كان جاد خارج القصر في الحديقة، يقف مكتوف الأيدي غارقاً في ذكرياته، مخاولاً جاهداً أن يتذكَر كيف ومتى وأين قابل الفرنسية. فصورتها في ذاكرته، لكنها ليست واضحة إطلاقاً.
قبل شهر ونصف – باريس
كان جاد في أحد الملاهي يتناول كاسا من المشروب. كان غاضباً جدّاً من الرسالة التي تلّقاها من فرح بعد انقطاعه عنها لمدة أشهر. جلست جنبه صبية جميلة، كانت حالتها ليست أفضل منه. نظر إليها وابتسم. قوامها طويلة، شعرها طويل، عيناها كبيرتان...
وبعد أن شربت كاسها الأول، ذهبت إلى دائرة الرقص وبدأت ترقص ليتبعها جاد وهو سكراناً ليرقص معها.
الآن
تذكر جاد تلك الصبية الحسناء، كل صاتها وملامحها تشبه الفرنسية التي قابها اليوم. فأدرك أنها ألساندرا مرميا. أنه رآها في الخانة في باريس، في يوم شؤمه.
قاطعت سكونه وأفكراه فرح التي خرجت بقميص نومها إليه واضعة غطاءاً على رأسها.
- "أنت أيضاً لم تتمكن من النوم." سألته ووقفت جنبه دون أن تنظر إليه. فهي لم تجرأ أن تنظر في عينيه بعد عودته، لم تتمتع بالجرأة الكافية للمواجهة.
لم يغيّر وجود فرح أي شيء بالنسبة لجاد، فبقي واقفاً وكأنّه ما زال بمفرده.
- "جاد، علينا أن نتحدث، عليّ أن أخبرك أشياءاً كثيرة." قالت قرح التي قررت أن تخبره كل شيء. أرادت أن تعترف له وتعتذر.
- "تأخرت كثيراً يا فرح، أين كنت عندما كنت أنتظر رسائلك؟ ماذا عن وعودك وعهودك؟" التفت نحوها جاد وسألها بغضب.
- "دعني أفسّر لك أرجوك." نظرت في عينيه، شعرت بحريق في عينيها وبدأت دموعها تنهمر.
- "ما فسّرتيه في رسالتك الأولى والأخيرة كان كافياً. فأنت الآن أرملة أخي، تصرّفي كذلك." قال جاد وأراد أن يغادرها. فمسكت بيده وقالت متوسّلة: "لا يا جاد، أرجوك. لقد حاولت كثيراً ولكن..."
- "لا يهمّني إطلاقاً. فأنت أصبحت بالماضي، من أخطاء الماضي. فلترحلي عنّي، اكتفيت من ألاعيبك وأكاذيبك." قال بغضب وأزال يدها عن ذراعه وغادر.
أرادت فرح أن تصرخ حينها، أرادت أن تناديه. لعنت ياسر وشتمته وهو في قبره. فسقطت على ركبتيها تبكي. بكت بشدّة على نفسها، وعلى ما قامت به.
قبل شهر
- "هيا، اكتبي له رسالة، ستكون الأولى والأخيرة." قال ياسر لفرح بلؤم ووضع ورقة وقلم على الطاولة أمامها.
تأنّت فرح قبل أن تمسك الورقة وتقوم بالكتابة، لذا قام ياسر بشدّها من شعرها وأجبرها أن تمسك القلم.
- " هيا، اكتبي مل أقوله."
مسكت فرح القلم والورقة بيد مرتجفة وعينين مرورغتين بالدموع.
إلى جاد الجردي
أكتب لك هذه الرسالة الأولى والأخيرة لأعلمك بأنني تنوجت الرجل الذي أحبه والذي سأبقى أحبه طيلة حياتي.
تزوجت ياسر منذ أشهر ولقد أنجبت منذ أيام قليلة ابنه، ثمرة حبّنا هذه. آمل أن تنساني، فأنا لم ولن أكون لك.
من فرح ناصرالجردي، زوجة ياسر الجردي.
كتبت فرح هذه الرسالة بقلب محروق وسط قهقهات ياسر وضحكاته وفرحه بالإنتصار. إنه إنتصار الغدر والخيانة على الصدق والعهود، إنتصار الأنانية والحقد على الوفاء والحب. فهذه الرسالة غدرت بالوفاء الذي أمّن جاد فرح عليه.
تلك الرسالة وصلت إلى جاد الذي ثار غضبه، تفاجأ، انصدم من فرح. ففرح كانت حب حياته الأول والأخير. جمعتهما مشاعر صادقة ومفعمة بالشغف. لذا لجأ جاد إلى تلك الخانة كي ينسى مضمون الرسالة، ينسى ما فعلته فرح به.
اللآن
جلست ألساندرا على سريرها وهي في غاية الحزن. كانت في صدمة لا توصف. فما لم يكن في حسبانها هو أن تقابل الشاب التي رقصت وتناولت معه المشروب. ما لم يكن في حسبانها هو أن يعيد الزمان نفسه، أن تستيقظ بعد غيبوبتها وتجد نفسها على سريره في قصر سالم بك، كما وجدت نفسها على سرسره في باريس بعد استيقاظها باكراً بعد سكرتها. تلك الليلة عادت إلى مخيّلتها، تلك الليلة لم تنساها قط، ليلة أحرقت غضبها بمشاعر مرهفة. تلك الليلة أنستها الجريمة التي ارتكبتها يداها، فأغرقتها بالإكتفاء والسعادة.
باريس – قبل شهر ونصف
كانت ألساندرا ترقص وكأن العالم توقف بأسره. وكأنها موجودة في الخانة مع جاد، لا أحد غير. رقصا وكأنهما يملكان العالم برمّته. ضحكا سويّاً وبدأ جاد يقبّلها. مسك يديها وأخذها خارجاً، إلى شقّته التي تبعد دقائق قليلة عن الخانة.
وبعد تلك الليلة، فاقت ألساندرا في الصباح الباكر لتجد نفسها عارية على سريره. نظرت نحوه فوجدته نائماً وعارياً. نهضت من فراشها مسرعة، مستغربة وخائفة. أخذت ملابسها المبعثرة عن الأرض وارتدتها بسرعة وغادرت.
الآن
دخلت إيفا مجدداً إلى غرفة ألساندرا وهي مازالت في صدمة.
- "إذا هو ذلك الرجل الذي أخبرتيني عنه؟" سألتها.
- "نعم، إنه هو. هو جاد... يا إلهي؟ أتصدقي يا إيفا؟ أنا أقمت علاقة مع جاد!!!!" قالت ألساندرا بصوت خافت ومخنوق.
- "والولد الذي أنت حامل به؟" سألتها إيفا.
فنظرت إليها ألساندرا بذعر وحيرة وقالت: "نعم، نعم.... إنه ابنه. أنا حامل بابنه، بابن جاد... يا للمصيبة والكارثة."
شهقت إيفا ووضعت يديها على فمها، لم تعرف ما ستقوله في هذه المحنة والمصيبة. فألساندرا في ورطة كبيرة.
__________________________________________________
ما ريكم في هذا الفصل ؟
أنت تقرأ
ألساندرا مرميا
Não Ficçãoفي صراع بين الماضي والحاضر، عادت من فرنسا إلى لبنان بعد مضي سنوات على رحيلها. هي رحلت من لبنان مرغمة، رحلت جسداً وأبقت قلبها وروحها هناك. رحلت ولم تأخذ معها سوى ذكريات أليمة وقاسية. إلا أن هذه الذكريات هي من أبقتها حية، هي من زرعت فيها الأمل، أمل ال...