وفي ضحى ذلك اليوم حملَ متاعهُ القليل على منكبه النحيل مقبّلاً وجنتي زوجه:
-توقّفي عن ذرف الدموع ياحبيبتي، لقد وعدتكِ وسَأفِي بوعدي.
-فلتعلم أنّي لم أكن راضية حتّى الآن، وقد وافقتُ على مَضَض!.
ابتسم بألم معبّراً عَن مدى أسفه وعن اضطّراره للرّحيل قائلاً: أنّ مرارة رحيله هذا لحظاتٌ من العُمر، أمّا مرارة الفقر فهو العمر كلّه! إنْ لم نأخذ بالأسباب قبل طلبِ الرّزق من الله!.
ياحبيبتي إنّ مفارقة الحياة لهي أهون عليّ من مفارقتكِ، لو أنّها تودّعني ولا تودّعينَني.
تشبّثتْ به والعِبرات تبللّ وجنتيها الشّاحبتين، ممّا جعل عينا أبا الحسن تلمعُ تأثّراً بفراقها، فارْتَما في أحضانِ بعضهما البعض يأبى أحدهما مفارقة الآخر، تحاول إثنائه عن فكرته وردْعهِ عن الرّحيل، وهو يهمسُ بكلمات الاعتذار والأسف، ولكنّه يعرف جيداً في قرارةِ نفسه أنّ صموده هذا أمامها ماهو إلا ثوبٌ منخرِق حاول أبو الحسن جاهداً أنْ يرقّعهُ بكلمات المواساة وبالوعود لحبيبته بالحياة الجميلة والسّعادةِ الأبديّة...
وسرعان ماتمزّق ثوبُ الصبر، وانحنى أبو الحسن يعانقُها ويقبّل جبينها وكلاهما غرق في بحرٍ من الدّموع، بحرٌ منَ الألم والشوق والخذلان، يحاولانِ قدر الإمكان التّشبث وعدم الغرَق فيه، لكنّه كان قد فات الأوان حين ابتعد أبو الحسن قائلاً:
-أستوعكِ ياقمري عندَ الله الذي لا تضيعُ عنده الودائع.استَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً
بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُوَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي
صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُوَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً
وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُلا أَكُذبث اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ
عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
-------------------
يمشي في الصّحراءِ الواسعةِ وهو يمسكُ بلجامِ راحلتِه العجوز، تحت أشعّة الشمسِ الحارقة، وقف يلتقطُ أنفاسه بصعوبة وهو يشعر بجفافٍ شديدٍ في حلْقِه، التفَتَ إلى راحلتهِ فلم يجد معه قطرة ماء واحدة مُتبقّية، أخذَ يجول بعينيه المكان علّه يجد ينبوعاً أو ماشابه يسدّ به ظَمَأه، حتّى لمح خيمةً وحيدةً بينَ الرّمال، فتعجّبَ وجودها لكنّه سرعانَ مانفَى تفكيرهُ لشعورهِ بالعطش والجوع الشديدين وقرّر أن يستريح عندها بضعَ ساعاتٍ منَ الليل ومِنْ ثمّ يتابع رحلتهُ الشاقة.
دخل الخيمة مُستأذناً يُلقي السّلام، ردّ عليه رجلٌ طاعنٌ في السّن ذو لحيةٍ كثّةٍ غزاهَا الشّيب، عرّف عن نفسه لاحقاً بأنّه العرّاب.
-وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته، يا أهلاً وسهلاً بالرّحالة، تفضّل بالدخول.
رحّب به العرّاب أشدّ التّرحيب وقصّ عليه أبو الحسن القَصَص، لقد كان أبو الحسن ذو مكانة كريمة في قومه، وكان يملكُ من المال مايملك، وعندما تقدّم لخطبةِ ابنة عمّه وحبيبته، طلَبَ والدُها مبلغاً كبيراً منَ المال، إذ أنّ عمّه كان طمّاعاً جشعاً لا يأبه لشيء سوى المُلك، فرفضَ أبو الحسن إعطاءهُ ذلك المبلغ وكان مصرّاً على زواجه، فتوصّلا في نهاية المطاف إلى حلّ حيث أنّهما تشاركا المال لاستثماره مقابل زواج أبا الحسن بابنة عمّه والذي اكتشف لاحقاً بأنّه كان فخّاً ماكراً منه ليسرقَ عمّه كلَّ المال منه، وتبّرأ منهما حينما التجآ إليه.
علّق العرّاب قائلاً:
-يابني ليس السّفر كما تظن، لقد كنتُ مثلكَ في شبابي، المال والجاه هو كلّ ماكنت أفكّر فيه، وها أنا الآن أمامك كما تراني لا مال ولا زوجة، إنّما أتنقّل مِن مكانٍ لآخر بين الفِينة والفينة، أحاولُ كسبَ ماتبقّى لي من العيش ببيع الصابون المعطر.
شكره أبو الحسن وأجهر أنّه لن يتراجع عن قراره موضحاً:
-ليس شرطاً أنْ نتشارك المصيرَ نفسه، فكلّ إنسانٍ مصيره مختلف عن الآخر، وأنا واثقٌ أنّ الله لم يهدِني إلى هذه الفكرة، إلّا لأنّه سيُحقق مطالبي ويستجيبُ لدعائي.
أسمَعهُ أبو الحسن بعضاً من قصائده المتواضعة، وقد أُعجب العرّاب بإحدى قصائده التي يمدحُ فيها ملكَ الأندلس، فأهداه أبو الحسن إيّاها، ومع ساعاتِ الصّباح الأولى، استأنفَ أبو الحسن رحلته بعد أنْ تزوّد من طيبةِ هذا العرّاب وكرمه ببعضِ المؤونة التي قد تُعينُه في سفره.رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ
وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُوَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا
شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُاِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ
كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُقَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ
فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ المَهرِ أَضلُعُهُ
------------------
يتبع..
لا تنسوا التصويت إن أعجبكم❤
أنت تقرأ
لا تعذُليهِ || مُكتملة
Short Story-قصّة الشاعر عليّ بن زريق البغدادي والتي صُغتها بطريقة مختلفة وبأسلوبي وكلماتي الخاصة. -الموضوع العام للقصة أبقيته ذاته ، ولكن يوجد تغييرات في الأحداث والنهاية. نبذة عن حياة الشاعر وقصته الحقيقيّة: ابن زريق البغدادي الملقّب بأبي الحسن شاعر عباسي ار...