(أُذكُروا الله كثيراً لَعلكم تُرحمون).
زفر وهو يشوف والدته تقف متوجهه له
وتجلس بجانبه عيناها يملاها الدمع وتمسك
بكفه: ابوي ساعد بشيء كويس وممكن يساعده
في مدة عقوبته ويقدر يطلع بدري، المهم هو انتي
يا يمه.
لف لها وهو يمسك كفوفها: اذا بتسامحينه
بهذا المبلغ او لا!.
اخفضت رأسها وهي تمسح دمعها من محاجرها
وتشد على كفه، مرت ثواني ثم استجمعت نفسها
وهي تنطق: الله يسامحه دنيا واخره.
ابتسم ابتسامة باهتة وهو يبوس جبينها
ويدفن رأسها بصدر العريض، لتنطق فريدة
بنبرة باكية: يعني ابوك مارح يطول كثير؟!.
هز رأسه: بإذن الله.
التفتت لبناتها ثم اخفضت رأسها: الله يسامحه دنيا واخره.
سلمى بحروف متقطعة: و ولدي؟! و ضناي؟. حنان بنبرة جادة: عمه هالشيء بين المحكمة
واهل القتيل، مافي شيء نقدر نسويه، مالك الا
تدعين له.
انهارت تبكي وتصيح، وقفت كل من حنين
ونهلة متوجهين لها محاولين تهدئتها، زفر
بضيق مما يدور حوله وخرج من الصالة بكبرها
ليلحق به حسام، وهو يهمس: قلت لي اجيك
ما لقيتك لما وصلت.
لف له: دقوا علي من القسم.
حسام وهو مخفض رأسه: ابي اروح معك القسم بكرة.
زفر وهو يفرك عنقه بألم: يصير خير.
توجه للمجلس الأخر وهو يرى خالته
وابنتها، تقدم وهو يسلم، لترد ماجدة
بنبرة هادئة على غير العادة: هلا هتآن.
زفر وهو يخفض رأسه ويجلس قبالتهم
ويحاول ترتيب حروفه: انا ادري اني غلطان.
ماجدة: زين.
رفع رأسه وهو يناظرها ثم يناظر لجين الصادة
عنهما كلاهما، اكمل: لكن يا خالة يظل هالقرار
بين اثنين، زي ما انسحبت امي اتمنى انتي كمان
تتركينا نقرر مصيرنا مع بعض.
نطقت بنبرة حادة: معروف وش تبي يا ولد الفراح.
ابتسم بشماتة: طيب ليه تجبريننا وانتي عارفة كل شيء.
ماجدة بقهر وقفت: جـزات الـ.... قطعتها لجين: ماما كفاية.
وقفت وهي تصد وتنطق بدلعها المعتاد
ونبرتها المعتادة: ما ابيه مثل ماهو ما يبيني
كفاية تجبرونا على بعض هالشيء مو بالغصب.
اتسعت ابتسامته وهو يراقبها ثم ينظر
لخالته، ثم لفت له: وانت هتآن روح بطريقك الله ييسر لك.
اخفض رأسه وهو يكبح نفسه: الله يستر علي وعليك.
وقف وهو يخرج قبلهم وينطق: وبتظلون
الأهل والأقرب اي شيء تحتاجونه انا بالخدمة.
تخطاهم وهو يعود لصالة ليجد
عمته واخواته موجودات كذلك
سلمى، نادى امه لتأتي نحوه وهو
يهمس لها: اذا مافي مانع يباتون هنا فترة؟!.
امعنت النظر في عينيه لفترة ثم اتبعت: حياهم الله.
ابتسم وهو يقترب ويبوس رأسها: اصيلة يا بنت العمير.
ابتسمت بهدوء وابتعدت متوجهه
للمطبخ وهي تأمر الخدم يعدون
غرف الضيوف والعشاء.بـعـد مرور أربع أيام يوم الجلسة
طقت الباب بهدوء، تنادي بصوت شبه عالي
: ميلآف افتحي.
ثواني وفُتِح الباب، وهي تعود لداخل لتتبعها
ملآك وعليها نظرة توتر واضحة، نطقت بتردد.
ملآك: ميلآف ممكن اكلمك.
لفت لها وبنظرة جامدة ناظرتها من اعلاها
لين اخمس قدمها بمعنى تكلمي، اكملت: لقوا جلال.
كانت منحنية ترتب سريرها لكنها سرعان
ما رفعت رأسها في ذات اللحظة التي نطقت
فيها ملآك جملتها، لتكمل وهي ترقب ملامحها
: وكمان ابو هتآن، اساساً هو الي بلغ عن ولد
اخته ومعه مجموعة ثانية، فرآس يقول هتآن يطلب
حظورنا للجلسة اليوم لأن اليوم جلسة ابوه اما جلال
بيأجلون حكمه لين يلاقون القاضي السابق
وباقي الشهود، الي انـ.. اندفع لهم وبعدها
يبدون محاكمته.
ضحكت بنبرة مقهورة: لا زالوا يعطونه فرصة
يعيش! واخوي تحت التراب؟ انتي مصدقة انه
رح يحققون الحق هالمرة، ويقصون فيه؟.
رفعت رأسها ملآك وبجدية: اذا مو هالمرة اجل متى؟. زفرت وهي تجلس على السرير: مافي شيء اسمه عدالة.
تقدمت لها ملآك وجلست بجانبها
وهي تراقب ملامحها: الا فيه، اذا مو
بالأرض، في بالسماء الي اعدل واحكم منهم كلهم.
اخفضت نظرها: وش نسوي اذا رحنا؟.
ملآك: بس نعطي اقوالنا وكل شيء نعرفه ونطلع.
زفرت نفس طويل، وهي تلف لأختها
وشيء من الهدوء يغطيها: طيب.
وقفت وهي تتوجه لشماعة وعيني اختها
عليها نطقت بتردد: ميلآف وعن ابو هتآن؟!.
لفت لها وهي ترفع حاجبها: وش عنه؟. ملآك: مـ.. وش نسوي بخصوصه اقصد؟.
رفعت اكتافها: اتوقع ما لنا كلمة هم الي راح يقررون
لكن لو توقف الأمر علينا ما رح اسامح اي احد حتى
لو كان ابوي يطلع من قبره، كل ياخذ جزائه وعقوبته.
ملآك: صحيح من هالناحية، لكن ما يوجعك
قلبك على هتآن و وقوفه معنا ما يستاهل يصير
له كذا و لعائلته.
لفت لها وبنظرة نارية: وش قصدك اننا نسامح؟
ونترك الموضوع يمر مرور الكرام بس لأنه ابوه ولأنه
ساعدنا؟ وهو لو كان ما يعرفنا كان زود على فلوس
ابوه الدبل وطلعهم اثنينهم برائة.
ملآك ببسمة: يعني الموضوع له علاقة بنا قبل كل شيء؟.
لفت لها بسرعة وبحدة وهي تتذكر
عبارته ونظراته في المكتب ذاك اليوم
شدت على كفها واقتربت من اختها
بخطوات واسعة: لا حبيبتي انتي ما تعرفينه
رح يقبرنا ويقبر الكل جنب بعض مهما كانوا
في النهاية الموضوع رغباته هو.
زاد قهرها وهي تتذكر لكنته في ذلك
اليوم، وغروره وتغطرسه عليها، وهو
يلقي من عليائه بأقسى العبارات واثقلها.
ما زاد نرفزتها ادعائه السلام والتسامح
وهو يطلب حظورهم للمحكمة في يوم محاكمة
والده، تنرفزت وهي ترى تصرفاته الغير مبالية
سوا برغباته ومتطلباته هو فقط.
جهزوا وهم يخرجون وطول الطريق فكرها
منشغل، وصلوا وهم ينزلون متوجهين للقسم
التفتت وهي ترى هيئة مألوفة، واقف معطيهم
ظهره يتكلم مع امرأتين امامه، ناداه فرآس بصوت
مرتفع ليلتفت بسرعة ويراهم بمجرد وقعت عينيه
عليها شعرت بـ ماس يسري في جسدها
بسرعة صدت وهي توليه ظهرها، تقدم
وهو يسلم على فرآس ويتحدث معه على انفراد
ثواني ودخلوا هم من باب، وفرآس والبنات من باب
وصلوا وتم استجوابهم كلٌ على حدة
ليعيدوهم الى تلك الذكريات الحزينة
الموحشة وتلك الأيام الثقيلة الصعبة
على كلتاهما، كم عانتا وكم عاشتا كل
ذلك بنى في انفسهما الكثير كما ايضاً
هدم الكثير، طال انتظارهم وحرقتهم
تكبر مع كل يوم لكن ها قد حل الفرج
وانتهى كل شيء، والحق سيظهر لا محالة
وسيرد حق القتيل و حق المظلوم وحق
الضعيف، انتهوا وخرجوا من كامل المركز
كان حالها مثل لحظة خروجهم من المنزل
مومئة برأسها على القزاز، وسارحة ومن
في الأمام يتهامسان، هذه الأيام التي ضنتها
لن تأتي، وهذا الشعور الذي ظلت تلحق خلفه
لفترة طويلة وهذا الألم الذي بدأ يتبدد شيئاً
فـ شيئاً، امر جعلها تؤمن انها استردت ذاتها
كلياً وانه بات بإمكانها العيش لنفسها كما لو
ان شيئاً لم يكن، شعور الفقد لن يتلاشى ما دام
نصفها تحت التراب، ولكنه يهدأ ويستتب للحظات
لا تشكي غربة الأيام بدونه بل تشكي
غربة ذاتها الجديدة على ارض الحياة
فهي جعلت من ذكراه طيفاً سابحاً بين
جنبات الحياة، عاشت كما عاش وذهبت
حيثما ذهب، وتردد اسمه الى لحظة ما
قد تكتب لحظة رد الحق.
———
يوم غائم ثقيل، سحابه يكاد يقطر دماً
الثقل على صدري يكاد يهوي به الى قاع
الأرض، ليس ذاك النوع من الآباء الذي ورغم
بعده تشعر به يقرأك من نبرة صوتك، بل هو
هذا النوع الذي و رغم قربه منك تشعر بإنفلاق
مسافة شاسعة بينكما، الأمر الذي
قد يحتار فيه رائيه لكن من يعيشه
لا يحتار، فالأب يظل أباً رغم كل الأخطاء
التي يقترفها، مهما كان ابوك شخصاً تضن
العالم سوف ينبذك وينفيك انت بسببه
يظل حبه وشعوره في داخلك ثابتاً مهما
كان، كان لأبي من الغرور والكبرياء ماليس
لغيره، فقط لحسن مظهره، ولأن من أُغرمت
به كفته عن إتراب يديه لبناء عشهما او حتى
عش اخر، لطالما كانت امي هي من تعطي
وهي من تبدي وهي من تضحي كان ابي
يعاملها جيداً لكن ليس للحد الذي ارادته
ذات مرةٍ قال لي على مسمعها، دون ان
يضرب لوقع جمله عليها اي حساب: روح للي يحبك
تعيش ملك، تروح للي تحبه تعيش خادم.
يومها كنت ابلغ من العمر ١٣ عاماً لم اعي
فيها انه ينعت حُبها وتعلقها به خدمة وانها
في موضع الخادم، بينما هو في موضع الملك.
ربما هي ليست الجملة الوحيدة
التي رشق ابي امي بها بعمد او بغيره
لكنها ستظل الأبرز في اذني، ورغم ذلك
هو محق فأنت تخدم من تحب وتعلق
في شباك رغباته المتنوعة بدون ان تعلم
كذلك هي امي، سامحت وتركت الأمر يسري
وكأنها لم تخسر شيئاً يوماً، وهاهي تبكي بكل
حرقة، وكأن خطأه لا يرى في عينيها العاشقة.
و ربما انا مثلها ايضاً.
حكم على والدي منذ اول جلسة لـ اعترافه
الكامل بما جنى، بالسجن لمدة ١٣ سنة مع
إمكانية للإفراج المبكر في حال اعتراف المرشي
بما طلب في رفع السعر، ومسامحة أهل القتيل
فيما رشى به، كانت ستكون اكثر لو ان ابي التوى
اكثر، لكنه فضل المساعدة، وهذا الأفضل.
وما قام به من الإبلاغ عن جلال ومجموعة
كان مشككاً عند القاضي والهيئة بسبب اختفائه
الذي سبق تبليغه، حيث اجمعوا على مراجعة
الأقوال ومطابقتها مع مالديهم، وهذا ماقد يغير
من المدة اربع سنوات او اكثر.
إثنتاهما منهارتان، حسام كان
موجود وكان يسند والدته المنهارة فيما
امي لا تقل عنها، رؤيتنا له بتلك الحال
كسرت اسرتين كان هو من بناها.
رؤيتي لكفيه تحتضن كفي امي وتقبلها
وهو ينطق: اهلي و ولدي واختي بذمتك بنت العمير.
جعلني اشعر ان ما تكبدته سلطانتي قد بددها
رغماً عنها، والآن هي تسدد الدية المطلوبة
عن والدي، هي لم تشتكي ولم ترفض هي
لن تفعل وان احست بذلك فهي تريد استعادة
والدي بأفضل حال، فيما هي ليست.
يخيم على السيارة شعور غريب وكأننا عائدون
من جنازة، عمتي سلمى ابت الحظور وكما تقول
لا يعنيها أمره بعد ما فعل بأبنه وانه سلمه
لا أعلم كيف سأتحمل او تتحمل امي ثقلها
وبكائها، رغم انه لم يتحتم شيء على ابنها
الى الآن ولكن يبدو ان القادم سيكون اثقل.
عدنا للبيت لتستقبلننا الصغيرتين دامعتان
يسألان ويستفسران ودموع امي وعمتي فريدة
تشرح لهما مدى سوء الأمر، لا قوة لدي للباقي
اخترت الإنسحاب وانا اكفل حسام بالأمر.
صعدت غرفتي وقلبي ينكوي بجمرات حارة
حارقة، وانا اتخيل الأيام القادمة كيف ستكسرني
اكثر من ذلك! وكيف سنعيشها.
——
بــعــد مـــرور أربـــعـــة شهــور
زفرت وهي تحاول الإستواء بجلستها والألم
لا زال نفسه، وعينيها على جموع الأمهات
الغفيرة، ونظراتها لهم، بعد لحظات بدأت
أغنية المسيرة تعزف وخرجت الطالبات
في صفين متناسقة، بعبائات التخرج الجميلة
والمزينة بأسمائهم وقفت بكل حماس وعينيها
تقع على ابنتها واختها وصديقتها وقد ازدانت
بتلك العبائة، وهي تصفق بحماس من بين كل
جمع الأمهات والمعلمات الغفير، وعينيها الكحيلة
تدمع وبشدة وهي ترى الطالبات يصطففن امام
الجمهور، وبينهم تلك المتغطرسة الصغيرة يزين
صدرها اسمها المنقوش باللون الذهبي
بالخط الجميل، بدأ التكريم والمديرة
تنادي بأسماء الطالبات طالبة طالبة
وتسلم عليهم ثم تناولهم شهاداتهم
انتهى الحفل، وهي تراها مقبلة لها
بالكاد استطاعت الوقوف وهي تمسك
ظهرها، احتضنتها بكل قوتها لتصرخ.
ملآك: اااييي بشويش بطننني.
ابتعدت للحظة وهي تضحك: معليش
يالدبة نسيت منك انتي و ولدك.
تقدمت احداهن وهي تنطق: ميلآف هذي اختك؟.
ببسمة: ايه.
سلمت عليها ثم ابتعدت: ما شاء الله اجمل منك.
ضحكت ملآك وميلآف تلف لفاطمة بنصف
عين: بسوي نفسي ما سمعت.
جود من الخلف: والله عاده هذا الصدق احس
جمالها سعودي صدق مو انتي وشعرك الاشقر ذا.
عبير وهي تضمها من الخلف: اقول فارقوا
مافي اجمل من ميلآفي، مع الاحترام ملآك
بس نبي جمال جديد جمالك مستهلك.
رفعت حواجبها من رد البنت، وهي تناظر
ميلآف الي ضحكت ولفت لها: حبيبتي
ترى طلع معاها ولد!.
عبير وهي تدفع ميلآف بقوة، وتقف في
وجه ملآك: معليش الي كانت تتكلم قبل شوي
وحدة ثانية مو انا، متى بيشرف عريسي؟.
استوعبت وهي تنفجر ضاحكة وتتلمس
بطنها: يعني الموضوع مصلحة لا غير، لسى
عليه اربع شهور وشوي.
فاطمة بضحكة: وصغرو هالنونو بس باين مغلبك.
ميلآف وهي تراقب ملامحها: ايوه شوفيها كيف
نحفانة ما تاكل شيء الا ترجعه على طول.
فاطمة: اي طبيعي فترة الوحام.
ميلآف وكأنها تذكرت وهي تلف
لـ عبير: على رقبتي ازوجك ياه.
لفت لها عبير: انتي بالله فارقيني مسويه الخالة
الي مدري شنو تبي، روحي بحالك بتفاهم مع امه.
فاطمة: والله هذي الشفحة صدق بتعرس بجنين، الا
صدق ملآك مو مبين عليك ما شاء الله كأنك من اعمارنا.
احمرت وجناتها: تسلمي حبيبتي.
جود بحلطمة: ربي يحفظكم ليت لي عرق شامي.
ضربتها عبير على راسها: قولي ما شاء الله.
جود وهي تبرطم: قلتها يا مال الكسر.
فاطمة لفت لميلآف وهي تحتضنها: لا تقطعين
حاولي تطلعين شريحة جديدة وجوال ونتواصل.
هزت رأسها بالإيجاب وهي تحتضنها
انتهت موجة الوداع وهي ترتدي عبائتها
وعينا ملآك مثبتة عليها، خلعت قبعتها
وهي تلبس الشيلة وتثبت لثمتها ولازالت
انظار ملآك الدامعة عليها، لفت لها: يلا
شفيك؟ نتأخر ينهار زوجك الدلوع.
اقتربت ودمعها ينحدر على خديها: كان
بيكون فرحان فيك اكثر منك.
جمدت ملامحها للحظة وهي تخفض رأسها
ثم عادت ترفعه وبصوت هاديء: يلا.
خرجوا، و طول الطريق عبارة ملآك ترن
في اذنيها، وهذه الحقيقة لكان سيفرح
بها اكثر منها، ولتمنى لها اكثر ما سيتمنى
لنفسه، تنهدت وهي تحاول كبح مشاعرها
المنحدرة على ذات السفح الموصل لإشتياقها
له، لكن بعد ما حدث منذ شهور، تم رد حقه
قُـص بـ جلال فهاد الزايد قبل ثلاث شهور، تذكرت
شعورها بتلك الليلة، والسكون الذي اعترى صدرها
كانت تخرج كل ليلة من ذلك المنزل بعد
موته تنظر لذلك الطريق وهي ترى دمائه
وكأنها لتوو تراها، والحرقة بصدرها تزداد
كلما تذكرت نظراته و وجهه المبلل بالدماء
وعينيه العسليتان المثبتة على وجهها وهو
يرجوها العودة لداخل، كانت حرقتها تزداد
في كل لحظة تتذكر توصياته على من حوله
ومن يحاول اسعافه، ان يهتموا بأخواته ويستوصوا
خيراً بهم.
تذكرت أصبعه الذي ارتفع في تلك
اللحظة متشهداً، امام عينيها تفارق
روحه جسده، كادت تذرف الدمع وتنهار
من علياء ثباتها الدائم المدعى، لكنها تماسكت
مرغمة فـ ليس الوقت او المكان المناسبان لذلك.
———
دخلت وهي تضحك بقوة وعيناها
تذرفان الدمع، ومن خلفها حنان
المبتسمة بعينان حمراء، قابلتهم
والدتهم وهو خلفهم لترحب به وتستقبله
خيراً من قبل، دخل وهو يجلس بالصالة
انزلوا شناطهم ثم عادوا له، دخلت فريدة
تحمل صينية بها ثلاث اكواب عصير باردة
وهي تبتسم لهم بـ حنية، وتسأل: كيفه اليوم؟.
حنان برضى: الحمدلله ويسلم عليك كثير ويقول
تجينه انتي الأسبوع الجاي مل مني انا وحنين.
فريدة ببسمة: ان شاء الله.
حنين: هههاييي اخليكم لوحدكم.
فريدة رفعت حواجبها، لحنين لترد بسرعة: معليش
بس انا الصغيرة واسألي هتآن هو وصى علي ويقول
سوو لها الي تبي.
هتآن ببسمة جانبيه: ايه نسوي الي تبين
بس مو لدرجة تدخلين بين الكبار خلي لهم
يوم لوحدهم.
برطمت والكل يناظرها: اي طيب خلاص.
فريدة وهي تلف لهتآن الجالس على الكنبة
التي بجانبها، بعد ان غادروا البنات الصالة
وبنبرة فيها خجل: هتآن بسألك.
لف لها: سمي.
فريدة: سم الله عدوك، اذا ما عليك امر تخلي
حسام يساعدك بالشركة شوي لين الله يفرج
عليه ويلاقي وظيفة، مابيه يضيع بالشوارع
يفرفر وليتك ما عطيته السيارة الحين.
زفر واعتلى وجهة نظرة جدية: عمه حسام بدون توصين
بشغله معي، وسالفة السيارة معليك بكلمه، لكن لابد
منها انا مو طول الوقت فاضي واجي هنا والمسافة تحكم.
اخفضت رأسها: صحيح.
زفر وهو يوقف مستأذن خارج، توجه للبيت
دخل وهو يبحث بالصالة عنها ليجدها على
ذات الحال الذي تركها، غارقة بين الأوراق
والملفات نظارتها على طرف انفها، تقدم
وهو يبوس رأسها: كيفك يمه؟.
ارتشفت من كوبها: بخير يمه، كيف ابوك وديت البنات له؟.
ابتسم: ايه وديتهم.
اقفلت احدى الملفات وهي تفتح الايباد
وتنطق: كـ.. كيف صحته؟.
اتسعت ابتسامته: طيب ويسأل عنك يبيك تجينه.
زفرت بضيق: وعمتك من ينتبه لها.
تنهد: عندها المساعده تساعدها.
اخفض رأسه والهدوء يسيطر على المكان
تنهد ثم نطق: ابوي يسأل!.
لفت له: عن ايش؟.
زفر: عني.
تركت الأيباد و انزلت نظارتها وهي تسكرها
وتلف له: عنك!!.
مسح جبينه: عن ..عـ.. ـن موضوع بنت السالمي.
اخفضت رأسها، وهي تعقد حواجبها
بنرفزة: انت داري وش قايل لي الشهر الي راح!.
لف لها بسرعة: لا!.
نهلة: ابوك لازم يستنزف كل فرصة وعشان
كذا ما صرت ازوره، يقول حاولي تطلبين
البنت لـ هتآن وتملكينهم لعل هتآن يقنعها في امري.
رفع حواجبه بصدمة من ما سمعه
ثواني وزفر بقوة وهو يوقف: ااهه يا ابوي اههخ.
كتفت يديها على صدرها بقهر: وش اسوي فيه هالإنسان؟.
شد على جبينه: انا الي وش اسوي بعمري
والله اتوقع لو اموت عندها ما تتزوجني.
رفعت حاجبها، وهي تهمس: جلال و ..... وابوك وياخذ عقابه! وش رادها؟!.
زفر بضيق: اهخ يمه ما تعرفينها.
رفعت حاجبيها الاثنين وهي تقترب
وتنظر له نظرتها الحادة: ليه وانت
تعرفها؟ وتعرف انه بيكون ردها كذا؟!.
توهق وهو يصد عنها: لا مو كذا
بس احسن الوقت مو مناسب.
سكتت للحظات وهي تراقب ملامحه ثم
عادت تفتح جهازها وهي تنطق: انا ما عندي مشكلة
لو تبي نكلمهم، اشوف ان مافي شيء يستاهل ننتظر
عشانه ابوك ومو طالع الا بعد سنين، وانت عمرك
بينقضي على غير سنع ما غير تطارد بيننا انا وعمتك
فريدة، و ابوك، اقلها انتبه لنفسك شوي، وبعدين من
يحصلها تتزوج هتآن الفراح؟!.
ابتسم وهو يرتب شاربه السميك الداكن
لكن سرعان ما تلاشت بسمته: وعمتي سلمى؟!.
زفرت وهي ترمي الورق بجانبها
بغضب: وش تسوي لعمتك سلمى؟ خلاص الي مات
مات الله يغفر له، لو عليها بتجلس تحسر طول عمرها
ما غير كل ما اجيها قسمها بخفف عنها واسامرها
تدعي عليك وعلى ابوك وتحرق قلبي بكلامها، ناسيه
انها ببيتنا، وناسية انه خطأها
بالمقام الأول انها اهملت ولدها
وما ربته ماغير مراكض ورى الحريم
وجمعاتهم وخلت عيال الحرام يربون
ولدها، مو كفاية!.
هتآن بضيق: يمه اعذريها بالنهاية هذا ابنها.
بقهر: اقلها و دونها، انها ما تحرق قلبي عليك انت
اما اخوها بكيفها كل ما شافتني شتمتني ودعت علي
وعليه ان الله يفرق بيننا وهذانا.
أبتسم بحنية واقترب وهو يبوس جبينها
ويحتضنها: تعوذي من الشيطان، واعذريها باقي بحرقتها.
باسته بحنية اكبر حنية أمُ وهي تستودعه
الله وتدعي له، اخيراً نطق: انا بكلم فرآس يرسلك
رقم اختها الكبيرة وانتي تواصلي معها، اذا عـ..ـادي.
عطته نظره بنص عينها: اوهه ياللي بخاطره من البداية.
ابتسم بخجل وهو يحك عنقه: جت حج في حاجه.
ودعته وهي تصعد دورها ولسانها يهلل
بالدعوات له، نعم فهو وحيدها الذي آتاها
بعد سنين من التعب، وهو ايضاً شبيه من يقبع
خلف القضبان ولا زالت اخطائه تحرك الخارج.
——
يوم جديد
الألم يزداد يوم بعد يوم، والضيق يزداد
صرت ما اطيق الجلسة بالبيت وطول وقتي
اجبر فرآس يطلعني، وضعيف الله مو مقصر
لكن رغم خروجي الا ان قلبي يتعلق بمن في
البيت، لطالما ترفض الخروج معنا، وهذا من
حقها وانا اعلم جيداً شعورها بيننا نحن الإثنان
لكن لابد من مرور ايام مماثلة، لطالما هي تعيش
معنا، وهذا من المستحيل ان يضايقني لكنه بالتأكيد
يضايقها ويضايق فرآس الصامت رغم ما يحدث.
كنا عائدين من المول والساعة تشير
لـ السابعة مساءً، حتى نطق فرآس الذي
يحتضن اصابع كفي بين كفيه وينطق.
فرآس: ترى خالتي نهلة طلبتني رقمك وعطيتها.
نهلة.... نهلة هي والدة هتآن، اعتلى رأسي
علامة إستفهام كبيرة، لكنه سرعان ما بددها
وهو يكمل: اكيد بتكلمك بموضوع الاثنين.
كأن شيء قرص معدتي، لأقطع: مو كأنه بدري عليه؟!.
لف لي وبضحكة: مو بدري على هتآن الي شاب راسه.
زفرت وانا اصد لنافذة: اذا مو مزوجه اختي لـ شايب، علمه.
طير عيونه: تبينه يذبحني!!.
زفرت وبجدية: الا انتم تبون ميلآف تذبحني؟!!!.
تذكرها ثم نطق: اجل عطيها هي ترد اذا جاك الإتصال.
مو منجده: فرآس بلا استهبال تراها صغيرة!!.
اقترب وهو يبوس خدها وبضحكة: عشنا يالكبار!!!.
تنرفزت: اتكلم منجد بعدها صغيرة.
بسخرية: ههه ميلآف وصغيرة؟!!! في نظرك بس.
بقهر: ايه في نظري وبتظل.
ابتسم: طيب طيب هدي مابي ولدي يتضايق
من خالته وطاريها وهو لسى ما شاف الدنيا
مصيره يطلع وتزهقه عيشته.
بنرفزة: اسكت بس انت و ولدك ما ضايقني غيره.
زادت بسمته: احلى شيء انه بيكون في تيمي
ونعلمك كيف تطلعيننا يومياً من البيت.
كشرت: يعمري ميلآف اكيد تحسبني متضايقة
منها، بس والله مو بيدي ابي اطلع من هالبيت
بأي طريقة وش اسوي!.
سحب كفها مرة اخرى: لا اكيد عاذرتك.
ابتسمت بهدوء وهي تنطق بنبرة
مختلفة: أحس كأني أول مرة اتعرف عليها.
عقد حواجبه: وش قصدك؟.
زفرت: من بعد القصاص، وهي متغيرة كثير
احس انقشعت غشاوة سوداء كانت تحيط فيها
صارت تبتسم معي اكثر من قبل، بيوم التخرج
عرفتني على صديقاتها!! مستوعب ميلآف وصداقة!!
احس بشعور غريب وكأنها شخص ثاني كلياً.
بجدية: اكيد بتكون غير، ما خلق منها شخص
كذا الا شعورها بالظلم والغضب وبعد الي
شفته صراحةً ما الومها على الحرقة الي عاشتها
اشياء كثير صارت اكبر من عمرها بكثير وحرام
انها تعيشها، لكن ما تدرين، كلها قدر من ربي
عشان نلتقي ويكتب ربي نصيب.
اتسعت بسمته وهي تحس بأنها تبتسم
من داخلها ولأول مرة بعد سنين: الحمدلله على كل احواله.
———
وصلوا اخيراً، وقد اخذ مني الملل والجوع
ما اخذ، تمنيت هاتفي*هاتف مُهند* انه
يعمل لأول مرة لأنني مللت الوحدة، كنت
كلمت فاطمة، التي سطرت ورقة فيها ارقامها
وارقام الشلة كلهم منتظرتني اشتري جوال
و افتح رقم وارسل لها، فاطمة شخص طيب
عرفتي على عالم جديد بكل رحابة صدر كانت
هذه افضل ٤ شهور في سنوات دراستي شجعوني
ورفعوا من معنوياتي كثير وغيروا فيني هي والبنات
امور كثيرة، اولها اسلوبي الإجتماعي، واخرها معدلي
الدراسي، الذي ارتفع عن السابق
وانتهيت من مرحلة الثانوية بمعدل
يرفع الرأس، كما تمنى هو ان يراني
يوماً، اشعر بأنني في كل مرة اتقدم
لشيء انه يراني ويشعر بي، ويفرح
بما افعل لنفسي وذاتي فهو اساسًا
من اشعرني بلزوم العمل لهذه الذات
وبنائها.
أنت تقرأ
رواية حقيقة خلف سياج الانتظار
Romance- ••••••••••••••••••• ~ أنا هُــنا ~ . تحت أنقاض العجز الدائم و تحت أمال الأطفال المسروقة و بجانب أسوار الحقول المحترقة و على ضفاف الأنهار الجــافــة ؛ تُولدُ في ميدان المآسي باكيه تـحكي لأيامهــا تنهيدات أُمٍ ساهرة يداعب خدها نسمات ليل باردة ت...