القسم الرابع

6 1 0
                                    

سرت في شارع اكسفورد ، انظر الى كل شيئ دون ان ارى شيئا بعينه : الى الحوانيت و السيارات و الهنود و الزنوج و الانكليز ، و اسمع بأذن لاهية رطانة الانكليزية و رنة اللغات الاخرى .كنت اسير على الارض سير من يمشي على السحاب ، كنت لي حالة من السعادة صوفية .
وفجاه بدا قلبي يدق دقا عنيفا مؤلما، وشعرت بركبتي تترخيان ، وبيدا تقبض على معدتي وتعصرها عصرا، وتداركت انفاسي سراعا دون سبب ظاهر لي، و نظرت حولي، فاذا امامي سبب انفعالي، سجله ضميري قبل ان يدركه وعقلي.
نظرت فاذا بفتاه امامي تنثني ماشيه مشية ناعمه كانها ترقص على دقات قلبي، واحسست بريق يجف، عجلت بخطاي اكي ارى فتاتي من امام، ولست ادري هل احسست هي بشيء مما احسست به ،ام هل تداعت افكارها لما جال في نفسي، فانثنت تنظر الي، وما زلت اذكر تلك النظره التي رمقتني بها عينان خضراوان تميلان الى الزرقه ،تحنوا عليهما رموش سوداء،كصفصاف يضم نبعا نميرا، ومن فوقهما حاجبان كالفحم يحيطان بهما كأدع اطار لاروع لوحه .
تطلعت اليها -- و تطلعت الي برهة ، خيل لي انها استمرت ساعة ، دون ان ارى سوى هاتين العينين . و بدا عليها مثل الدهشة لحملقتي بها ، بهذه الطريقة البعيدة عن الطريقة الانكليزية . و كأن نظراتي الحائرة النهمة اثارت فيها بعض المرح فتبسمت ، فكأنما افترت عن نور و نار .
و سارت و سرت الى جانبها كالتائه ، و لززتها حتى كان شعرها يداعب وجهي ، و كنت في اثناء ذلك كالمسحور و اجتازت الشارع الى الرصيف الثاني فلحقت بها و كدت اداس اكثر من مرة ، و لا ابالي . و الشمس في هذا كله تصب عليها فيضا من النور الدافئ الجواد ، كذلك النور الذي يشع حول المسيح في اللوحات الايطالية القديمة ، ووصلت فتاتي الى حانوت دخلته . الا انها قبل ان تتوارى فيه ، التفتت الي و جادت علي بابتسامة اخرى ، زادتني سكرا على سكر .
و توالت الايام ، و الشمس كل يوم أكثر دفئا و ضياء ، مما لم تشهد لندن له مثيلا الا القليل . و كنت في ظهر كل يوم آتي الحانوت و اقف امامه انتظر ان تخرج فتاتي ، و اظل ساعة او اكثر منتصبا كالعمود ازاء واجهة الحانوت انظر باهتمام ظاهر الى ما عرض فيها من السلع . و لو كان الحانوت عاديا لهان الامر ، فإنه كان مختصا بالاشياء النسائية دون سواها . ولا شك في ان منظر رجل يحملق ساعة او اكثر في قمصان النساء و غير قمصانهن ، يثير الدهشة بل التساؤل في اي مدينة ، فكيف بلندن المتحرجة ؟
ولم اكن ابالي بنظرات التعجي يرسلها الي المارّوون ، و لا بنظرات الاستياء من النساء الداخلات الخارجات ، فلا اتزحزح من مكاني حتى تخرج فتاتي لتشتري شيئا من حانوت آخر فأتبعها كظلها و آخذ أجري آخذ الامر ابتسامة اقتات بها حتى اليوم التالي :
اراك تضحك ، و ما اراك الا قائلا في نفسك : ما هذا ؟ الا انني اريدك ان لا تنسى وضعي في ذلك الحين ، و من اين خرجت لاذهب الى لندن ، و حالتي النفسية و انكماشي ... و لا تنس الشمس و ميلا طبيعا في الى الباس الاشياء ثوبا مثاليا خياليا . و لا تنس ان مئات السنين من الضغط و الحرمان و الموروثين تنسمت في تلك الفتاة متنفسا و منهلا . و الواقع اني جعلت من تلك الفناة عروس احلامي و شريكة وحدتي و مؤنسة ليالي الطويلة التي كنت اقضيها احاول هضم مواد الحقوق الثقيلة المربكة
و قدمت الامتحان و نجحت بتفوق . و دخل في روعي - وللحب الاعيب عجيبة- ان لفتاتي ضلعا كبيرا في نجاحي .الم تكن معي في تحضير الامتحان ؟ الم تسهل لي سهر الليالي الطويلة المزعجة ؟ الم تكن ابتسامتها الاكسير الذي يهبني القوة و الجلد على العمل المضني ؟

شمس حزيران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن