختار تلك الحياة وعليه أن يدفع مقابلها .
زادت هنا بعدا عن فاروق وأصبحت تقضى معظم وقتها منشغلة بهاتفها ، حتى اوقات الطعام لم تعد تجمعهم فالعودة إلى المنزل الآن تستغرق منه وقتا أطول لذلك فهى غالبا تتناول الطعام برفقة الطفلين لانشغالهما بالدروس وأصبح فاروق وحيدا اكثر مما كان سابقا .
أعدت الغداء لفرد واحد وجلس هو للطاولة ينظر للطعام بنفور : أنا هاكل لوحدى بردو .
رفعت عينيها عن هاتفها ونظرت له بجمود : الولاد ما بنفعش يستنوا من غير اكل لحد الساعة خمسة واذا ماكلتش معاهم مش هياكلوا .
زفر بضيق فهى محقة ، امسك ملعقته وبدأ يتناول طعامه بصمت وهو يختطف النظرات لها فيجدها منشغلة عنه تماماً . كم افتقد ثرثرتها أثناء تناول الطعام! لم تكن لتصمت قبل أن تقص عليه تفاصيل يومها بكل دقة .
شرد قليلا فهو الملام فى كل هذا ، أراد أن يستحوذ على كل أوقاتها له وحده ، شعر بالغيرة من مغادرتها المنزل حتى فى غير وجوده ، قرر وخطط ونفذ ليضعها أمام الأمر الواقع وتضطر للرضوخ وقد فعلت بعد مقاومة ارهقته فيها ببعدها عنه ليظن أنه فاز في حربه التى أعلنها على حياته ليكتشف الآن أنه الخاسر الوحيد.
لقد فاز وأصبح له كل وقتها لتقضى هى هذا الوقت بجواره وليست معه ، إما تتابع مواقع التواصل الاجتماعي أو تتابع التلفاز باهتمام مستحدث ، أو حتى تتحدث عبر الهاتف بالساعات إلى صديقاتها . لتتفن فى قضاء الوقت بعيدا عن محيطه الخاص .

**********************
زادت الأعباء ومع ابتعاد هنا وتجنبها له قدر الاستطاعة أصبحت الحياة شديدة الصعوبة، لم يعد بها مجالا للراحة إلا حين يراها تبتسم ، حقا لم تعد ابتسامتها موجهة له فهى إما تطالع الهاتف أو تتحدث عبره ،لكن يكفيه أنها تبتسم .
فاض به وقرر أن يتنازل عن هيمنته ويعترف بالحقيقة عل هذا الطريق الوحيد للعودة للإرتواء من نبع اهتمامها الذى لا يقوى على الحياة بدونه .
ما أصعب أن تشعر أنك بلا أهمية لمن تحب ! ما أقسى أن تكون على هامش حياته ! ما أسوأ أن يحيا معك جسدا بلا روح !
لكن هل إعترافه بالخطأ يشفع له ؟ هل تعود لتضمه إلى دفء قلبها ؟ هل تقبل أن تتعايش مع ما فرضه عليها ؟
لا لن يترك مجالا للمخاوف لتسيطر عليه ، لن يضيع المزيد من حياتهما معا ، لن يتخلى عن حبه ابدا . لقد كانت محقة كيف يطلب منها أن تتنازل لأجل الحب وهو نفسه لم يفكر في التنازل ؟
حسنا . يكفى عذابا لقد إكتفى من تلك اللعنة التى سيطرت على عقله ونحت قلبه جانبا لتتحكم بحياته التى كانت مثالية فتصل به إلى هذا العذاب.
تحين الفرصة المناسبة للتحدث معها . وقد حانت فرصته فى أحد الأيام حين عاد من عمله ليجدها تجلس بنفس هذا الهدوء الذى يكرهه تلفت حوله : الولاد فين ؟
لم تكلف نفسها عناء النظر إليه وهى تجيب ببرود : راحوا يلعبوا فى الجنينة مع أصحابهم .
تألم لاهمالها له فكان ألمه دافعا لإنهاء هذه المهزلة كما أطلق عليها فإقترب ليجلس بالقرب منها لكنها لم تلتفت إليه ليقول : ممكن تسيبى الموبايل وتبصى لى ؟ عاوز أتكلم معاكى .
ظهر الضجر على وجهها وهى تغلق الهاتف وتضعه جانبا وتنظر له ببرود ليتساءل: ممكن ننهى المهزلة دى؟
نظرت له بإستفهام ولم تتحدث ليزفر بضيق : ماشى يا هنا انا غلطان .
عقدت ساعديها وهى تقول: غلطان فى ايه ؟ أنا مش فاهمة حاجة .
أمسك كفها ليجذبها لتجلس بجواره على الأريكة وهو يقول: حياتنا بقت مهزلة ، من ساعة ما رجعتى من عند والدك وانت مش عايشة معايا ، أنا تعبت يا هنايا . وحشتينى يا هنا قلبى .
تزحزحت قليلا مبتعدة عنه وهى تقول بلوم : انت فاكر أنك تلغى وجودى من حياتك وتاخد قرارك وتخبيه عنى ، وتصر تنفذه من غير ما تفكر تتفاهم معايا تنفذه علشان قرارك ، تنفذه وتجبرنى اتأقلم معاه يعنى ببساطة تنقلنى من خانة شريكة حياتك وتحطنى على الهامش والمفروض منى أنى اتقبل ده واعاملك عادى .
صمتت لحظة تلتقط أنفاسها قبل أن تقول: إذا عملت كدة هبقا ببنافقك يا فاروق ، هبقا أنا كمان قررت اتخلى عن وجودك في حياتى واعيش معاك بوشين . وأنا معرفش أعمل كدة ، أنا أسفة يا فاروق لكن ما اقدرش أعيش على الهامش.
جمع كفيها معا ليتمسك بهما بدفء : أنا هقولك الحقيقة يمكن تقدرى تسامحينى ، انا فعلا كنت عاوز ابعدك عن كل الناس  ، كنت عاوزك ليا لوحدى ، أنا بحبك يا هنا وفجأة اتملكت منى
الأنانية .
نظرت له بعتاب : بس انت عمرك ما كنت أنانى يا فاروق ، ليه تعمل فينا كدة .
طأطأ رأسه بأسف: معرفش انا فكرت لما نبعد عن حياتنا القديمة هنبقا أسعد لكن دلوقتي نفسى نرجع زى ما كنا . نفسى أخدك فى حضنى وأنا حاسس انك ليا لوحدى .
حاولت جذب كفيها ليضغط عليهما ويرفض تحريرهما وهى تقول بلوم : أنا من يوم ما عرفتك وأنا ليك لوحدك . لكن انت حبيت تحبسنى بعيد وتتحكم فيا ، وإلى بيحب ما يعملش كدة .
بحبك يا هنا : قالها بلهفة وشوق واضحين ليصمت برهة ويتابع : بحبك اوى والله العظيم.
زادت محاولتها لتحرير كفيها رغبة منها في الابتعاد عنه وقد أوشكت على البكاء : كنت بتحبنى يا فاروق دلوقتي بتمتلكنى والفرق كبير الحب نعمة أما الامتلاك مرض .
حرر كفيها ليحطها رافضا بعدها عنه : سامحيني يا هنا قلبى ، علشان خاطر حبنا ، حبنا يستاهل نضحى علشانه ، ولادنا يستاهلوا نضحى علشانهم .
ظلت تعافر لتبتعد عنه : أنا ضحيت فعلا لما قبلت أعيش على هامش حياتك . عاوزنى أعمل ايه تانى ؟
قالت كلماتها الأخيرة بصراخ ليزيد من ضمه لها بلا قوة مفرطة ويحاول امتصاص غضبها منه : هششش لا يا قلبى ماتعشيش على الهامش انا عاوزك كل حياتي يا هنا عاوز اشوف ضحكتك ليا عاوز اهتمامك وحبك عاوز حنيتك وخوفك عاوز ضعفك وقوتك عاوزك كلك يا هنا .
بدأت تستكين ليقول برجاء : وحشتينى يا هنا قلبى، وحشتينى اوى.
ارخت رأسها فوق كتفه وهى تتمتم بخفوت : أنا ماروحتش فى حته علشان اوحشك .
أبعد رأسها لينظر لها ويقول بألم : روحك راحت منى ، أنا ضيعتها ، انت عايشة معايا جسم من غير روح .
ابتسمت بسخرية ليبتلع تلك الغصة بحلقه قبل أن يقول: طول عمرى بغلط وانت بتزعقى لى بتتخانقى معايا وتعرفينى غلطى أرجعى لى يا هنا ، أرجعى لى بالله عليك.
لم تعد تحارب لتبتعد عنه بل قررت هى أيضاً أن تعترف بالحقيقة ، فالتصارح هو الطريق الوحيد الذي سيعود بحياتهما لمجراها الطبيعي فإقتربت لتريح رأسها على صدره وقد بدأت دموعها تعلن العصيان وتفر من محبسها وهى تقول: أنا كمان هكون صريحة معاك ، انت فاكر انى مرتاحة بحياتنا كدة ؟ لا طبعا أنا كمان نفسى نرجع زى ما كنا بس انت كان لازم تفوق علشان نقدر نكمل من غير ما نخسر بعض ، كان لازم تعترف بغلطك وتعرف إننا كيان واحد ماينفعش تتحكم فيه بأنانية .
قبل وجنتها برقة وهى تقول : إحنا الاتنين غلطنا وآن الأوان إننا نتجاوز المرحلة دى بس لازم كل واحد يعترف بغلطه ومايكرروش

***********************
فى وقت متأخر من الليل وقد انتظت انفاس هنا وأستسلمت للنوم بينما يضمها فاروق بحنان وهو يفكر فى حياته التى ارتبطت بحياتها منذ وقعت عينيه عليها ، حقا إن الحياة دائما ما تضعنا فى إختبارات صعبة يفكر فاروق ثم يبدأ في التحدث إلى نفسه : وأوقات إحنا بنصعبها على نفسنا
إختلس نظرة لحبيبته الغافية بهدوء بين ذراعيه وهو يتمتم : بس أهم حاجة إننا نصارح بعض عمر الوقت مابيتأخر مهما إتأخرنا نقدر نراجع نفسنا ، لازم نفضل نحارب علشان نقدر نكمل .
إستدار بجسده كاملا ليداعب وجهها النائم : الحمدلله إن حبيبتي عاقلة وقررت تعاقبنى وهى جمبى ، أنا فعلا كنت محتاج افوق واعترف بغلطى .
زادها إقترابا منه وقد إختفت همساته لتتحول لهمهمة داخلية : عمرى ما اتكسف اعترف بغلطى قدامك .
دفن وجهه فى خصلات شعرها وهو يتمتم بين اليقظة والمنام : بحبك يا هنا قلبى

تمت بحمد الله
لعنة الهيمنة
بقلم قسمة الشبينى

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Feb 13, 2019 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

لعنة الهيمنةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن