1

8.4K 179 61
                                    



نظرتُ إلى الرسالة بقلبٍ منقبض.. وأعدتُ قراءتها لأستوعب الأمر.. لكنني لم أستوعبه.. كيف حصل الأمر بهذه السرعة؟.. إنه ما زال في الثامنة عشر من عمره.. كيف يريدون منه الالتحاق بالتجنيد الإلزامي وهو الذي يبغض حتى الشجار الشفهي؟.. يوسف الرقيق.. الحساس.. المتفوق في دراسته والذي قُبل في جامعة فرنسية وستتكفل بتكاليف انتقاله ودراسته من شدة ذكائه وتميّز إنجازاته الدراسية.. كيف له أن يتخلى عن حلمه من أجل سنة كاملة في التدريب القاسي والضغط النفسي؟.. لن يستطيع فعلها.. طويتُ الورقة وأسندتُ جبيني على يدي.. سمعتُ كثيراً عن إعادة التجنيد الإلزامي في البلد بسبب ازدياد المجموعات الإرهابية في عدد من المدن واستمرار انتشارهم في المناطق..
فقد الجيش الكثير من رجاله في المعارك وكان لا بد من عودة التجنيد الإلزامي لصدّ العدو و إخراجه من أرضنا.. لكنني لم أتخيل ليوم أن يمس القانون أخي يوسف.. لأنه أكثر شخص يبغض العنف و يبتعد عنه.. لذلك كنتُ دوماً من يقوم بالمهام العنيفة بدلاً عنه.. فمن يمسه بضربة أو أذية أردّها له ضعفاً حين أعلم بالأمر.. وهكذا لم يقربه أحد خوفاً مني.. لستُ فقط الأخت الكبرى ليوسف.. بل أنا الأب الذي يفتقده كلانا.. والأم التي لا نراها إلا ساعة واحدة كل مساء.. أنا كل شيء ليوسف.. وهو كل شيء لي.. فكيف أسمح لهم بتحطيم حلمه؟..

سمعتُ باب المنزل يُفتح فأسرعتُ بفتح درجي و وضع الورقة فيه ثم خرجت من الغرفة.. رأيتُ يوسف يُلقي بنفسه على الأريكة و هو يتذمر من التعب..
نظرتُ إلى حقيبته التي وضعها على الطاولة و تألمتُ لمنظرها الثقيل.. لا بد أن كتفه انخلع من وزنها.. اقتربتُ منه وسألت:
ـ تاكل هسه؟

لم يفتح عينيه حين أجاب:
ـ لا، خل ارتاح أول.

أطلتُ النظر إلى وجهه المتعب وأنا أفكر بالأمر.. كيف سأخبره؟.. أليس هناك طريقة لإنقاذه من هذه الورطة؟.. لم يتبقَ على سفره إلى فرنسا إلا أسابيع قليلة وهو يتوق لتلك الفرصة.. كيف أحطم آماله بخبر التجنيد الإلزامي؟.. تنهدتُ وحملتُ حقيبته الثقيلة إلى غرفته.. أخرجتُ منها الكتب الإنجليزية و رتبتها على طاولته الكبيرة المخصصة للدراسة ليراجع دروسه بعد الغداء كعادته..
ثم جلستُ على سريره بثقلٍ وأنا أصارع حيرتي.. استقرت عيناي على صورته المعلقة على الجدار.. كان في الخامسة من عمره ويجلس في حجر جدي رحمه الله.. وجنتاه متسختان بالشوكولا التي يمسك بها بكلتا يديه.. انتقل تركيزي إلى وجه جدي الباسم وحررتُ حسرة.. ليتك هنا.. كم كنت ستحمل عني هموماً لا طاقة لي على حملها.. أطرقتُ برأسي و تحولت قلة حيلتي إلى شيء من الغضب.. الذنب ذنب والدنا.. حتى في بعده يؤذينا.. لو لم يكن متزوجاً و لديه أولاد لما اضطر أخي للالتحاق بالتجنيد الإلزامي.. لكان الولد الوحيد فيتم اعفاءه.. تنهدتُ بيأس و نهضتُ لأغادر الغرفة..




*****



تبعتُ والدتي إلى غرفتها بعد انتهائنا من وجبة العشاء.. كانت تجلس على سريرها و تقوم بترطيب يديها المجهدتين من كثرة العمل في المشفى..
منذ انفصالها عن والدي وهي تعمل كممرضة لتتمكن من إعالتنا.. كانت تعمل ساعات قليلة حين كان جدي حياً ويساعدنا في سد حاجتنا، لكن بعد وفاته اضطرت للعمل ضعف الساعات لئلا نحتاج لأحد.. خصوصاً لأخوتها الثلاثة الذين قطعوا صلة الرحم حين نقل جدي ملكية البيت إلى أمي.. كنتُ أتأمل لسنين أن أتخرج من قسم الهندسة وأعمل لترتاح هي، لكن خابت آمالي حين لم أجد وظيفة وبقيت شهادتي ورقة لا فائدة منها..
اقتربتُ من والدتي وجلست على طرف السرير لألقي عليها بالخبر السيء.. أعلم أنها ستنهار لكني لا أستطيع إخفاء الأمر عنها.. سرعان ما ظهرت عقدة على جبينها وكأنها أحسّت بشيء.. تنحنحتُ وقلت بصوت منخفض:

في الخط الأماميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن