سوسن ( الدودة)

217 7 5
                                    

كان عمي أبو محسن شخصاً ليس بالغ السوء معي

لكن الفرق في معاملته لي ومعاملته بزوجته وابنته  فرقاً شاسعاً جداً

ومع الأيام، أشعر بنظرات الاستثقال التي يرمقني بها

مع أنني لا آكل إلا القليل، وانهض لتنظيف المنزل والغسيل وتقشير البصل  وشطف الأرضية دون أن تطلب مني زوجة عمي ذلك

ومرت الأيام وقلبي وروحي تنسحقان تحت نظرات عمي الممزوجة بالبغض والمقت الشديدين وهمساته التي تنخز في صدري كالسكاكين مع زوجته وابنته

ثم جاء الفرج عليه يوماً وطلبني لغرفة الجلوسً وقال أن هناك خاطبين لي، رجل ذو سمعة طيبة جاء من بلاد الذهب الأسود  ويريد عروسة لنفسه

عرفت حينها أنه قد باعني وانتهى الأمر وأنا هنا فقط كي أطرق برأسي نحو الأرض وأوافق كالنعجة الضعيفة الخانعة

ورغم أن ابنته أكبر مني بكثير وستبلغ عامها التاسع والعشرين عما قريب إلا أنه رغب بتزويجي أنا... الصبية الصغيرة ذات العشرين عاماً، أكل القهر منهم سنتين عجاف، من الحرمان  واللوعة وانعدام الحنان في بيت من يسمى عمي

باعني لحماً لرجل عجوز أكل الشيب رأسه، لديه أولاد بعمري من زوجتيه السابقتين

باعني مقابل مبلغ لابأس به من المال يفترض أن يكون مهري

باعني واستفاد مني، بدل أن يستمر في شكوته ونواحه أمام عمتي كي تأخذني لأعيش عندها بحجة أن مصروفي كبير والحال في ضيق

أراك بالغ الحقارة والوضاعة ولكنها خطة ذكية استغلالية ممتازة، فهو كان قد قرر أن يرميني لأول رجل يطرق الباب، ويبدو أن العفن الذي يخرج من شقوق جدران بيته الطيني جذبت ذبابة كبيرة

ذبابة مغمسة بالنفط ورائحة النقود، تريد أن تحط فوقي لتفعسني  أنا، الدودة الصغيرة الضعيفة مكسورة الفؤاد

ومر الأسبوع سريعاً وطار أبو منصور ( العريس)  نحوي كالمصاب بآفة في عقله

دمه كان ثقيلاً وصوته كان عجائزياً وتفوح منه رائحة الكبار في السن

يلقي نكاتاً سمجة ويضحك عليها لوحده أيضاً، يمد يده لجيبه كل دقيقة ويعطيني إما حبة تمر أو قطعة حلوة قد انعجنت بغلافها الورقي لشدة بقائها في جيبه

ضحكت بسخرية على نفسي لوقوعي بين يدي هذا العجوز الهش، المكسو ذهباً والمنخورة عظامه من الداخل

وفي كل زيارة أجد منال عند الباب، أو في أرض الدار وكأنها تتنصت إلى حديثنا

تأتي وتجلس على طرف البحرة مضفرة شعرها الكستنائي اللون ومرتدياً ثوبها الوحيد الذي يتسع لسمنتها التي تزداد يوماً بعد يوم

ضاربة ألوان قوس قزح كلها في وجهها وأحمر الشفاه البالي يترك علامات تحت شفتيها المتدليتين

ثم أرى بوادر إعجاب من أبو منصور نحوها، يبدو أن نحالتي ووجهي الشاحب لا تملئان عينه البيضاء كما تفعل تلك البقرة التي تكاد تقلب في البحرة

خبأت ضحكتي بيدي، وأدركت أن منال تحب أبا منصور المنخور 

والمنخور ذو العين الزائغة لم يكلف نفسه عناء مقاومة إغرائها غجري الأسلوب ( النوري يعني) 

وكما يقول المثل ( رضينا بالبين والبين ما رضي فينا) 

المضحك المبكي والله!

فكرت أنني فاعل خير و ( يابخت الي موفق راسين بالحلال)  وسألت عمي لمَ لم   يخطب منال لأبو منصور بدل مني

أليست هي الأكبر والأبدى؟

نظر لي نظرة ملؤها الغضب والاستنكار وترك لقمته في صحن ( البرغل ببندورة)  الألمنيوم

وصرخ في وجهي 

" أتريدينني أن أزوج ابنتي البكر لرجل عجوز أكل الدود عقله؟ "

هذه ابنتي ولن أزوجها إلا لنصيب يليق بها "

ثم ابتسامة شامتة ظهرت على وجه زوجة عمي، أما منال فقد برمت شفتيها وعبست بينما تلاعب ظفيرتها

هي تعلم جيداً أن لاأحد سيطرق بابها لخطبتها وهي الفتاة المفرطة السمنة والغباء، وحيدة أهلها وبعمر العنوسة الاجتماعية تقريباً

وأنا في ذلك اليوم وعند اللقمة الثالثة التي يقوم عمي بعدهم عليي، قررت أن أفعل شيئاً حيال نفسي المهترئة والضعيغة والممزقة كخرقة بالية يمسح بها الجميع غائطهم جيئةً وذهاباً

انتظرت حتى سافر عمي لمحافظة بعيدة في عمل، وتركت المنزل ومكثت بعد الوقت في بيت جدتي العتيق والبالي لوحدي كبومة صغيرة تؤنسها رؤية الجن والشياطين والفئران أكثر من البشر

ثم عملت موظفة مطبخ في عيادة طبيب، أكرمني في راتبي لتفانيي وأخلاصي ونظافتي في العمل

جمعت القليل واستأجرت غرفة صغيرة في شارع التسعة والستين  مع صبيتين أخريين

دفعتني أحدهما لأكمل دراستي وأدخل الجامعة، عاد عمي من السفر ليجد المهنئين في داره

وظن أنه سيرد التهاني على زواجي من أبا منصور، ليتفاجئ ان ابنته قد أصبحت مع عريسها الطاعن في السن في الخليج

وأن ابنة أخاه اليتيمة قد تركت المنزل وهربت لتلحق العار بالعائلة الكريمة بأكملها

ذهب لبيت جدتي وخلع الباب وبحث عني وهو يصرخ ويشتم وترك لي رسائل تهديد مع هذا وذاك

والآن وبعد أربع سنوات، أمر بسيارتي من جانب باب منزله بالصدفة

لألعن كل تلك الأيام التي عشتها في كنفه وينظر لي هو من مكانه وهو ( يتحورق)  الشاي مع زوجته السحلية، والذهب في يدي قد أخذ لب عقله

لعل ابنته ترتدي ذهباً أكثر مني، ولكن ما حز في نفسه هو أن يرى ابنة أخيه الدودة الصغيرة

تعيش العز والرفاه الذي يليق بها وليست مسحوقة وممتنة لبضع لقيمات كان يمننها بها.

الدودة كبرت يا عمو وأصبحت فراشة

تمت

قُصاصاتحيث تعيش القصص. اكتشف الآن