الجزء السابع والأخير

284 8 2
                                    


انحنى العرّاب أمام جلالة الملك، فانحنى بدورهِ أبو الحسن، قال العرّاب:
-هذا هو جلالتك، إنّه الشّاعر المَنشُود!.
نقَلَ الملك نظره متفحّصاً أبا الحسن، بملابسهِ الرثّة والرائحة الكريهة المنبعثة منه، فقال بامتعاض:
لقد قيلَ لي أنّك مسافرٌ تبحث عن رزقِ العيش.
-نعم، جلالتك.
-إذاً، هل وجدته؟.
أحنى أبو الحسن رأسَه وهو يقول:
-لا جلالتك، لقد سُرقَت كلّ أموالِي، وأنا الآن فقيرٌ معْدم، لا أملكُ سوى قصائدي.
حكّ الملك ذقنَه في تفكيرٍ وقال بعد بُرهة:
-ولكنّ ما لا تعرفه يا أبا الحسن أنّ قصائدك هذه تساوي ثروة.
-فعلاً؟
-نعم، بالنسبة لي، ولهذا يُسعدني أن أقول لك إنّكَ في صدد تحقيق حلمك، وذلك لأنّني سأجعلكَ الشّاعر الخاصّ بالمملكة تُنظّم الشِّعر في مدح الأندلس ومدحِ شعبهَا ومَلِكها، نظراً إلى فطنتكَ وبلاغتكَ في الشِّعر، وبالمقابل ستعيشُ في قصري مُكرّماً تنهلّ من خيراتِ الأندلس!.
لمعَتْ عينا أبي الحسن شاكراً ربّه مراراً، لكن سرعان ما انقشع البريق في عينيه عندما تذكّر محبوبته التي غابَ عنها مايقارِب عاماً كاملاً! ليَحُلّ محلّها الألم والحسرة:
-يُشرّفني ويسعدني ذلك ياجلالة الملك، ولكن لي طلبٌ لو تكرّمت عليّ ...
-اطلب ما شئْت، فلا يُرَدّ ضيفٌ في الأندلس بإذنِ الله.
-لي حبيبةٌ في الكَرْخ، رحلتُ عنها حتّى وصلَ بي الأمر إليك، لوعةُ فُراقِها تفتكّ بي ولا عيشَ لي دونها فأرجوكَ لو أرُدّها إليّ.
-لكَ ماطلبتَ يا أبا الحسن.
وأشار إلى رئيسِ حَرسهِ قائلاً:
-خُذ بيد شاعرنا ليُحضرَ زوجه معه، فلابدّ أنّ قلبَها يغلي شوقاً إليه.
----------------------
وقف الحُرّاس خلفَ أبا الحسن الذي كان يرتدي حُلّةً جديدةً تماماً ووجهُه مشرقٌ لا تشوبُه شائبة وكأنّه لمْ يَعِش مرارةَ الفقرِ يوماً، بابتسامةٍ واسعةٍ طرقَ الباب بخفّة عكس داخلهِ الذي يغلي من الحماس ودقّات قلبهِ تكادُ تُمَزّق صدره لشدّة قوّتها...
وكأنّ الزّمان أعاد نفسَه، ولكنّ بقصّةٍ مُختلفة.
هرَعتْ تلبس نقابِها وقلبُها يضربُ بعنف، يُخيّلُ إليه أنّه عرف أنّ محبوبه وقطعةٌ منه يقفُ على بعد سنتيمتراتٍ قليلة:
-مَن وراء الباب؟.
أجابَها الطّارق والابتسامة لم تُفارِق وجهه:
-هذا أنا، علِيّ زوجك!.
فتحَتْ المرأة الباب وكان حدسُ قلبها صحيحاً، زوجُها وحبيبها يقفُ أمامها مِن جديد بعد عامٍ من الفُراق، ولا يمكنُ أن يكونَ بأفضل حالٍ ممّا هو الآن.
انكبّت تعانق زوجها بحرارة وشوق لا متناهيان وعيناها الجميلتان تذرفان شلّالاتٍ من دمُوع، تكاد لا تصدّق نفسها وأنّ حبيبها وابن عمها يقف أمامها بعد تلك المدّة المُضنية بالنسبة لها، تشعر وكأنّها تحلّق فرق غيوم السعادة!.
وكأنّ لحظة الفُراقِ تكرّرت ولكنّ الأمر هنا أنّها لحظةُ اللقاء، وتبدّلت دموعُ اللّوعة والحُزن بدموعِ الفرح، ابتعدا عن بعضهما أخيراً وقالتْ له بضحكةٍ مِن بينِ دمُوعها: أرجوكَ أخبرني أنّ هنالكَ مِن جديد!.
أجابَها والدّموع حبيسةٌ في عينيه:
-كلّ جديد ياحبيبتي كلّ جديد.

وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ
رزقَاً وَلادَعَةُ الإِنسانِ تَقطَعُهُ

قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُو
لَم يَخلُق اللَهُ مِن خَلقٍ يُضَيِّعُهُ

لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى
مُستَرزِقاً وَسِوى الغاياتِ تُقنُعُهُ

وَالحِرصُ في الرِزاقِ وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت
بَغِيُ أَلّا إِنَّ بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ

النهاية.





🎉 لقد انتهيت من قراءة لا تعذُليهِ || مُكتملة 🎉
لا تعذُليهِ || مُكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن