القسم الثالث

6 1 0
                                    

وضعت قدمي في لندن في اوائل تشرين الثاني فوجدتها مجلله بضباب الاسود كأنها ملفوفة بحرام مبلل بالماء المثلج ، و ثارت طبيعتي التي ألفت الشمس ، الا ان الضباب لم يأبه لثورتي ، و لم البث ان انطويت على نفسي في حال تشبه السوداء . ولم تكن دراسة الحقوق الجافة لتبعث في حياتي ما ينقصها من حبور و فرح ، و من يجمع بين دراسة الحقوق الجافة و شتاء لندن فقد عرف جحيم الدنيا و جنبه الله جحيم الآخرة . و قضيت ستة شهور ما زالت ذكراها تمر في منامي ، فأستيقظ مذعورا .
و في أوائل نيسان ، أخذ النرجس يفتح في بساتين لندن ، و على مروجها ، و ان كنت ، على بعد زمن ، ما زلت على دهشتي الاولى ، كيف يمكن لزهر ، ايا كان نوعه ان يزهر في لندن بعد مثل ذلك الشتاء ؟ و أخذت الشمس تبدو من خلال الضباب و الغيوم مرة كل اسبوع ، فتعيد الى نفسي بعض روحها و حياتها . و اوشك الربيع ان ينتهي و لم احس بعد بدفء عظامي و لم اقلع ثياب الشتاء ، حتى كان اليوم الثاني من حزيران ... لا تقاطعني... ستفهم بعد قليل لمَ أحفظ التاريخ حتى الآن .
في ذلك اليوم من حزيران أفقت في غرفتي الصغيرة المكتظة بالاثاث الانكليزي البحت الذي كأننه صمم ليزيد العتمة عتمة و يمتص النور امتصاصا . و نظرت من النافذة فاذا بشمس ضحيانة كأنها ذوب الذهب تغمر الشارع ، و تضفي على البيوت المسودة غلالة من النور ، فعولت على الخروج بدون معطف على الرغم من تحذير صاحبة البيت العجوز . و قلت : لأن امرض من الشمس خير من لا احس بها تسري في ظهري و تسري فيه دافئة حبيبة .
و كانت لي عادة ، ربما كانت اجمل ما خلفته لندن في نفسي من ذكريات ، و هي عادة الخروج من المدرسة ظهرا ،، فأتغدى في مطعم فرنسي صغير قرب شارع اكسفورد ، ثم اخرج منه الى الشارع أذرعه طولا و عرضا ، و اغوص في لجة من الناس ، و احاول ان انسى وحدتي و انفرادي في هذا البحر من السابلة من كل جنس و عرق .
و كان ذلك اليوم من حزيران يوما مجيدا حقا ، تلمع شمسه على شارع اكسفورد ، و تنعكس في واجهات المخازن، و على زجاج السيارات و الباحات ، فتملأ النفس حتى تكاد ان تنسى انها في لندن و ان المطر قاب قوسين او ادنى .
ولست ادري اذا كنت لاحظت - مثل ما لاحظت انا دوما - ان شعاعا من الشمس يكفي لمضاعفة جمال الاشياء ، بل حتى ولستر قبحها عن الانظار . فان بيوت لندن المسودة من الدخان المتداعية للسقوط ، تلبس ثوبا قشيبا حين تنيرها الشمس . و كذلك الشوارع و النساء ، بلى.... الشمس للمرأة كالعصا السحرية التي تحدثنا عنها قصص الاطفال ، تزيدها جمالا اذا كانت دميمة ، حتى ان العين لا تملك الا ان ترى فيها شيئا جميلا ، قد يكون بريق الشمس على شعرها او انعكاس النور في عينيها ، او - و هو كذلك صحيح - دبيب الدفء في عروق الناظر نفسه .

شمس حزيران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن