دخلَ أبو الحسن بلدةً نضرةً يعمّها الخير، يذهب ويجيء فيها كلَّ مَن هبّ ودبّ.
وتوجّه من صوبه إلى الخان، فرفضوا إعطاءَه حُجرةً بثمنٍ بَخْس، أخبرهم أنّه سيدفع الإيجار بشكلٍ كامل ما إنْ يتلقّى أوّل راتبٍ له هنا، وتوسّلهم كثيراً، فقبلوا على مَضض!، أعطوه حُجرةً صغيرة قذرة تغزوها الحشرات حتى ما إن يحصل على المال -كما أخبرهم- أعطوه غرفةً يستحقّها، جلس أبو الحسن على الأرضيّة الباردة ودثّر نفسه بغطاءٍ رثّ كان قد وجده في إحدى الخزائن القديمة وحاول النوم عبثاً، ظلّ يتقلّب ساعةً كاملة، وفجأةً لاحَ أمامه غرفته المتواضعة هو وزوجته وفراشه هو وزوجه المثقوب الذي كانا ينامان عليه وأنّه أفضل بكثير من هذه الحالة التي هو فيها!.
لم يقدر على الصبر أكثر فخرجَ من الخان وهو في حيرةٍ مِن أمره، فليسَ منَ المعقولِ أنْ يقضي ليلةً أخرى في الشّارع!، جلس على الرّصيف يُنظّم قصيدة، وكتب بضع كلماتٍ دون جدوى، فقد تخلّى عنه الهامه في ظلّ هذه الظروف التي يعيشها.
وإذا بظلٍّ يحجبُ عنه ضوءَ الشّمس، رفعَ رأسه ليجدَ رجلاً ضخمَ البُنية، حادّ العينين، أبيض البشرة، أخذَ يزجره:
-مَن تكون!، أنا متأكدٌ أنّه لم يسبق أنْ لاحت ملامحكَ أمامي مِن قبلُ أيّها العبد!.
توتّر أبو الحسن من نعتِه الرجلَ "بالعبد"، فاستقام يجيبُه:
-أنا من الكَرْخ سيّدي، وقد جئتُ هنا بحثاً عن لقمةِ العيش، وقد سمعتُ أنّ هذه البلدة أهلُها كُرماء مُحبّون للخير.
رفعَ الرّجل حاجبه باستهزاء وقد أدركَ أنّ هذا الشخص أمامه هو رجلٌ ساذج، ولكنّه بالطّبع لن يُضيّعُه مِن بينِ يديه، فادّعى اللّين في نبرَته:
-اوه اعذرني، وهل أنتَ مستعدٌّ لفعلِ أيّ شيء في سبيلِ تحقيقِ مُرادك؟
-أيُّ شيءٍ سيّدي، أنا مستعدٌّ دوماً.
-إذاً حرّك ساقيكَ واتبعني، عندي لكَ عملٌ مميّز.
لَحِقَ أبو الحسن بذلك الرّجل، وهاجسٌ غريبٌ في داخلهِ يحثُّه على الهرب بعيداً، وأنّ هناك خطرٌ قادم!، وبتفكيرٍ غافلٍ عن نوايا ذلكَ الرّجل المريب تجاهلَ هاجسَه مُخاطباً نفسه أنّه لن يبيتَ في الشّارع مجدداً!، فكلّ ماكان يدور بخلدهِ هو دموع محبوبته وكيف أنّه سيُسعدها عندما يعود.
دخلا مبنى عريق يعبّر عن زهدِ صاحبه وحبّه للبَذَخ، وقد تبيّن أنّه أحدُ تجّارِ البلدةِ الكبار، أوقَفهُ أمامَ أحدِ الغرف وأخبره أن يرتاح فيها ريثما يعود.
انكبّ أبو الحسن يُقبّل يديه وينهلُّ عليه بكلمات الشّكرِ والامتنان وماكانَ منَ التّاجرِ إلّا أنْ ردّ عليه مُجاملاً.
دخلَ أبو الحسن الغرفةَ وجلس فيها وخيالاتٌ كثيرةٌ تحومُ حوله، وفجأةً... عاد إليه ذلكَ الشّعور بالخطَر، فحاول تجاهلَه ثانيةً وأخذ يُكرر أنّ كلّ شيء سيمضي بخير.ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ
رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
------------------
استلقى أبو الحسن على فراشه الجديد من الريش الناعم بعد أن ملأ معدته بأطايب الطّعام وأشهى المأكولات، واستُبدلت ثيابه المتّسخة بأخرى من الحرير، متجاهلاً كل فكرة تعترض على هذا النّعيم وتنفي حقيقته والخطر اللاحق به، أخبره التاجر أنّ عمله في إدارة تجارته ستبدأ بعد ثلاثة أيّامٍ مكثَ فيها أبو الحسن عنده يتدلل أيّما دلال، وكلّ مايشتهيه يُحصّله.غربت الشمس معلنةً عن انتهاء اليوم الثالث، فدخلَ عليه أحد الخدم يخبره أنّ التّاجر ينتظره رفقة شخصين وصلا قبل قليل لملاقاته وتسيير أمور العمل.
جلس إلى التاجر ولم ينتبه إلى عيونه التي تشعُّ جَشَعاً وهتَف مباشرة بصوتٍ أجش:
-هذا هو ضيفُنا الذي حدّثتُكُما عنه، قوما بالواجبِ لأجله.
انقشعَت ابتسامة أبو الحسن وهو يرى الشخصين اللذين لم يكونا إلا حارسين يقيّدانه بالأغلال ويسحبانهِ نحو قبوٍ مظلمٍ لا ترى منافذُه النّور، التَهم الفزعُ قلبه وهو يرَى أمثالهُ منَ الرجال المساكين في ذلكَ القبو، القاهُ الحارسين بين حفنة من العبيد مهدرينَ كرامتهُ كإنسان وقال له التاجر قبل أن يُطلق ضحكةً ساخرةً يختفي بعدها عن أنظاره نهائيّاً:
-ألمْ أقُل عندي عملٌ مميّزٌ لكَ أيُّها السّاذج؟ وهل هناكَ عملٌ مميّزٌ أكثَر من أن تكونَ عبداً بينَ يديّ؟.
أخبرهُ الرجال هناك أنّه تمّ استدراجُهم جميعاً لدى هذا الرّجل الذي يكسبُ الملايينَ مِن بيعِ العبيد مستغلّاً رغباتهم وأحلامهم فيَدّعِي مساعدتَهم ومِنْ ثمّ يُلقي بهِم في هذا القبو ليُصبِحوا سِلَعاً تُشترى!!.
ارتَمى أبو الحسن على الأرض يندُب حظّه ويرثي نفسه وهو يتوجّس إلى الله مُتضرّعاً أن يخرجهُ ممّا هو فيه.
لن يكذبَ على نفسه أكثر، لقد اشتاقَ للعودة، اشتاق إلى حبيبته وديَاره..
أخذَت شفتِيه تُلقي الشِّعر دون إرادةٍ منه:بِاللَهِ يا مَنزِلَ العَيشِ الَّذي دَرَست
آثارُهُ وَعَفَت مُذ بِنتُ أَربُعُهُهَل الزَمانُ مَعِيدُ فِيكَ لَذَّتُنا
أَم اللَيالِي الَّتي أَمضَتهُ تُرجِعُهُعَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا
جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ
------------------
مضَى منَ الشّهور مامضى وأبو الحسن يعيشُ على لقيماتِ الخبز العفن والشّراب القليل، والنّعيم المُقيم الذي عاشه كأنّه لم يكن، ينتظرُ أن يحلّ به الفرَج وأعْدادُ العبيدِ تزدادُ وتنقص بشكلٍ مُستمر.وفي أحدِ الأيّام سمِع أبو الحسن والعبيد رفقتَه أصوات عالية تنبعثُ من الأعلى، وصوتُ أقدامٍ تهرعُ هنا وهناك، احتلّ الهلع قلوبهم وأخذوا يتهامسون.
وفجأة فُتِحَ بابُ القبو!، وأطلّ منه رجلينِ رفقة حرّاس يحملونَ على ملابسهم شارات ترمُز لمملكةِ الأندلس، أخذ أبو الحسن يطالعُ الرّجل في ذهول وكان وجوده أمامهُ ثانيةً هو آخِر ماتوقَّعه:
-العرّاب!
-----------------------
يتبع...
أنت تقرأ
لا تعذُليهِ || مُكتملة
Short Story-قصّة الشاعر عليّ بن زريق البغدادي والتي صُغتها بطريقة مختلفة وبأسلوبي وكلماتي الخاصة. -الموضوع العام للقصة أبقيته ذاته ، ولكن يوجد تغييرات في الأحداث والنهاية. نبذة عن حياة الشاعر وقصته الحقيقيّة: ابن زريق البغدادي الملقّب بأبي الحسن شاعر عباسي ار...