( 14 )
_ لست لك ! _
إسطنبول / تركيا
كان صباحاً غائماً ، فوق ذلك الشاطئ المقفر ، و هذا البيت الوحيد المشيد بالخشب و الأسمنت في وسطه
كانت النوارس تصرخ محلقة في الأفق و علي سطح مياه البحر الفيروزية ، تتابعها نظرات ذاك الشاب عبر زجاج نافذته المغلقة
وقف وحيداً في غرفة ضيقة ، بالكاد إحتوت خزانة صغيرة و مقعد مبطن بالأسفنج و سريراً يطابق نسبياً مقاس جسمه الضخم ..
شعره الأسود القصير مشعثاً يسير في كل إتجاه ، عيناه اللوزيتين غائرتان تحت حاجباه المعقودين بشدة ، بشرته السمراء مخضبة بحمرة دمائه التي يضخها قلبه الملتهب بلا إنقطاع
ألقي نظرة علي هاتفه الملقي علي السرير ، كان يصارع فكرة الإتصال بها مجدداً ، يعلم جيداً أن الحكمة تقتضي بألا يفعل ، لكنه حتماً سوف يجن ، إن لم يفهم ما الذي يجري معها بالضبط ، سيفقد عقله لا محالة ...
-قُصي ! .. قالها صوت رجولي أجش من خلف باب الغرفة
رفع "قُصي" رأسه منتبهاً ، في نفس اللحظة ينفتح باب الغرفة و يلج رجلاً في العقد الخامس من عمره ، يرتدي عمامة فوق رأسه و بذلة أشبة برداء الرعاة ذي التصميم الفضفاض البدائي
تقدم نحو "قصي" قائلاً و هو يدرس تعابير وجهه المكفهرة بإهتمام :
-صباح الخير يا ولدي !
قصي بصوته العميق :
-صباح الخير يا عم . هل جئت لتوقظني لموعد العمل ؟ لقد وفرت عليك هذه المشقة اليوم . ها أنا ذا مستيقظ و سألحق بك فوراً . أمهلني دقيقة فقط حتي أرتدي حذائي
إبتسم العم قائلاً بلطف :
-أري أن تركيزك خلال الفترة الأخيرة أصبح أقل من المعتاد . أي عمل يا قصي ؟ إنها صبيحة السبت . اليوم عطلتنا يا عزيزي
عبس "قصي" مطلقاً زفيراً مختنقاً و قال :
-يبدو أنني علي وشك أن أفقد تركيزي كله يا عم !! .. و رمي بنفسه فوق الكرسي الوحيد بالغرفة
وضع رأسه بين كفيه و راح يهز قدمه بعصبية واضحة ، أشفق العم علي حاله و أحزنه أن يراه قد عاد لحالة الغم و الحزن التي إستمرت معه لأشهر عديدة بعد حادث القصف الدموي
جلس مقابله علي طرف السرير ، ربت علي كتفه مآزراً إياه ، ثم قال بخفوت حذر :
-هل حدثتك آية مجدداً ؟!
أحس بإنقباضة جسده الخفيفة تحت ملمس يده ، ليرد الأخير بصوت مكتوم دون أن يغير من وضعه :
-حدثتني . بالطبع . و لكن من يصدق الآن ؟ أن تتواصل معي أختي منذ ستة أشهر من حين لأخر . إنما ترفض أن تعطني معلومة مفيدة تمكنني من الوصول إليها .. أختي التي إحتسبتها ميتة و مضيت في سبيلي مسلماً بالواقع و الأقدار . إلا أنها حية . حية و قد غدت سبية لأحد هؤلاء السفلة الأوغاد بينما أعيش أنا هنا و لا أعرف لها عنوان أو مكان . لقد تعبت . تعبت يا عم . ما عدت قادراً علي التحمل . التفكير سيقضي عليّ