6

1.4K 109 60
                                    


رأيتُ الجنود يخلعون قمصانهم فزاد فزعي ولم أجد سوى حيدر أتوسل إليه بعينَيّ رغم معرفتي بقلة حيلته.. تلفّت من حوله بحثاً عن حل.. ثم أقترب مني وهمس:

ـ اكو حل واحد.

نظرتُ إليه بلهفة و همست:

ـ شنوو؟

ـ لازم نتعارك.

عقدتُ جبيني بعدم فهم فقال:

ـ حتى نتعاقب و يفوتنه التدريب، دفعيني بسرعة.

عضضتُ على شفتي و ألقيتُ نظرة أخيرة على من حولي، لقد انتهوا من خلع قمصانهم و همّوا بوضعها جانباً على أرض الساحة.. قلتُ بارتباك:

ـ ماشي.

ـ بس لازم يبين الضرب حقيقي، و إلا ممكن يشكون.

أومأت برأسي ثم رفعتُ يديّ المرتعشتين و دفعته بصدره.. ربما كانت الدفعة قوية.. أو لم يكن مستعداً لها.. لأنه ترنح إلى الوراء بخطوة.. أما التأوه الذي أصدره فإنني أظنه تمثيلاً.. زمجر غاضباً واندفع نحوي يمسك بياقة قميصي و يركل ساقي من الخلف حتى انطبقت وسقطتُ أرضاً.. لكنه لم يتركني و أنقضّ عليّ يحاول ضربي في وجهي فأمسكتُ بمعصمه سريعاً و لكمته في بطنه باليد الأخرى.. في تلك الأثناء تدخّل بهاء المصدوم و أمسك بحيدر من الخلف يُبعده عني و هو يصرخ به:

ـ هاي شبيك تخبلت؟!

سمعتُ صوت نائب العريف و هو يتساءل بغضب عمّا يجري.. رفعتُ نفسي لأجلس ورمقتُ حيدر بنظرة حاقدة.. فحاول تحرير نفسه من قبضة بهاء و معاودة الهجوم عليّ لكن صراخ النائب أوقفه مكانه.. أمرنا النائب بالوقوف أمامه.. ثم تساءل عن سبب تصرفاتنا الصبيانية.. وحين لم يحصل على إجابة وجّه صفعة لكلٍ منا و طلب من المساعد أن يذهب بنا إلى قسم الأثقال لتلقّي العقاب.. شعرتُ بأن فكّي انخلع من مكانه من قوة الصفعة.. و دمعت عيناي للألم الذي ظلّ يحرق وجنتي.. لكنني سرتُ مع حيدر و المساعد وأنا أحرر نفساً ثقيلاً.. لم ينتهِ أمري.. بفضل حيدر الذي سيتحمل الأذية من أجلي.. وقف المساعد أمام خشبتين على كلٍ منهما عجلة ضخمة و أخذ بالحبلين المتصلان بالخشبتين ليأمرنا بشدها حول بطوننا.. أخذت الحبل و شددته حول بطني و أنا أختلس النظر إلى حيدر.. لكنه لم يكن ينظر إليّ.. ربما لكيلا ينكشف أمرنا..
قال المساعد بحزم:

ـ كدامي، تلفون الساحة لحد ما يخلص تدريب البقية.

بدأنا مسيرنا حول الساحة و نحن نجرّ بالثقل الذي يكاد يقسم البطن نصفين.. صككتُ على أسناني و أنا أذكّر نفسي بأن هذا الألم خير من الفضيحة.. لكن ذلك لم ينفع بتخفيف الوجع الذي أصاب كل جزء في جسدي.. بالأخص بطني.. وظهري الذي يتلقى ضربة بالعصى كلما أبطأتُ خطواتي.. لا إرادياً نظرتُ إلى حيدر لأطمئن عليه رغم أن حالي لا يسمح بالتفكير بغيري.. كان منهكاً.. العرق يتصبب من جبينه.. أنفاسه لاهثة.. وما يزال يتجنب النظر إليّ.. آسفة.. هل تكفي هذه الكلمة؟.. لا شيء يكفي لأعتذر عمّا يقاسيه بسببي.. عادت عيناي لتدمع ولم أعرف السبب الحقيقي.. هل هو شعوري بالذنب؟.. هل هو ألم العقاب؟.. أم هو تعبي من كل ما أعانيه في المعسكر؟..
لا أعرف كم مرة سرنا حول الساحة.. لكني أعرف أن جسدي بدأ يستسلم شيئاً فشيئاً.. و أني فقدتُ الإحساس بظهري من كثرة الضرب عليه.. شعرتُ بحيدر ينظر إليّ للمرة الأولى منذ بداية عقابنا.. يبدو أنه لم يستطع المقاومة أكثر.. فنظرتُ إليه بعينين دامعتين.. لاحظتُ تصلب معالمه و ضغطه على فكه.. وكأنه يقول اصمدي.. لكن لا طاقة لي للصمود.. حين انعطفنا إلى اليسار مرة أخرى لمحتُ الرقيب يخرج من السكن الخاص بالمسؤولين.. كان برفقة الضباط و العريف مهدي.. كنتُ كالعطشان الذي بحث عن الماء لأيام حتى ظن أنه سيموت ثم لمح بئر من بعيد.. أسرع أرجوك.. أنقذني كما تفعل دائماً.. أنقذ حيدر.. بقيَت عيناي ثابتة عليه و أنا أتابع سيري و أكاد أقع أرضاً لضعفي وشدة آلامي.. رأيته يودّع الضباط ثم يلقي نظرة على الساحة.. و تقع عيناه عليّ..
فتحرّك إلى الساحة قاصداً نائب العريف.. وقف عنده و تحدث معه.. يبدو أنه يسأله عن سبب العقوبة التي نتلقاها.. أسرع أرجوك.. إنني أنهار.. وكأنه سمع توسلاتي فتحرّك من جديد.. هذه المرة باتجاهنا.. نظرتُ إليه بلهفة وأنا أرجوه في قلبي أني يُسرع أكثر.. أشار بيده إلى المساعد أن يتركنا على انفراد فنفّذ الأمر.. ورغم أن الرقيب لم يسمح لنا بالتوقف لم أتقدم خطوة أخرى و فككتُ عقدة الحبل لأمسك ببطني و أمتعض ألماً.. توقف حيدر أيضاً و نظر إلى الرقيب منتظراً الأمر.. وصل الرقيب إلينا فلاحظتُ جمود تعابيره.. أمرنا باتباعه إلى مكتبه.. أقلقتني تعابيره.. يُشعرني وكأنني ارتكبت ذنباً عظيماً.. أليس العقوبة أفضل من كشف أمري؟.. ما الذي يُزعجه؟.. تبعناه إلى مكتبه و لم يطلب منا الجلوس كما يطلب مني عادة.. إنه غاضب.. الأمر أصبح أكثر وضوحاً هنا.. وقف أمامنا و ثنى ذراعيه على صدره فبدا أضخم من العادة.. و.. مخيف بعض الشيء..
ركزّ نظره في وجهي وقال بصوتٍ مهيب:

في الخط الأماميحيث تعيش القصص. اكتشف الآن