كانون الأول 1942
الحياة مصطلح لا يمكن حصره في تعريف واحد. مصطلح له معاني عدة. البعض يعتقد بأن الحياة نعمة من الله، بخلاف فئة أخرى من الناس التي تعتبر حياتها نقمة. البعض يرى في الحياة حلم وهدف ينبغي تحقيقه للوصول إلى السعادة والهناء. فيما البعض الآخر يعتقد بأنها ليست سوى أيام معدودة ومقبوضة بأيدي القدر.
الحياة ليست عادلة. هذا ما يؤمن به البعض حيث تكون حجّتهم سؤالاً واحداً ألا وهو: كيف ستكون عادلة طالما أنه في الثانية الواحدة يولد طفلان، فيكون في فم الأول ملعقة ذهب فيما تعجز والدة الطفل الثاني بأن تكسو جسده المبلّل؟
ولكن لننظر إلى سيرة هذين الطفلين. صحيح بأن الأول وُلد ابن عز وجاه، صحيح بأنه يلعب بالمال ويعيش في قصر ولديه حاشية تخدمه، ولكن هل هو مسرور بالفعل؟ هل يتمتع بجوهر الحياة الأساسي؟ وبالرغم أن للطفل الثاني حياة شاقة، من الممكن أن يكون سعيدا وراضياً في حياته، يطمح للأفضل ويسعى لتحقيقه. وعند قدوم ساعة هذين الطفلين، سيدفنان بالتراب. لن يُدفن الأول تحت تراب مرصع بالذهب، فالتراب تراب.
الحياة أنصفت سالم بك الجردي وزوجته منى خانم. فمنذ النفس الأول الذي أخذه سالم بك وكان الثراء يتلاعب في الهواء. فسعيد بك، والد سالم، ورث عن والده الشيخ ناجي بك مالاً وثروةً تعجز النيران عن حرقها. وهذا مما ربّع العائلة على السلطة والحكم في مدينة عاليه.
ولكن هنا يكمن السؤال: هل الحياة مال وثروة؟
هذا ما كان سالم ومنى يظنان بأن الحياة جاه وسلطة، مال وثروة، قصور وأراضي. إلا أن الفاجعة الأليمة التي حلّت بهم ليلة أمس هدّت حيلهما وجعلت حياتهما تتوقف. فالبك والخانم خسرا ابنهما البكر، ياسر الذي قُتل وهو عائد من الأوتيل الذي يديره في عاليه. فما من شيء يجعل حياة الوالدين تافهة وتتوقف سوى خسارة الابن. ففي ذلك نيران تحرق قلوبهما وتحولها إلى رماد من الذكريات.
ولكن في هذه الحالة، أوّد أن أقول شكرا للموت. نعم، شكرا للموت. فالموت يعلّمنا كيف نحيا.
من السهل أن نحيا ونعيش، لكن من الصعب أن نحيا بطريقة جيدة. شكرا للموت في ذلك، فهو يعلمنا ماهية الحياة الحقيقية. يعلمنا بأن الإنسان رخيصاً جدا بثروته، وغنيّاً بأخلاقه وأعماله.
هذه الكارثة لم تكن الوحيدة التي أصابت سالم بك وعائلته، بل المصيبة الكبرى هي فضيحة الأخوة. فجميع التهم موجّهة إلى جاد سالم بك، ابن سالم من زوجته الأولى رندة الجردي. هذه الفضيحة شكّلت مادّة دسمة لألسن الناس التي لا ترحم. فالأخ قتل أخاه...
قبل زواجه من منى، كان سالم متزوجاً ابنة عمّه دون رغبته. فسعيد بك، والد سالم، أرغمه على الزواج برندة للحفاظ على ثروة العائلة وإلقاء القبض على كل حفنة من حفنات هذه الثروة. وكأن ثروة سعيد لم تكفيه حتّى بسط يديه على ثروة أبناء أخيه المتوفي. فرامز، أخ سعيد لديه ولد على نيّاته يُدعى جواد، وابنتين رندة وسلمى. وعلى الرغم من أن رندة كانت ُتكبر سالم بخمس سنوات، إلا أن طمع وجشع سعيد فرضا على ابنه بالزواج منها. ولكن هذا الزواج لم يدم سوى سنتين حيث توفيت رندة وهي تنجب جاد تاركة فلذة كبدها أمانة لأختها سلمى ولجيهان، شقيقة سالم.
أنت تقرأ
ألساندرا مرميا
Non-Fictionفي صراع بين الماضي والحاضر، عادت من فرنسا إلى لبنان بعد مضي سنوات على رحيلها. هي رحلت من لبنان مرغمة، رحلت جسداً وأبقت قلبها وروحها هناك. رحلت ولم تأخذ معها سوى ذكريات أليمة وقاسية. إلا أن هذه الذكريات هي من أبقتها حية، هي من زرعت فيها الأمل، أمل ال...