الحلقة الرابعة و الاربعون الجزء 1
الخيار المستحيل
استقبلنان العم إلياس استقبالا حميما جدا... مليئا بالعناق والقبل... فقد كان غيابنا طويلا وبقي العجوز وحيدا بعيدا عن أخته وابنتها اللتين لم يسبق له فراقهما... كانت خطتي المبدئية هي أن نأتي جميعا إلى المزرعة فقد تساعد الأجواء هناك على تحسين الأوضاع النفسية لنا... وإن رفضت رغد البقاء هناك, وهذا ما أتوقعه, كنت سأخذها إلى بيت خالتها وأقضي في المزرعة بضعة أيام... مخاوفي الأولى كانت في ردود فعل عائلة أم حسام تجاه إصابة رغد, والتي لم تذكر لهم شيئا حتى الآن... بضع أيام في المزرعة هي كافية لتجديد نشاطي وطرد هموم صدري... أزور أثناءها شقيقي سامر وأقنعه بالمجيء للعمل معي في المصنع, ونعود نحن الثلاثة إلى منزلنا الكبير... كان هذا ما أتمنى حصوله وأجهل ما الذي ستؤدي إليه الأقدار مستقبلا... أروى غاية في البهجة وتكاد تقّبل حتى الأشجار من شدة الشوق والحنين, والخالة لا تقل عنها فرحا... أما الفتاة الواقفة خلفي فهي تسير بعكازها خطوة للأمام وخطوة للخلف, رافضة دخول المزرعة... انطلقت أروى تعدو بين الأشجار كالفراشة... ونشرت الخالة بساطا قماشيا على العشب بجانب مدخل المنزل... وجلست عليه ومددت رجليها باسترخاء... وذهب العم إلياس يقطف بعض ثمار العنب ثم غسلها وجلبها إلى البساط وأشار إلينا: "تعالوا... تذوقوا". الوقت كان ليلا... والنسيم كان عليل جدا والهواء غني بالأوكسجين النقي الذي يبث الحيوية والانتعاش في البدن... وكم نحن بحاجة إليها... "تعال يا وليد... إنه لذيذ جدا... تفضلي يا آنسة رغد". دعانا العم إلياس بسرور إلى وجبة العنب الطازجة... التفت إلى رغد التي تقف خلفي مترددة وقلت: "تعالي رغد". الإنارة كانت خفيفة منبعثة رئسيا من المصباح المعلق عند مدخل باب المنزل... لكنها سمحت لي برؤية الاعتراض على وجه رغد. خاطبتها: "رغد... ما الأمر؟" أفصحت: " تعرف... لا أريد المبيت هنا". اقتربت منها أكثر حتى أخفض صوتي وأضمن عدم وصوله لمسامع الآخرين... "أرجوك يا رغد... لا تحرجيني مع العائلة... تحملي قليلا من أجلي". قالت: "لكن..." ولم تتم فقلت: "بالله عليك... على الأقل لهذه الليلة... نرتاح من عناء السفر ونقابل كرم المضيفين بحسن الذوق... لا يمكننا أن نخرج هكذا فجأة دون اعتبار للأدب واللياقة... أنا أرجوك بشدة يا رغد". واستجابت رغد لرجائي الملح... وسارت معي حتى حتى جلست على طرف البساط ببعض المشقة... وأقتربت أنا من سلة العنب وأخذت لي ولها شيئا منه... وكان بالفعل لذيذ جدا... تبادلت والعم إلياس أحاديث خفيفة متنوعة وشعرت بارتياح شديد قلما أشعر به مع شخص غيره... والعم كان من الأدب بحيث إنه لم يسأل عن تفاصيل ما أصاب رغد حين رآها بالعكاز بل اكتفى بحمد الله على سلامتها... قضينا نحو الساعة جالسين على البساط نتناول العنب حتى أتينا على آخره... سمعت بعد ذلك رغد تهمس لي: "لا أستطيع الجلوس هكذا طويلا... أصاب الإعياء رجلي". قلت: "حسنا... هل تودين الذهاب إلى الداخل؟" سألتني: "ماذا عنك؟" أجبت: "أود البقاء هنا فالجو رائع جدا... وقد أبيت الليلة على هذا البساط!" وابتسمت للتعجب الذي ظهر على وجه الصغيرة ثم نهضت ونهضت هي معي, واستأذنا للدخول إلى المنزل... ساعدت رغد على صعود العتبات ورافقتها إلى غرفتها ثم توليت حمل الحقائب إلى الداخل وتأكدت من أن كل شيءمهيأ لها, وتركتها لتسترخي... عدت إلى الخارج واستلقيت على البساط وبدأت أملأ رئتي من الهواء النقي... أغمضت عيني في استرخاء تام... وكنت أسمع أحاديث العم والخالة المرحة... وربما من شدة استرخائي غفوة لفترة من الزمن... صحوت بعد ذلك على أصوات أشخاص يتحدثون,وحين فتحت عيني رأيت العم والخالة وأروى جالسين على مقربة مني وملتفين حول صينية الشواء... ورائحة المشويات تملأ المكان. قال العم: "ها قد نهض وليد... نوم العافية... تعال وشاركنا". جلست ونظرت إلى الجمر المتقد وقلت: "آه... أما زال لديكم طاقة بعد السفر!" رد العم: "وهل ستنامون دون عشاء؟ اقترب بني". وجلست معهم أملأ أنفي بالرائحة الطيبة... أروى كانت تتولى تقليب المشاوي بهمة... وكانت قد أطلقت شعرها الطويل لنسمات الهواء... وعندما هب نسيم قوي حمل خصلة منه نحو الجمر فحركت يدي بسرعة لإبعاده وأنا أقول: "انتبهي". لا أعرف إن كان العم لا حظ وجود شحنة بيني وبينها أم لا... والخالة سرعان ماتدخلت وأعدت الطبق المنشود وبنفسها حملته إلى غرفة رغد, غير أنها عادت به بعد قليل وأخبرتنا أن الفتاة نائمة.