القسم الثاني

6 1 0
                                    

و ذات يوم ، كنا جالسين في مكتبه نتحدث ، و جرنا الحديث الى الكلام عن العائلة و العلاقات العائلية ، فإذا بي أنطق بسؤال كان يدور على لساني من زمن طويل ، فقلت:
-- قل لي ، بالله ، و لا تغضب ، كيف تزوجت برندا ؟ ( و هو اسم زوجته )
فقال:-- لا تخشى عتبا مني ، ووضح سؤالك فقل : لمَ تزوجت برندا؟ و ها انا سأقص عليك نا لم اقصصه لأحد قبلك .
و مر محمد بيده على جبينه في حركة مألوفة له كلما شاء ان يتذكر أمراً و بدأ بقصته 🤔 :

حين ذهبت الى لندن اول مره، عرفت معنى كلمات العزله والوحشه والانفراد . كنت هناك (في مسقط راسي )العن الايام التي اولادتني في بلد ليس فيه ما يريح النفس من علاقات انسانيه. او بالاحرى من علاقات بين الرجال و النساء . و لا اعني العلاقات الجنسية الصرفة ، التي لا تحل مشكلا ، بل الروابط التي تنشأ عن النظر و الحديث و المصاحبة فتلطف الجو و تهدئ الاعصاب ، فينصرف الانسان الى عمل مجد له و لغيره ، فلا يفكر طول حياته في شيئ واحد : كيف السبيل الى ظل و ماء ووجود انثى ؟كيف المخرج من جهنم الوحدة ؟ كيف؟ ...
و الوحدة في بلادنا جهنم ، اما في لندن فهي الف جهنم . اذ اننا في بلادنا نكاد لا تكون لنا علاقة حديث او صداقة مع امرأة حتى كاد الوضع ان يكةم طبيعيا ، الا ثورات من حين الى آخر تجفف الدم و تحطم الاعصاب و تطحن العظم .. او تقذف بواحدنا الى اقرب مومس في سريرها، ثم يعود و في نفسه براكين من الغثيان و الحقد على نفسه و على كل ما تقع عليه عيناه . اما في لندن ، فالنساء لا اكثر منهن ، تلاقيهن في الجامعة و في البيت و في الشارع . و لكن هذه الكثرة غرارة . اذ ان الانكليزيات -- على قربهن من اليد -- ابعد من السماك عن القلب . فإنك تعاشر الانكليزية و تذهب في عشرتها الى ابعد الحدود و يبدو اليك في بعض اللحظات الخاطفة انها تتخلى عن البرود الذي ورثته عن مئات السنين ... و لكن هذا ليس الا سرابا . فانك لا تبلغ--مهما فعلت-- الحد الادنى من الصحبة الانسانية ، و لا تحس بالدفئ يملأ نفسك و يقشع عنها ضباب الوحشة . فصاحبتك في واد و انت في واد.. او هذا على الاقل ما يقوله الذين عرفوا الكثيرات منهن . اما انا فحالي تختلف عن ذلك .

وصلت لندن، اكبر مدينه في العالم ،مدينه الملايين من البشر، والنساء الثلاث لكل رجل، حسب الاحصاءات، وانا اخرج لاول مره من بلدي، كاني بدوي من عنزه، قذف فورا الي مدينه كبيروت مثلا ،مع ضرب هذا الفارق بمئة او بألف . و نزلت في بيت لدى سيدة انكليزية عجوز . و من لم ينزل مثل هذه البيوت لا يسعه تصور مدى السأم و الضجر و الانقباض الذي تنضح به وجوه ساكنيها من العوانس و العجائز و الضباط المتقاعدين و صغار الموظفين ، و ما ينبعث من ملل من الاثاث ذاته . اما الطعام ،فان ذكره الان ، بعد عشرين سنة او اكثر ، يقلب معدتي رأسا على عقب

شمس حزيران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن