01

532 39 104
                                    


الطفل

فَتحتْ المصباح النحاسي، وأدخلتْ عود الثقاب ثم أخرجت يدها بسرعة مع اشتعاله، تزامنًا مع دقات الباب الصاخبة، سارعت إليه، والظلال ترمى على حائط الممر.. وسفرة الطعام الخشبية، «مَن الطارق؟» سألت، لم يجب أحد، سألت مرةً أخرى بتردد «مَن الطارق؟»، أجابها صوت واهن «أنا يا عزيزتي، أنا...» وقبل أن يكمل كلامه فتحت الباب والقلق يعتري جسدها، تفحصته بحذر، كانت يداه تحملان رضيعًا صغير الحجم، يكاد يظهر من المعطف الذي يحيطه، وغطاءٌ أبيض ملطخٌ بآثار الدماء، يحميانه من المطر والبرد، هيئته أثارت الفزع في قلبها.. لكن هدوءه حال بين ظهوره.

«خذي الطفل.. سأعود لآخذه لاحقًا.» مدت ذراعيها بسرعة وهي تحمل الصغير بينهما، لم تفكر بالأمر مرتين، وهي تبحث في ملامح الطارق عن إجابات.. عن دفء يقتل الأوهام التي يخلقها مظهره، لكنه مطأطأ الرأس.. ينظر بعيدًا عنهما، «إلى أن أعود، اعتني بهذا الفتى جيدًا.» أخبرها بصوتٍ مختنق، تتناجى الهموم عليه، فضمت الرضيع إلى جسدها المرتجف، نزل الدرجات الثلاث ببطء، ثم نظر مرةً أخيرة للمرأة الواقفةِ أمام الباب، وإلى تلك الكومة الصغير بين أحضانها، قبل أن يسحب عينيه بعيدًا، ويسحب جسده مغادرًا.

أراد أن تلحق به، لكنها أدركت مدى الحرارة التي تسلب منهما، فأغلقت الباب ، ووضعت الرضيع على الطاولة، وأخذت تنتقل حوله حائرة، رمت بعض الحطب في المدفأة، قبل أن تضرم النار فيه، ولم تمض لحظات إلا والنور يزداد حولها، نقلت الرضيع بالقرب من المدفأة، وأزالت المعطف الذي لم يجف بعد عنه، فظهر غطاءه المصبوغ، تزيل الغطاء عنه، مجبرة على التعامل مع الدماء، وهكذا تحرر الرضيع نحو الدفء الذي انتشر في الغرفة.

كان الرضيع مستيقظًا، عيناه الصغيرتان تنظران في الأرجاء، ويداه منقبضتان إلى جنبيه، كانت قد أخذت كفايتها من أحداث هذه الليلة، ومن القلق الذي لا يكف عن التضخم في صدرها، لكنها حالما رفعته إليها بلطف، انقشعت تلك الغمامة قليلًا، وأخذت تنزع ملابسه الغارقة، ثم جففت جسده بسرعة، تسابق الزكام والبرد اللذان ينتظران فرصة سانحة بجانبهما، ففاتها ملاحظة الطفل، ابتسمت وتمهلت وهي تتأمل ملامح الصغير الظاهرة.. شعره البني الداكن، وعيناه الصغيرتان، ولفحةُ السمرة التي امتزجت مع البياض، وانبعثت من تلك التفاصيل الضبابية وجوه أخرى، وذكريات أكثر.

كانت الوقت متأخرًا جدًا، أطفئت المدفأة، وحملت الطفل الصغير إلى غرفتها، تحجزه بين الحائط والوسادة.. ونفسها، لم يلبث إلا والنوم مداهمٌ لعينيه الصغيرتين مجددًا، وهاربًا منها.. لم يكن غموض هذه الليلة فقط ما أرق جفنها، بل وخوفها من أذية الطفل أيضًا إذا ما نامت وتقلبت.

تكرر في رأسها حديثهما الأخير، لقد سألته: «هل أنت بخير؟ ما الذي حدث؟» كانت تعرف أنه لم يكن بخير بالفعل، لكنه ابتسم بتكلف، وأجاب «إنني ابتسم لهذه الحياة، لكنها لا تبتسم لي.. ليس كما أريد، الآن يا عزيزتي آشوريا استطيع رؤية ابتسامتها، إني أراها تبتسم لي وهي تدهس عنقي، تخنقني بشتى الطرق، حتى ذرات الهواء يا عزيزتي.. حتى ذرات الهواء التي يفترض بها أن تنعشني، أصبحت تتحول إلى رمادٍ عندما تدخل رئتيَّ، أنا بخير.. أنا بخير!».

ضحايا المنتصفحيث تعيش القصص. اكتشف الآن