أحمر

3.1K 125 42
                                    


ملقى على الأرضية كخرقة بالية
يدندن بلحن إحدى الأغاني التي تعلمها في الروضة
بصحبة صوت موسيقى الأوبرا التي تصدح من المسجل القديم الموضوع على الطاولة الخشبية المضرجة ببقع الدماء الجافة

محاط بقطع الزجاج المنثور أرضا المصبوغ باللون الأحمر! لون الدم القاني...

كما ينثر الحبيب لحبيبته الورود الحمراء

كلما تحرك تحتك قطع الزجاج بجسده و تخدشه و احيانا تمزقه ...

يرى ملاك الرحمة متوشحا السواد  ، يمسك منجله قابض الأرواح واقفا على أعتاب باب النهاية ...

يلوح له ليقترب منه ...

و صوت في رأسه مقيد بالإغلال يحاول التملص من القيود  ليصدح بصوت عال

( قلبك مازال ينبض... مازال ينبض لتعيش... مازال ينبض لآمالك... إجعل خوفك يتوارى في الأفق دون عودة... امنح نفسك فرصة و ستحلق الطيور حاملة النور إلى عينيك )

و صوت آخر يصدح في رأسه باكيا ضاحكا صارخا هامسا

( هذا الحزن في محياك نابع من جرح دامي و مخاوفك من الحياة هي آلام الماضي القاسي  ، ارسم الفخر! إنقش هذا الفخر بدمائك و بدمائك اكتب كلماتك الأخيرة  ، إنهي حياتك البالية )

و صوت ثالث يهمس ...

( بل تابع إرتكاب الخطيئة  ، ألا تراها كم هي لذيذة!
أخمد آلام قلبك و مرر تلك القطع الزجاجية على جلدك و زينه بالأحمر  ، الأحمر هو لون الحب و أنت تحب نفسك! فزينها بالأحمر أكثر و أكثر  ، أرقص حول ألسنة اللهب و لتحترق بنيران الشغف و في النهاية كأس واحد من شراب الجحيم سينسيك الألم! )

ثم باتت الأصوات الثلاث تتضارب في رأسه ...

( تستحق العيش! )

( تستحق النوم الأبدي! )

( تستحق الحصول على اللذة )

( إمنح نفسك فرصة )

( لا شيء يستحق العيش )

( تجرع مزيدا من المتعة )

( فالتعش! )

( موتي أيتها الروح الدنسة )

( أنت لم ترتوي هاك كأسا آخر )

تضاربت الأصوات في رأسه أكثر و أكثر
حتى بات يتلوى أرضا يضع يديه على أذنيه باكيا و صراخه يرتفع حتى وصل لذاك المسترخي بعيدا ببضع خطوات يتابع مسرحية جلد الذات هذه!

إستقام بطوله الفارع و صفق بيديه بإستمتاع من ثم
إقترب بخطواته الرزينة و جلس القرفصاء أمام الشاب الذي يتلوى أرضا

أمسك بشعره بقبضته بقسوة و عنف و رفعه و ثم ضربه بالأرضية بقوة فجعلها تتلون بالأحمر الساخن

جاهدت تلك العينان كثيرا حتى تبقى يقظة خوفا و رهبة من عالم الأحلام

لكن صوت موسيقى الأوبرا بات يصبح ضعيفا و خافتا و الرؤية باتت مشوشة و لماذا العالم أمسى يدور هكذا؟ و لماذا صورة هذا الرجل تتجعد هكذا و السواد ينتشر ... منذ متى العالم مظلم هكذا؟

و هل كان مشعا من قبل؟

يدندن بلحن طفولي و هو يغسل إحدى القطع القماشية بعد أن أطفئ المسجل القديم

صوت الدندنة و الماء الذي ينجرف للبالوعة كما ينجرف المعدن للمغناطيس كان أجمل و مميزا

بعد أن بلل القطعة القماشية إقترب بنفس خطواته
ناحية الشاب الفاقد الوعي و بمنتهى العطف مسح على جرح رأسه و همس (لا تلمني  ، فأنفاسي تحترق و عالمي محاط بأسوار من ضباب  ، لست أفهم ذاتي  ، جسدي و أطرافي تلتهب بنار الإنتقام  ، مهما حاولت إخمادها فهي تعاود الإشتعال و الإستعار أقوى فأقوى فلا تلمني  ، عليك بلوم روح والدك فهي من أسكنتك بهذا الشقاء )

فتح الآخر عينيه فجأة و قال بصوت واهن

( أكاد أنتهي....)

(و ماذا )

( و من الوجود أختفي.... )

( بماذا تشعر )

(و كأنني! سراب في سراب )

( و ماذا )

( يؤلمني قلبي  ، تحترق روحي  ، ذاتي تبكي  ، صرخة محبوسة في داخلي لا يمكنني إخراجها  ، إنها تخنقني  ، الأمل كان مدفونا في خيالي و الان لم أعد أعلم أين هو  ، أين أنا من هذا العالم و أين ذهب الضياء  ، لماذا كل شيء مضرج بالأحمر القاتم )

( لأن الأحمر هو لون الحب  ، الحب الفاسد... يا صغيري )

( لم على كل شيء أن يكون فاسدا )

( إن رأيت أرواح البشر و هي عارية فلن ترى منها إلا الفساد و القذارة و الدنس )

( هل أنا منهم؟ )

( أنت أشد طهر من أي أحد رأيته )

( لماذا أنا هنا )

( لأن روحك بحاجة ليتم تطهيرها من طهارتها  ، فالمشوهون بالبراءة أمثالك لا مكان لهم في هذا العالم )

( أريد العيش  ، لذلك..... دنسني  ، إجعل من روحي قذرة كبقية الأرواح   ، مازلت سأغفر لك )




أيا قلبي هل مازلت تنبض؟
اسمعني صوتك فأنا لا أسمعك
فجسدي ساكن و أنت هادئ و أعيني تكاد تغلق
إن كنت تسمعني فأرجوك عد للنبض
ضخ مزيدا من الحياة لعروقي فمازلت أريد الحياة
لازلت أريد أن أعيش
لا أريد الموت
لا أريد مواجهة خالقي بروح قذرة
دعني أتطهر من تلك الخطايا
أيا قلبي هل تسمعني؟
إمنحني مزيدا من النبض قليلا بعد
ربما لسنة أخرى؟
لثلاث؟
إجعلها عشر ...
أيا قلبي إمنحني مزيدا من ذاك السائل الأحمر
لون لي عروقي و شراييني بالأحمر
ضخ لي مزيدا بعد
لازلت لا أشعر بالحياة

قلبي... لا تخذلني كما خذلوني

إلهي لا تتركني
لا تعتقني من رحمتك
والداي تركاني يتيما
قلبي توقف في منتصف طريقي للحياة
كلهم خذلوني
إلهي لا تتركني
لا تحرمني من رحمتك
فأنا مازلت مؤمنا
مازلت أبكي ليلا على ذنوبي
مازلت أرثي حياتي التي أضيعها
مازلت أفقد أنفاسي مازال صدري يضيق كلما تذكرت خطاياي
و مازلت أبكي لأنني....لم أتوقف عن الإجرام بحق نفسي!

موتي أيتها الروح الدنسة!




























يتبع

متلازمة ستوكهولم (مكتملة)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن