السّاعة العاشرة مساءً
تسمع دَوي طرقات على الباب الخشبيّ، تَهرع لتلبس نقابَها وتقفُ خلفَ البابِ مجيبة:
-مَن وراء الباب؟
أجابها الطّارق
-هذا أنا، علِيّ زوجكِ!.
فتحَت المرأة الباب لزوجها وهي تراه بحالة يُرثى لها، ملابسه المُهترئة مُبلّلة بقطرات المطر، دخلَ منزله يرتجفُ برداً وجوعاً، قالت في ذعرٍ من حالته:
-أرجوكَ أرِحْ قلبي وأخبرني أن هنالكَ مِن جديد!.
أجابها مُقتضباً:
-ما مِن جديد!.
غطَّتْ ملامحَ وجهها بيَديها الرّقيقتين وراحت تنتحِب
-لا تبكي ياحبيبتي، لا تبكي، أنا لن أسكتَ عند هذا الحد وسأواصل الكدّ في سبيل أنْ نحيا حياةً رغيدة.
أزاحَت المرأة يديها عن وجهها وهرعَت نحو زوجها
-لا ياحبيبي لا، ماذا لديك بعد، لننتظر حُكم الله في هذا بالله عليك.
-ونِعم بالله، أنا متعبٌ الآن ياحبيبتي، لنؤجّل الحديثَ إلى الصّباح الباكر، فبالكاد أفكّر بعقلانيّة!
---------------------
انهمرَ المطر غزيراً في تلكَ اللّيلة وانحلّت عُرى السّماء وسيوف البرق تلمع فيها، ومايزال أبا الحسن يتقلّب في فراشه وقد أرّقه التفكير المطوّل، لقد تجاوز الوقتُ منتصف اللّيل بأربعِ ساعات، وبعد قليلٍ سيصدعُ آذان الفجر معلناً عن وقت الصّلاة وهو لم يعرف للنّوم سبيلاً، وزوجهُ نائمةٌ إلى جانبه غير عالمَة بالحربِ المضرمةِ داخل عقل زوجها.
امتزجَ صوت المطر بصدَى أذان الفجر، مُضفياً هيبةً جليّةً طغَتْ على الأجواء، قام أبو الحسن من مرقده يتوضّأ والسّواد يتراقص تحت عينيه لشدّة تعبه، وقف بين يديّ الله يصلّي ويدعوه أن يفرّج همّه وزوجه ويرزقهما مِن حيث لا يحتسبان الرّزق الكريم.
- اللهم ربّ السّماوات السّبع وربَّ العرشِ العظيمِ ربَّنا وربَّ كلِّ شيءٍ، أنتَ الأوَّلُ فليس قبْلَكَ شيءٌ وأنتَ الآخِرُ فليسَ بعدَكَ شيءٌ، اللهم اقضِ عنَّا الدَّينَ وأَغْنِنا مِن الفقرِ .
أغثني أدعوك دعاء من اشتدّت فاقَته وضعفتْ قوّته وقلَّت حيلتُه، دعاء الغريقِ المضطّر، اللهم أتوسّل إليكَ باسمكَ الرّزاق الكريم أنْ تفرّج عنّي ضيقَ ما أمسيتُ فيهِ وأصبحتُ فيه، ولا يملأ قلبي الخوف من غيركَ ولا يشغلني أثر الرّجاء من سواك.
ترقرقَتْ عينيه بالدّموع خشيةً من الله، وقوّةً في الإيمان، وعزيمةً مفاجئةً أصابتهُ، جعلتْه يوقن أنّ ربّه سيستجيبُ لا محال، مسَح دموعه رافعاً كفّيه يستجيرُ ربّه مِراراً، داعياً أنْ يوفّقه بما في خُلده...
----------------------
استيقظَتْ زوجه أثَر أشعّة الشّمس السّاطعة ولم تجد زوجها إلى جانبها، مسحَتِ المكان بعينيها لتلْتقِطه واقفاً يَمدّ ناظريهِ مِنَ النّافذة، وكم كان التّعب والإرهاق بادياً على محياه، تبسّمت قبل أنْ تنبس بتحيّة الصّباح، ليستدير إليها يُباغتها تحيّتها بصوتٍ أجشٍ ذو غِلظة.
-ياويلي ما بالُ صوتك؟ وما بالُ عينيكَ احتلّهما التّعب!.
-اتركيني في حالي ياحبيبة، لقد ضلّ النوم طريقهُ إلى جفنيّ، ونسي جسدي معنى الراحَة، والألمُ لا يكاد يبرح رأسي حتّى يفتكّ به ثانية.
-ياحبيبي، انظر إلى جسدكَ كيف هَزل، وكيف التهم السواد عينيك، وأنّك لم تتذوق الرزق لأيّام!.
-آهٍ وكم آهٍ قُلتها ياحبيبة، انظري إلى حالنا، أيُعجبكِ مانحن فيه من مرارةِ الفقر؟
-اصبر يازوجي فكلّ ضيقٍ يعقبه فرج، وأنا واثقة أن الله مُطّلعٌ على حالنا وسيرزُقنا يوماً.
-لقد صبرت صبر أيّوب لسنواتٍ طوال، ولن أتحمل أكثر من هذا، أشعر أنّ الله قد أذِنَ لي بالسفر علّي أجد لقمة عيشنا في مكانٍ آخر.
-لا بالله عليكِ أعِد التفكيرَ ثانية!.
-لا تعذليني ياحبيبتي، فإنّ لومك لا يزيدُني إلّا عناداً ورغبةً في الرحيل، تخيّلي حالنا ونحن ننَعم بأطيب الطّعام، ونتحلّى بأزهى الثياب، ونركب الرّحال، ألم تزهق روحكِ بعد؟ انظري إلى جلبابك الرثّ، وإلى عباءَتي المرقّعة بالثّقوب، انظري إلى فتاتِ الطعام الذي نأكله، بالله عليكِ أنتِ أخبريني: ألم تزهق روحكِ من كلِّ هذا؟.
هزّت رأسها في يأسٍ من إصرارِ زوجها، لكنّها فاجئتهُ بقولها:
-خذني معك!.
ماهذا الذي تقولينَه؟، مستحيل!.
-ألا تريدُ السفر والبحثَ عن الحياة التي لطالما تمنّينا عيشها؟، إذاً خذني معك!.
-لا! ولا تجادليني في هذا مرّة ثانية، لا نعرف بعد ماذا كتب الله لي في أرضه الواسعة، يكفي ماسأعانيه، فلا أريدكِ أن تعاني المثل، افهمي ياحبيبتي، هذا قدري، لقد قدّر الله لي أنْ أذرعَ فضاءَه الرّحب ذهاباً وإياباً، لقد كلّفت بهذه المهمة الشّاقة وعليّ إنجازها.
احتضنها يُكفكف دموعها بيديه الغليظتين، وهمس يصبّ عليها بعضاً من شِعره الذي يلامسُ قلبها العاشق:لا تَعذَلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ
قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُجاوَزتِ فِي لَومهُ حَداً أَضَرَّبِهِ
مِن حَيثَ قَدرتِ أَنَّ اللَومَ يَنفَعُهُفَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً
مِن عَذلِهِ فَهُوَ مُضنى القَلبِ مُوجعُهُيَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ
مِنَ النَوى كُلَّ يَومٍ ما يُروعُهُكَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ-------------------
يتبع..
أنت تقرأ
لا تعذُليهِ || مُكتملة
Cerita Pendek-قصّة الشاعر عليّ بن زريق البغدادي والتي صُغتها بطريقة مختلفة وبأسلوبي وكلماتي الخاصة. -الموضوع العام للقصة أبقيته ذاته ، ولكن يوجد تغييرات في الأحداث والنهاية. نبذة عن حياة الشاعر وقصته الحقيقيّة: ابن زريق البغدادي الملقّب بأبي الحسن شاعر عباسي ار...