أوَّلُ يَومٍ في السّوربون

1K 96 484
                                    

كانَ القِطارُ يَسيرُ بِهِمَّةٍ على تِلكَ اللّامِعة ...
أصواتٌ مُمتَزِجة ؛ صوتُ بلابل ، حثيث الشّجَر ، صوتُ الرِّياحِ و الماء و كذلك القِطار .
بِمَ كانَ يُفَكِّر ؟
أهْلَهُ ؟
رُبما وطنه ؟
أعتقد بأنَّه كانَ يُفَكِّرُ بالمُستَقبلِ الّذي هو مُقبِلٌ عليه !
مَرَّ مِنَ أمامَ رَدهَةِ موشيه نادلٌ ، طرق الباب و إستَأذَن

النادل : سيدي هل أُحضرُ لكَ الطّعام ؟
موشيه مُبْتَسِماً : أرجوك لو سمحت .

إنصرف النادل و هَمَّ موشيه بالتفكيرِ مَرَّةً أُخرى و لكن هذهِ المَرَّة فَكَّرَ في بَطنِهِ .
موشيه يُدَندِنُ مع نفسهِ : أسَيأتي لي بلحم خنزير ؟!
أو رُبَّما يأتي لي بِسَمَكٍ ليسَ ذو فلوس (قشور) !!
هل سأأكُلُ في باريس قططاً ؟!
و رُبَّما ضفادعاً ؟
ما هذا يا إلهي هل أنا في دولة آسيويَّةٍ ؟!
هَمْهَمَ موشيه : تَبَّاً لشَهِيَّةِ الفرنسيين .

(جميعُ ما ذُكِرَ مِنْ أطعمةٍ هي مُحرَّمَةٌ في الشريعةِ اليهودية)

قاطَعَ تَفكيرُ موشيه وصول الطّعام إليه .

موشيه مُحدِّثاً النادل : هل هو كاشير (أصناف الطعام الحلال عند اليهود) ؟

نَظَرَ النادِلُ بإزدراءٍ و إشمئزازاً لموشيه : إنَّهُ لَحمُ خِنزيرٍ أيُّها النَّتن المختون (أي أنه تم ختانه في الطفولة "طهور" باللهجة العراقية لأن اليهود يقومون بختانِ أبنائهم) و هَمَّ بالإنصراف من عِنْدِ موشيه .

نظر موشيه للمائدة فأخذ مِنَ الماء قليلا و إرتشف من كوب القهوة الموجود على المائدة ، أخرج سجارتهُ الصغيرة و بدأ بالتدخين فقال : كيف ستنتهي هذهِ السبع سنواتٍ ؟!

.
.
.

نَزلَ موشيه من على مَتنِ القطار حامِلاً حقيبته مَعَهُ ، ثُمَّ توجَّه نحو إحدى سياراتِ الأجرة الواقِفَةِ خارِجَ المحَطَّة .
لَقَد أسْعَفَهُ فِعلاً إتْقانَهُ للفَرَنسيّة لأنَّهُ كانَ يَسْكُنُ في الجانِبِ السويسري النّاطِقُ بالفَرَنسِيّة عدا كونه يُتقِنُ الكثيرَ مِنَ اللُّغات .

صَعِدَ خَلفَ السّائِق و بِكُلِّ قِيافةٍ جَلَسَ بأدَبٍ و فَتَحَ النّافِذَةَ قَليلاً ، لَقد كانَ غيماً في الخارج و المَطَر الذي بدأ بالهُطولِ فوراً .

لَمَعَتْ عَيناهُ الخُضراوَتان ، تَحويانِ بَريقاً .
كانَتا جَنَّتينِ مُخضَوضِرتين .

سألَ السائِقُ موشيه عن وجهته فأجَابَهُ بأنَّهُ يُريدُ أنْ يَقصِدَ "السّوربون" . أدارَ السّائِقَ المِذياع أثناء قيادته و لكن شاءَ القَدَرُ بأنْ يُحَسِّنَ مزاجَ موشيه لأنَّ الإذاعة كانت تَبُثُّ أغنِيةً فَرَنسيّة كلاسيكيّة كانَ موشيه يُحِبُّها كثيراً "Rien N'arrete Le Bonheur" للمطربة ليندا دي سوزا .
مضى مِنَ الوَقْتِ الكثيرِ حتّى وَصلَ موشيه للسوربون عراقتها و بنيانها الضخم و القديم أسَرَ قَلبَ موشيه ؛ إبتسم و نزل من سيارةِ الأجرة حامِلاً حقيبتهُ معهُ .

موشيه بن بنيامين حيث تعيش القصص. اكتشف الآن