الحلقة السادسة و الاربعون الجزء 1
عد إلـــــيّ
انقضت فترة العزاء وقد شاركت في التعزية مع بقية أفراد عائلة خالتي, وعندما جاء دوري ووقفت أمام الشقراء لأواسيها لم أستطع مصافحتها بسبب يدي المصابة واكتفيت بعبارة مخنوقة خرجت من فمي ببطء. والشقراء بدورها ردت بشكل عابر دون أن ترفع نظرها إلي.. لكن الحزن جليا على وجهها. السيدة ليندا كانت طيبة وقد أحسنت معاملتي وسهرت إلى جانبي في المستشفى ورعتني بكل مودة ولطف... رحمها الله... وغفر خطاياها... متى سيحين أجلي أنا أيضا؟؟... أنتظر الموت.. ليأخذني كما أخذ أحبابي... ويخرجني من شقايا الدنايا وما فيها... كنت أعرف أن وليد موجود في القسم الآخر من قاعة التعازي.. وكنت أعرف أنه أبعد ما يكون عن التفكير بي في هذه الفترة.. لكنني كنت في شوق منجرف لرؤيته ولو لدقيقة واحدة... ولو لنظرة بعيدة عاجلة... أعانق فيها عينيه ولو لآخر مرة في حياتي... ولخيبة الأمل وتحالف الأقدار ضدي, عدنا إلى المنزل دون أن ألتقي به ولا حتى صدفة.. ومرت الأيام... ونخر الشوق عظامي.. وأتلف الحنين ذهني... ولم أعد بقادرة على الانتظار يوما آخر.. كيف... وأنا أعرف أن ما يفصلني عنه هي أميال قليلة لا أكثر...؟؟ وأن هو لم يأت إلي... فسأذهب أنا إليه... فقط لألقي نظرة... "هل أنت مجنونة!؟" قالت نهلة معترضة على فكرتي وليدة اللحظة.. فقلت: "نعم مجنونة.. لكني أريد أن أراه بأي شكل يا نهلة..أكاد أختنق.. لا أحد يحس بي هنا". قالت: "تخيلي كم سيكون وضعك حرجا ومدعاة للسخرية عندما تذهبين فجأة إلى المزرعة الآن... هيا رغد.. تخلي عن هذه الفكرة السخيفة... توفيت أم زوجته قبل أيام وأنت تفكرين في هذا؟؟" قلت: "سألقي عليه التحية وأعتذر منه وأعود... حتى لو لم يرد علي... المهم أن تكتحل عيناي برؤيته... ويبرد صدري بتقديم الاعتذار..." فقالت: "ماذا سيقول عنك يا رغد؟؟ هو في محنة عظيمة وأنت تذهبين لتقديم الاعتذار! سيستحقر موقفك... ليس هذه وقته.. انتظري أسبوعين على الأقل". هتفت: "لا أقوى على الانتظار... ألا تفهمين؟؟ أنتِ لا تشعرين بالنار المضرمة في صدري..." أشاحت نهلة بوجهها عني وقالت: "لقد حذرتك... افعلي ما تشائين". وغادرت المكان... خرجت بعد ذلك إلى الحديقة...طلبا لبعض الهواء النقي... والتقيت بحسام صدفة وهو مقبل نحو المنزل... فلمعت الفكرة في بالي كمصباح قوي أعشى عيني عن رؤية ما هو أعمق من ذلك... "مرحبا حسام". حييته فرد مبتسما: "مرحبا رغد.. ماذا تفعلين هنا؟؟ تدربين رجلك على المشي؟؟" قلت وآمالي تتعلق به: "حسام.. هلا أسديت إلي معروفا؟" قال وعلى وجهه الاستغراب: "بكل سرور!" فقلت بلهفة: "أريدك أن.. أن تصطحبني في مشوار.." فسأل: "إلى أين؟" ازدردت ريقي وقلت: "إلى... مزرعة أروى". سأل متعجبا: "مزرعة أروى؟؟" "نعم.. أرجوك". ففكر قليلا ثم سأل: "لماذا؟؟" ترددت في الإجابة.. عرفت أنني لو قلت من أجل مقابلة وليد فإنه لن يوافق.. فقلت: "سأتفقد أحوالهم.. وألقي التحية". وبدا مبررا معقولا بعد عدة أيام على وفاة السيدة ليندا.. وسألني إن كنت قد أعلمت خالتي بهذا فأقنعته بأن الأمر لا يستدعي... وبعد تردد قصير وافق على اصطحابي, وخرجنا مباشرة... حين بلغنا المزرعة لم يكن وليد موجودا وأخبرنا العجوز والذي كان يجلس كعادته قرب باب المنزل بأن وليد قد ذهب في مشوار وسيعود قريبا.. ودعانا للدخول لكننا آثرنا البقاء في الخارج وانتظاره.. وذهب العجوز لاستدعاء الشقراء فعلاني التوتر.. أنا لم آت من أجلها كما أنها لا تنتظر مني زيارتها.. لكني وضعت نفسي في هذا الموقف وعلي التصرف الآن.. أبدى حسام إعجابه بالمزرعة وراح يتحدث عن انبهاره بما يرى غير أنني لم أكن مركزة السمع معه.. بل في انتظار لحظة ظهور الشقراء.. وأخيرا ظهرت... ملفوفة في السواد الحزين, كما هي حالي.. وكأن عدوى اليُتم والبؤس قد انتقلت مني إليها... وقد اعتدت في الماضي رؤيتها ملونة بشتى ألوان قوس قزح.. مثل سرب من الفراشات أو إكليل من الزهور... عندما اقتربت زممت شفتي ترددا ثم ألقيت عليها التحية وسألتها عن أحوالها.. وأنا متأكدة من أنها تدرك أنني لم أكن لأقلق على أحوالها أو أترث لها.. ولا بد أنها تدرك أن سبب حضوري هو... وليد... ساعد وجود حسام في تلطيف الجو.. وتشتيت الكآبة وصرف أذهاننا إلى الحديث عن المزرعة وشؤونها.. ذهبت الشقراء لإعداد القهوة فوجدتها فرصة للاسترخاء من عناء الموقف المصطنع.. وبقي حسام والعجوز يتحدثان أحاديث عادية... أما أنا فعيناي ظلتا ترقبان البوابة إلى أن رأيت أخيرا سيارة تقف عندها ومنها يخرج مجموعة من الرجال... يقودهم الرجل الطويل العريض.. بهي الطلعة قوي القسمات ثاقب النظرات.. مضرم ناري وحارق جفوني وسالب عقلي وشاغل تفكيري.. حبيبي الجافي.. وليد قلبي.. الأرض لم تكن أرضا والسماء لم تكن سماء... حين عانقت عيناي عينيه.. والتحمت نظراتي بنظراته.. آه.. كيف لي أن أصف لكم؟؟ لحظتها خلا الكون من كل الخلائق... سوانا... لا وجود للأرض ولا السماء... ولا النور ولا الهواء... ولا الجماد ولا الأحياء... فقط... أنا وهو... وعيون أربعة متشابكة متلاحمة... ذائبة في بحور بعضها البعض... أيما ذوبان...