الجزء السادس

129 7 0
                                    

تبسّم العرّاب وقد كان في أحسنِ حالاته، ولم ينتبه أبو الحسن إلى باب الزنزانة الذي فُتح والعبيد يتوافدونَ من خِلاله، تجمّعت العِبرات في عينيه وراحةٌ وسعادةٌ عظيمة شَرَحتْ صدره، ارتمى في حضنِ صديقهِ يُعانقانِ بعضهما في شوقٍ كبير وكأنّهما يعرفان بعضهما منذُ زمنٍ طويل، ولكن لحظة صغيرة بينهما غيّرت مجرى الأحداث كلّها.
قال له العرّاب:
-هيّا تعال، هناكَ شخصٌ في الأعلى ينتظرك!.
ينتظرني أنا! تسائل أبو الحسن في نفسه وفكّر مَن عساه يكون؟
صعد أبو الحسن درجات القبو وهو يرتكز على كتف صديقه العرّاب وإذا به عند عتبة الباب يُطالع الرّجل الآخر الذي يبتسمُ بخفّة ولم يستطع التّعرف على هويّته، وقبل أن يَنبس بكلمة مدّ الرجل يده يصافحهُ:
-بِتُّ متأكداً أنّك هو، ياعليّ بنُ زريق، أصبحتَ ذو شأن عظيم، أنا وزير الأندلس وقد أرسلني الملكُ خصيصاً لأجلك.
لم يفهم إلى مايرمي إليهِ كلام الوزير فنقلَ أنظاره بينهما في رِيبة، قهقهَ عليه العرّاب مُخاطباً إيّاه وهو يربّتُ على كتفه:
-دعنا أوّلاً نخرجُ من هنا، وبعدها سأقُصّ عليكَ ماحدث في الطّريق.
نظرَ إليه أبو الحسن في هلعٍ مضحك:
-في الطّريق؟ إلى أين؟.
---------------
في طريقِهم نحو بلاد الأندلس، حيثُ تبادل العرّاب وأبو الحسن الأحاديث، وشرحَ له العرّاب ماحدث قائلاً:
-قبلَ ثلاثةِ أشهر تقريباً، رحلتُ إلى قريةٍ مجاورةٍ أبيعُ فيها الصّابون المعطر، حتى صادَف أنِ اشترى منّي رجلٌ يحملُ على صدره شارةَ الأندلس، فعرفتُ أنّه أحد الأفراد التّابعين للملك، وكنتُ أحملُ معي القصيدةَ التي أهديتني إيّاها، ففكّرتُ أن أسمعه القصيدة وقد أُعجبَ بها وطلبَ إسماعها للملك قائلاً: أتدري لو سمعها الملك وأعجب بها!، يارجل ستنقلب حياتك نعيماً!.
أصابَني الحماسُ الشّديد لهذهِ الفكرة فتوجّهتُ مباشرةً إلى المَملكة برفقة الرّجل، ودخلَ على الملك ومعه القصيدة.
قاطعهُ أبو الحسن قائلاً بتعجّبٍ شديد:
-ربّاه!، هل وصلت قصيدتي إل ملك الأندلس!!
أجابه العرّاب غامزاً:
-ولقد أثارتْ إعجابه بالفعل، وأحبّها حبّاً جمّاً، فعبّر عن رغبته بمقابلة هذا الشّاعرِ العظيم الذي نظم تلك القصيدة الرّائعة، وبعدها انطلق الحُرّاس في رحلةٍ طويلةٍ للبحثِ عنكَ ياصديقي منْ مكانٍ إلى مكان، وفي النّهاية وصلتهُم أخبار عن رجلٍ جَلف يبيعُ العبيد بطرقٍ غير قانونيّة ويَسجِنُ النّاس لديه في قبوٍ مُظلم أسفل منزله، فأصدرَ الملك أمراً بإيجاده، واتّضحَ فيما بعد أنّه ليس من سُكّان البلدة الأصليين، وأنّه كان يسكُنُها لتنوّع المسافرين إليها علّه يجدُ ضالّتهُ منَ الأُناس سود البشرَة.
-وكيف عرفتَ أنّني هناك؟
-بعد أن وصلتنا أخبارٌ عن ذلك الرجل، توصّل رئيس الحرس إلى مجموعة من الأسماء لأشخاص فقِدُوا منذ شهور، ولكنّ اسمك لم يكن من ضمنهم لأنّك غريب، ولن تصدّق ما المعجزة التي حدثت!!، إذ أنّ أحد العبيد الأحرار الذي نجَوا مِن براثِن ذلك التاجر بعد أن أعتقه سيّده كان قد سمع بانتشار خبر البحث عنك فهرعَ نحو الملك يخبرُه بقصّة الشّاعر المسجون مع العبيد، فامتلأَ قلبي بالأمل وقلتُ للملك لربّما يكونُ هو!، وأعرف أنّك أسودُ البشرة، فازداد الأمل أكثر، وأرسلني الملك برفقة الوزير وعدد كبير من الحرّاس، وهكذا حتى عثرنا عليك.
قطّب أبو الحسن حاجبيه بعدمِ تصديق وقال:
-ومامصيرُ ذلك التّاجر الآن؟.
-لا نعلم، سننتظرُ حكمَ الملكِ فيه.
كان هذا وزير الأندلس الذي أجابَه بجديّة ورزانَة، ثم تابع:
-ولا أظنّ أنّ الملك سيتساهلُ في حكمه لذلك الجلف، لربّما يُلقي به في السّجن مؤبداً.
ولم ينبس أحدهم بحرفٍ بعدها، استدارُ أبو الحسن ينظر من نافذةِ العربة يُفكّر، كيف جرت الأحداث بهذه الطّريقة وهذا التّيسير العظيم بينما كان هو غارقٌ في همّه وغمّه.
رفع رأسهُ يطالع النجُوم في السّماء، ولوهلة شعر بالخجلِ من كرمِ الله عليه.
شكراً يالله، تمتمَ بها بصدق وقلبه مخلصٌ وخاشعٌ لربّه، قبلَ أنْ يغمضَ عينيه مُستنشقاً الهواءَ العليل.

عِلماً بِأَنَّ اِصطِباري مُعقِبُ فَرَجاً
فَأَضيَقُ الأَمرِ إِن فَكَّرتَ أَوسَعُهُ

عَسى اللَيالي الَّتي أَضنَت بِفُرقَتَنا
جِسمي سَتَجمَعُنِي يَوماً وَتَجمَعُهُ

وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ
فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ

---------------
يتبع الخاتمة😊...

لا تعذُليهِ || مُكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن