كان مرافق ميغ هو الذى اخترق هذا الصمت قائلا بهدوء وهو يهز كتفيه : " هكذا إذن
تنفست ميغ وهى تقول : " شكرا .... شكرا لك "
وكان الدمار فى سيارتها ينحصر أكثره فى ناحية السائق . فقد كان السقف المحطم قد التصق بالمقعد كما تهشمت الواجهة الزجاجية بفرع كبير من تلك الشجرة .
وفى ذلك المكان بالذات ، كانت هى منذ لحظة واحدة ، جالسة شاعرة بالأمان التام . ولو لم يأت هو ، فى تلك اللحظة ، ليرغمها على ترك مكانها ذاك ... ولم يستطع عقلها ، الذى أذهلته الصدمة ، متابعة التفكير فى ما كان سيحدث لو تمسكت بعنادها ولم تطعه فى ذلك ، وحاولت أن تتكلم .... أن تشكره بصورة صحيحة هذه المرة ، ولكن ، بدلا من ذلك ، وجدت نفسها تنخرط فى البكاء .
وهمهم هو بشئ ما ، بعدما جلس قربها ، راميا بالمعطف إلى المقعد الخلفى ، وهو يتناول زجاجة تحوى شرابا منعشا ، فتحها ثم قدمها إليها قائلا : " هاك اشربى هذا "
ثم تناول علبة المناديل الورقية يقدمها إليها ، لتتناول منها واحدة تغطى بها عينيها وهى تنشج قائلة : " سيارتى ، سيارتى ..."
حاول أن يهدأ من روعها ، فقال :" عندما أستأجرت السيارة ، أخذت بها بطاقة تأمين مما يخول لك أخذ بديل لها ، الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى حياتك "
قالت وهى تقاوم دموعها وقد ابتدأت تتمالك نفسها : " معك حق "
وعندما هدأت تماما ، واستطاعت أن تتكلم قالت : " إن كل أشيائى كانت فى صندوق السيارة . إننى أعرف أن من الحماقة أن أقول هذا ...."
فقال وهو يأخذ مفاتيح سيارتها من يدها المتهالكة :
" سأحضرها إليك
تعلقت بذراعه قائلة : " كلا ، لا تجازف .... دعها "
قال وقد تحولت لهجته إلى الرقة : " لا بأس ، أنظرى إلى صندوق السيارة فهو سالم تقريبا
قالت : " ولكن ربما يحدث انهيار آخر للأرض "
ذلك أن البرق والرعد كانا لا يزالان يتناوبان فى السماء فتهتز تلك الأنحاء . وتخيلت ميغ انهيارا صخريا آخر ينهال على هذا الرجل كما حدث بالسيارة .
ولأول مرة ، وجدت نفسها تحدق فيه للمرة الأولى ، فى الضوء المنبعث من السيارة . كانت تدرك أنه طويل وقد سبق وأخذت فكرة عن مبلغ قوته أثناء اندفاعها السريع ذاك من سيارتها. ولكنها ترى الآن أنه كان شابا فتيا فى بداية الثلاثينات من عمره ، رغم أنها لم تكن خبيرة بمثل هذا التقدير .
ورأت شعرا كثيفا أسود منظما ، ووجها نحيلا ذا خطوط حول الفم والأنف والذقن توحى بالقوة والكبرياء . هذا إلى عينين قاتمتين عميقتين تحت جفنين ثقيلين .
هز كتفيه مرة أخرى وهو يقول : " أظن أن الأسوء فى ما يمكن أن يحدث قد مر وانتهى "
وارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية وهو يتابع : " هذا إلى أننى أحمل طلاسم سحرية "
ربما كان هذا صحيحا . وجلست لا تجرؤ على النظر خلفها ، متوقعة بين لحظة وأخرى ، أن تسمع صرخة ألم .ولكن ، لم يكن هناك سوى اندفاع الماء إلى النهر المتدفق المتعاظم شيئا فشيئا . وفى ناحية قريبة ، تعالت زقزقة طير تعلن انتهاء العاصفة .
وتخيلت أنه غاب أكثر مما ينبغى ، فأدارت رأسها لتراه واقفا عند مؤخرة سيارتها الرينو وقد تصلب جسده وكأنه استحال إلى صخرة هو الآخر. وفكرت فى أنه ربما كان صندوق السيارة من التهشم بحيث لم يستطع فتحه ، ولكنها كانت مخطئة ، إذ أنه توجه إلى سيارته الستروان ، وقد حمل حقيبتى سفر فى كلتا يديه . لتسمع بعد ذلك صوت ارتطامهما وهو يضعهما فى صندوق سيارته .وعندما عاد إليها ، بدا مقطبا حاجبيه مستغرقا فى التفكير . وانتابها شعور بأنه ربما كان غاضبا من شئ ما يحاول إخفاءه .
ربما أدرك الآن أن شهامته هذه شكلت عليه عبئا مؤقتا بالنسبة إلى مسافر غير مرغوب فيه ، على الأقل .
وانتابها الأسف ، فهى لم تكن تلومه لامتعاضه الذى أصبح من واجبها ، الآن ، التسرية عنه .
قالت بحذر : " لقد كنت معى فى منتهى الشهامة ، وأنا أكره أن أثقل عليك أكثر من هذا . ولكننى فى حاجة إلى أن أصل إلى فندق الأوبرج دى سورس دى بيرون بامكانى الحصول على غرفة هناك ، وسوف أتدبر أمر السيارة "
كان يبدو مستغرقا فى التفكير ، ولكنه ، عندما سمع كلامها هذا ، أدار رأسه إليها ليقول بشئ من الدهشة : " هل سبق وحجزت غرفة فى الأوبرج ؟ "
فقالت : " حسنا ، فى الحقيقة كلا ، ولكن إنه المكان الذى كنت ذاهبة إليه قبل حدوث العاصفة تلك . فقد أرشدونى إليه "
قال : " إنه مكان محبوب عند السواح . وكان من الأفضل لو كنت حجزت غرفة مقدما " وازداد تقطيب جبينه وهو يستطرد : " أليس عندك خطة بديلة لهذه ؟ "
أجابت : " ليس ثمة ما هو مؤكد ." وسكتت . فلم يكن فى استطاعتها أن تطلب منه أن يأخذها كل ذلك الطريق إلى هاوت أرينياك . لقد كان هذا الذى حدث لها , نكسة قوية أفشلت مخططها , ولكنها كانت تشعر بالخوف من أن تصل إلى القصر مبكرة عن الموعد دقيقة واحدة . واستطردت وقد بدت على شفتيها شبح ابتسامة : " على أن أجازف لاحتمال أن أجد غرفة خالية ."
ألقى عليها نظرة أخرى طويلة , ثم قال بلطف : " ليس من الحكمة دوما , يا آنسة , أن تجازفى , خاصة حين تكونين بعيدة عن موطنك ."
كان فى صوته نبرة غريبة تتضمن نوعا من التحذير الذى يقرب من الوعيد , كما تراءى لها , جعل رعشة تشمل جسدها بأكمله , أم لعلها مجرد تصورات نتيجة للصدمة التى أصابتها ؟
لا بد أن الأمر كان كذلك , لأنه ابتسم لها فجأة , وكانت ابتسامة فاتنة خففت من صلابة فمه المتكبر ذاك .
لم يكن وسيما بكل معنى الكلمة , كما بدا لميغ , ولكنه كان ذا جاذبية مخيفة . كان نوعا من الرجال لم تحلم بمقابلته من قبل . انها تتمنى لو وصلت بسرعة إلى الفندق كى لاتراه بعد ذلك أبدا , ذلك لأنها , بالرغم من روح المغامرة التى تشعربها , شعرت أن هذا الرجل يمثل خطرا أكبر من أى خطر يمثله أى انهيار أرضى أو صخرى .
التوت ابتسامته قليلا, وكأنما شعربما يدور فى خلدها , مما أشعره بالسخرية , ليقول بعد ذلك وهو يدير المحرك : " هيا بنا نذهب ."
ولم تكن الرحلة سارة مع أن المطر قد توقف , وابتعدت العاصفة إلى حيث كانت تدمدم من بعيد , لتسمح للشمس الباهتة أن تتقدم , بظهورها , بالاعتذار لما حدث .
كان مرافقها هادئا قليل الكلام , ولكن ربما كان ذلك كما تصورت ميغ , لتركيزه على القيادة فى هذا الطريق الصعب الذى كان ممتلئا بالحطام , فقد كان يضطران إلى التوقف مرارا لكى يزيحا من الطريق ما يكون هناك من أحجار وأغصان أشجار تعترضهما .
قالت له أثناء عودته إلى السيارة , وهو يمسح يديه ببنطاله الجينز : " هل الطريق بهذا السوء على الدوام ؟ "
فأجابها وهويلقى إليها بنظرة جانبية , بينما كان يدير محرك السيارة :" لقد شاهدت طرقا أسوأ من هذه . لقد كان هذا ترحيبا بأولى زياراتك إلى فرنسا ."
قالت عابسة : " وكيف علمت بأنها أولى زياراتى لفرنسا ؟ أذلك من رداءة لغتى الفرنسية ؟"
أجاب وهو يهز كتفيه : " ليس لدي أية فكرة وانما خمنت ذلك . كما أن لغتك الفرنسية ممتازة . وهذا غريب ." ونطق الجملة الأخيرة بجفاء
سألته : " لماذا تقول ذلك ؟ "
أجاب بعد صمت قصير : " لأن الكثير من رجال بلدك لا يهتمون بتعلم لغتنا . أنهم يظنون أنهم إذا هم رفعوا صوتهم قليلا , وأبطأوا بالكلام فسنفهم ما يقولون ."
أومأت ميغ برأسها أسفة , إذ سبق وسمعت نفس القول من المعلمة التى كانت تدرسهم اللغة الفرنسية فى المعهد الليلى . وهى سيدة فرنسية متزوجة من انكليزى .
وقالت : " أظن أن السبب فى ذلك يعود لشعورهم بأنهم سكان جزر , فهم لا يشعرون بأنفسهم جزءا من القارة الأوروبية . وقد تتغير نظرتهم هذه إذا ما تم إنشاء نفق القنال فى بحر المانش ."
أجاب : " ربما ."
تبع ذلك صمت آخر . كان يقود السيارة بمهارة فائقة , كما لاحظت ميغ , وكانت يداه الرشيقتان تديران عجلة القيادة دون أى مجهود .
كانت ملابسه بسيطة , وبنطاله الجينز ذات قصة جيدة , وكانت أكمام قميصه الأبيض مثنية تبرز عضلات ساعديه . والشئ الوحيد الذى كان يتزين به هو ساعة ذهبية .
لم تستطع ميغ , وهى تتأمله من تحت أهدابها , أن تخمن الفئة التى ينتمى اليها , مهنية كانت أم اجتماعية , ولكنها ما لبثت أن تذكرت قلة خبرتها فى ذلك وأنها , فى ما يختص بالرجال , كانت عديمة الخبرة تماما , ما عدا السيد أوتواي صاحب المكتبة , وتيم هانزبي الذى كان يجمع كتب التاريخ العسكري , والذى دعاها , ذات مرة , للذهاب معه إلى لندن فى زيارة إلى المتحف العسكري الأمبراطوري .
وقد استمتعت ميغ بزيارة ذلك المتحف أكثر مما توقعت . ولكن تيم , حيث أنه كان وحيد والدته الأرملة المتعلقة به , لم يكن ليصلح أكثر من مجرد صديق عادى . فقد كان ما يزال يعيش مع والدته . وقد شعرت ميغ , حينذاك , بالشفقة على الفتاة التى تقع في حبه , ذلك أن والدته كانت مصممة على أن تحتفظ بحياتها تلك معه كما هى دون تغيير . ومع ان مرافقها الآن لم يكن يبدو عليه أنه مرتبط بأية امرأة , الا أن ميغ اعتبرت أن المظاهر قد تكون خداعة , فقد يكون مرتبطا بامرأة سليطة اللسان وفوج من الأطفال , وسيخبرهم هذه الليلة , بعد العشاء , كيف انقذ سائحة انكليزية وحيدة من العاصفة , جاعلا مما حدث مجرد قصة مسلية .
وعندما تنفرد به زوجته , فى ما بعد , ستسأله , كيف تراها تبدو تلك الفتاة الانكليزية ؟ وسيبتسم وهو يقول : انها مجرد فتاة عادية , فأنا لم أكد ألحظها ..
عندما نظر إليها , أدركت ميغ ان آهة خفيفة كانت قد أفلتت منها , فأسرعت تقول : " هل مازالت الطريق أمامنا طويلة إلى الأوبرج ."
أجاب : " حوالى الكيلو متر الواحد . هل تجدين الرحلة مملة ؟ "
أسرعت تقول : "آه . كلا ,. ولكننى أخشى ان يكون لديك عمل تود القيام به . اننى اشعر بنفسى مزعجة ."
أجاب :" انت مخطئة , فأنا مسرور بتقديم هذه الخدمة لك . لأن هذا هو طريقي , فأنا سأمر بالاوبرج على كل حال , وهكذا , الفائدة تعود علينا نحن الاثنين . ان اسمى هو جيروم مونتكورت . هل يمكننى أن أعرف اسمك أنت أيضا ؟"
فتحت فاها لتقول ميغ لانغتري , ولكنها عادت فترددت , ولم تقل شيئا . فقد جاءت إلى هنا لتكون مارغوت . وساورها الشعور بالذنب اذ وجدت نفسها تكاد تنسى ذلك . ولكن , بما أن الخداع لابد أن يبدأ على كل حال , فماذا لا تبدأ به مع هذا الغريب ما دامت لن تراه مرة أخرى ؟ ولكنها , فى نفس الوقت , ادركها الرعب من أن تدلى بتلك الكذبة المحضة . وفكرت , وهى تطلق آهة , انها ليست من النوع الذى يجيد حبك المؤامرات .
واخيرا , قالت بابتسامة مصطنعة : " دعنا نقل مارغريت فقط ." وفكرت فى أن هذه نصف الحقيقة على كل حال , وقد لاتحتاج علاقتها معه إلى أكثر من هذا .
قال بلطف : " إنه إسم زهرة , وهو أيضا اسم ملكة فرنسية مشهورة . ربما قد سمعت باسم الملكة مارغوت واسمها الحقيقى مارغريت دي فالوا والتى تزوجت من هنرى أوف نافار ؟ وكانت من أجمل نساء عصرها . ويسمونها السيدة المغامرة ."
تحركت ميغ بقلق وهى تسمع الاسم , ثم سألته : " مامعنى هذا اللقب ؟"
هز كتفيه قائلا : " معناه أنها كانت تحب المغامرات العاطفية , خصوصا مع رجال غير زوجها . لقد اكتسبت سمعة سيئة جدا ."
قالت : " لا أظنها كانت سعيدة مع زوجها هنري اوف نافار إذن ؟ "
فضحك وهو يجيب : " آه , ولكنه هو أيضا لم يكن خاليا من العيوب . وربما كان هذا هو السبب فى أن فرنسا ما زالت تذكره باعجاب وتسميه الرجل الشجاع ."
قالت ميغ متسائلة : " وطبعا . كان الزواج فى تلك الأيام , يقوم على المصلحة فقط . ولهذا . أظن أن الأزواج كانت لهم عذرهم فى ذلك ما داموا قد ارتبطوا بغير حب ."
قال بسخرية : " وما رأيك بالنسبة للزوج إذا كان مرتبطا بهذا الذى نسميه حبا ؟ "
قالت بحزم : " إذن فلا عذر أبدا للأزواج فى الخروج على الرابطة الزوجية ."
قال : " إن كلامك هذا يدهشنى ."
أجفلت قليلا وسألته : " لماذا ؟ "
فتردد جيروم لحظة , ثم قال وهو يرفع كتفه : " لأن هذا قد أصبح رأيا قديما ضد المفهوم الحديث . أما مفهوم العصر فو , زواج سهل يتبعه طلاق سهل ."
هزت ميغ رأسها قائلة : " لا أصدق هذا , فالطلاق ليس سهلا أبدا . ذلك أن أحد الزوجين سيصيبه الضرر البالغ , وخصوصا إذا كان هناك أولاد ."
ألقى عليها نظرة سريعة وقال : " لم أتوقع أن التقى بفتاة مثالية . "
قالت برزانة : " إنك , إذن , لم تتوقع التعرف إلى أبدا . "
ابتسم مرة أخرى , فشعرت بجاذبيته تتغلغل فى نفسها برقة فائفة مع ابتسامته تلك . وقال : " ألا تظنين أن القدر , وليس العاصفة , هو ما جمع بيننا ؟"
أطلقت ميغ ضحكة قصيرة , شاعرة برجفة خفيفة فى صدرها , وهى تقول : " إننا فى انكلترا , يا سيدى , اعتدنا على توجيه اللوم إلى الأحوال الجوية فى كل شئ . "
ضحك هو أيضا , وقال : " وفى فرنسا , يا آنستى , زهرة المارغريت تميل دوما نحو الشمس . تذكرى هذا ." وسكت لحظة ثم عاد يقول :" هو ذاك فندق الأوبرج أصبح امامنا ."
وفجأة , شعرت بشئ من الخيبة تكتنفها . ماذا جرى لعقلها لتدع رجلا غريبا يؤثر عليها بهذا الشكل ؟ حقا أنه انقذها وأنها ستبقى مدينة له بهذا الجميل على الدوام , ولكنها لم تكن متأكدة من أنه أعجبها . فقد كان شخصا لا يمكن التنبؤ بسلوكه . ألا يكفيها ماهى فيه من مشكلات , حتى تضيف إليها هذا أيضا ؟
أنت تقرأ
اغنية الفجر ـ سارة كريفن ( قلوب عبير ) دار النحاس ( كاملة )
Roman d'amourإنك تخفين شيئا في أعماقك ,يا مارغريت " لو أن جيروم مونتكورت يدرك مدى خداعها ! فهو لايعلم شيئا .. حتى الاسم الذى ذكرته له , لم يكن اسمها . منتدى ليلاس ولكن ميغ وجدت ان ذلك الرجل الفرنسي الجذاب كانت له أسراره هو أيضا .. ليس أقلها ماهية شعوره الحقيقي ن...