استمرّت رحلة أبي الحسن أياماً طِوال بلياليها، وقد بلغَ منه التعب كلّ مبلغ، إلى أنْ وصلَ قريةً نائيةً حالُها ليس أفضلُ مِن حال قريته، ولكن مايميّزها هو إطلالتُها على أحد السّواحل، ممّا يعني صيداً وفيراً، والكثير من المال، وقد كان بعض الرّجال يصطادون، فاقتربَ منهم يُلقي السّلام، فردّوه بأحسنَ منها، قال أبو الحسن:
-هل أنتم من أهل هذهِ القرية؟.
ردّ عليه أحدُ الرّجال، وقد كان يبدو عليه بأنّه رجلُ بحرٍ شهم وشجاع، ضخم البنية عريض المنكِبَين، غطّى الشّعر وجهه، كان يردتي حلّة قديمة أقرب مايكون للفايكينغ:
-أوه لا ياسيدي، إنّ هذه القريةَ مهجورةٌ تماماً، وقلّةٌ هم مَن يرتادونها، أمّا نحن، في رحلة بحث عن خيراتِ البحار، وهذا السّاحل ليس كغيرهِ منَ السواحل الغنيّة بالكنوز بالبحريّة.
-إذاً أنتم مسافرون؟.
-يمكنكَ قولُ هذا.
-ومِن أيّ البلاد جِئتُم؟.
ردّ عليه آخر بفخر، وقد كان رجلاً نحيلاً أصهَبَ اللّحية:
-مِن مومباي.
-مومباي؟ الهند!.
-نعم.
-وتتحدّثون العربيّة!؟.
هزّ كتفيه مُردفاً بلامبالاة:
-بالكاد عِشنا فيها، كنّا نتنقّل بينَ البُلدان المختلفة مُذ شبابنا، حيث استقرّينا في الأندلس في أحد فترات حياتنا.
-لقد قطعتم شوطاً طويلاً أيّها الرجال.
-البحر يستحقُّ ياصديقي.
وتسائَل أبو الحسن:
-وأين سفينتكم؟.
أجابَه الأوّل بغِلظة:
-دمّرتها العواصف الكاسرة! إنّنا نستقلّ قارب صديقنا الصّغير حالياً، والذي سينطلقُ بعض سويعات.
تهلّلت أسارير أبا الحسن وقال:
-هذا رائع، أين ستتوجهون؟.
-لا إلى مكان ياصديقي، إنّنا باقون هنا أياماً متتالية، ولكن صديقُنا لديه بعض الأعمال.
وأشار إلى البعيد حيث يقف رجلٌ يشابههُم يُجري بعض الإصلاحات على قاربه الصغير، والذي استدارَ متوجّهاً نحوهم ما إنْ ناداه أصدقائه:
-أيّ أبو التمّام!، تعال هنا لتلقي التحيّة على صديقنا.
اقترب أبو التمّام مُلقياً التحيّة:
-السّلام عليكم.
مدّ يده يصافح أبا الحسن:
-وعليكم السّلام ورحمة الله وبركاته، أنا عليّ بن زريق، المُكنّى بأبي الحسن.
-إنّه لشرفٌ لي أن ألقاك يابن زُريق.
-سمعتُ أنّك ستنطلق بقاربك قريباً يا أبا التمّام؟.
-ماسمعته يا أبا الحسن!.
-وهل معكَ حمولة؟.
-لا حمولةَ غيري.
-وهل تقّلني معك؟.
توجّست ملامح أبا التمّام مجيباً:
-تريدُ الذهاب إلى إسبانيا؟.
-إسبانيا؟ ستذهب إلى إسبانيا؟.
-قُرطبة تحديداً.
وكانت هذه فرصة أبا الحسن الوحيدة للخروج من هذه البلاد والسّفر إلى بلاد أخرى يمكن أنْ يحصل فيها على مراده إذ أنّه وافق دون أدنى تفكير على السّفر شهوراً برفقة أبي التمّام متّجهين نحو قُرطبة في جنوب إسبانيا.
---------------------
وطأتْ قدما أبي الحسَن أرض إسبانيا، يتجوّل في شوارع قُرطبة وعينيه مفتوحة أقصاهُما، متعجباً جمالها وعراقتها، فخامة قصورها وكثرة معالمها وآثارها العظيمة.
نَعم يا سادة إنّها قُرطبة، زهرةُ الأندلس وعاصمتُها التي كانت مركز الخلافة الإسلاميّة فيها والشّاهد الأعظم على أزهى عصور الحضارة الإسلاميّة، وقد بدأ أبو الحسن يَستشعرُ تحسّن الأوضاع، وبأنّ الفرج سيفتح أبوابه أخيراً في وجهه.
يتحسّس الحياة في شوارع قرطبة حيث لقطات لابدّ أنْ يُصادفها المارّة، فيجد رجلاً عجوزا ينادي على اليانصيب، و عرّافة تقرأ الكف،... و فجأة يسمع نغمات عازفي الجيتار الذين يتسكّعون في الشوارع يغنّون وقد وضعوا صورتهم وبجانبها توجد قبعة مكسيكيّة تُوضَع فيها أموال المُستمعين من المارّة.
كان غارقاً في سحر هذه المدينة ولم ينتبه لمرور الوقت وبأنّ الشّمس قد غربَتْ بالفعل.
حلّ الظلام، وطافَت النّجوم في بحر الدُّجى، وأبو الحسن غارقٌ في حيرته، ومضَت أيّام على هذه الحال يحاول فيها البقاء على قيد الحياة فاستأجر شقةً بقدر حاجتهِ البائسة بسعرٍ رخيص، يتناول فتاتَ الطعام المتبقّي، إلى أنْ رأى عجوزاً يضعُ حمولةً ثقيلةً على ظهره وقد أضناهُ التعب وأهلكَ كاهلَه، وربّ عملِهِ ينهَرُه، ليس وكأنّه رجلٌ طاعنٌ في السّن يتوجّب عليه احترامه:
-لقد أخبرتُكَ مئة مرّة أنّكَ لا تُصلح لهذا العمل! ولكنّكَ عجوزٌ عنيد تُحَمّل نفسك ما لا طاقة لها به!.
قال العجوز وحبيباتُ العرق تنسابُ مِن جبينه:
-والله ياسيدي إنّني بحاجةٍ إلى هذا العمل.
-لا يهمّني، أريد رجلاً جاداً في عمله يستحقّ حصوله على المال، إنّ ضُعف جسدكَ لا ينفعني!.
وبدأ النّاس بالتّجمّع والاحتجاج على هذا الخبّاز الجَلف، مطالبين بحقّ العجوز المسكين.
لم يستطع أبو الحسن كتْم غيظِه، إذ توجّه مُسرعاً ناحيتهمَا وصرخَ من بين الحشود:
-أنا ساحلُّ محلّه!.
ساد صمتٌ مريبٌ في تلك اللّحظة وأخذ الجميع يطالعونَ أبا الحسن وبعضهم يتعجّب متسائلاً مَن هذا الرجل المِغوار الذي ضحّى بحريّته لأجلِ رجلٍ عجوزٍ على أبواب الموت، نظر الخبّاز إليه بجدية وقال:
-هل أنتَ عند كلامكَ أيّها السيد؟.
توتر أبو الحسن قبل أن يردّ دون أن يَعِي مايقول:
-أنا عند كلمتي، حتّى أنّني سأُعطي نصفَ أُجرتي لهذا العجوز!.
بدأ الناس يتهامسون فيما بينهم، وأبو الحسن يؤنّب نفسه على كلامه، إلّا أنّه سرعان ماتذكّر أنّ رزق كلّ إنسانٍ محفوظٌ عند الله، ومنَ المستحيل أنْ يأخذَ أيّ إنسانٍ رزقَ غيره، فاستعاد رباطةَ جأشه متوكّلاً على الله، عازماً على تحقيق ماوَعَد به!.
رفع الخبّاز إحدى حاجبيه بشك قبل أن يقول:
-حسناً أيّها السيد، العمل لك، ولكن إحذر أن تتهاونَ فيه، فأنا لن أتهاون معكَ عندها!.
حرّك أبو الحسن رأسه موافقاً، بعدها انقشع التجمّع البشري وكأنّه لم يكن وعاد كلٌّ إلى عمله، ودلفَ الخباز بدوره إلى مكان عمله تاركاً أبا الحسن برفقة العجوز، والذي سارع ناحيته يحثّه على النهوض:
-لماذا فعلتَ هذا يابني؟ لم تكن مضطراً ل...
اسكتهُ أبو الحسن واضعاً إصبعيه على فمِ العجوز:
-ويحكَ ياعمّاه!، لقد حدثَ ماحدث وانتهى الأمر، وأنا عند وعدي، ومازلتُ سأعطيكَ نصف الرّزق من العمل.
-أنت رجلٌ بمئةِ رجلٍ يا أبا الحسن، إنّ أمثالكَ من الشُّجعان قِلّةٌ قليلة.
وقال بابتسامة حاول جاهداً إظهارها:
ولعلّي أزوّجكَ إحدى ابنتيّ.
ضحك أبو الحسن مِلئ شدقيهِ، وقال:
-يا الهي إذا عرفَتْ زوجتي فستقتُلني حتماً!.
تأوّه العجوز بخفّة:
-لم أعرف أنّك متزوج، اعذرني يابنيّ.
انمحَت آثار الضّحك مِن على وجهه عندما تذكّر زوجه:
-نعم أنا متزوّج، وقد تركتُ زوجتي تتجرّع الألم وحدها وسافرتُ طلباً للرّزق.
-ولكن على الأقل دعني أُسدي لكَ خدمة، وأجعلك تَبِيتُ في منزلي المتواضِع، ردّاً لجميلِ صُنعك.
خجِل أبو الحسن من عَرضه، رادّاً:
-شكراً لك أيّها العم الطيّب، ولكن عندي منزلٌ بالفعل، ولا أريدُ أنْ أثقلَ على أهل بيتكَ وأُسببّ إحراجاً لابنتيك!.
-----------------------
يتبع..
لاتنسوا التصويت👍❤
أنت تقرأ
لا تعذُليهِ || مُكتملة
Kurzgeschichten-قصّة الشاعر عليّ بن زريق البغدادي والتي صُغتها بطريقة مختلفة وبأسلوبي وكلماتي الخاصة. -الموضوع العام للقصة أبقيته ذاته ، ولكن يوجد تغييرات في الأحداث والنهاية. نبذة عن حياة الشاعر وقصته الحقيقيّة: ابن زريق البغدادي الملقّب بأبي الحسن شاعر عباسي ار...