بعد ان تحقق لنجم الدين الانتصار علي (بدر الدين لؤلؤ) وعلي(غياث الدين الرومي)، وتم انقاذ ابنه توران شاه من الحصار _انتقل الي "حصن كيفا" علي حدود التركستان، وشرع في ترتيب امره وتدبر افضل الطرق للوصول الي عرش مصر.
وكان قد مضي بعض الوقت دون ان يعرف شيئاً عن مصر ؛ فلا رسالة اقبلت ولا نبأ اتي، ولم يفد عليه احد من انصاره الذين يقبلون عليه من هناك ويطلعونه علي دقائق الامور، فقلق علي اصحابه؛ خوفاً من ان يكون مكروه قد اصابهم، وكانت قافلة قد وصلت بالامس من مصر، ولم يأت اليه احد منهم الي الآن.
ولما اشتد الضيق بصدره، خرج الي شرفة من شرفات الحصن المنيع، وجعل يقلب بصره في كل ناحية، وشجر الدر بجانبه تحدثه، جاهدة في تفريج كربه وازالة همه، وبينما هو في قلقه اذا بأحد الخدم يستأذن لأبي بكر القماش احد تجار القاهرة، فاسرع بالاذن له، واستقبله بسرور بالغ.
وبعدما عرض ابو بكر القماش بضاعته الجديدة، مد يده الي نجم الدين بقطعة من الذهب قائلاً "أرأيت يا مولاي هذا الدينار الجديد؟!".
فتتاوله نجم الدين من يده، وقرأ ما عليه من الكتابة، فبدا علي وجهه الامتعاض الشديد، ثم ناوله شجر الدر فقرأته ثم قالت متعجبة: "العادل سيف الدين ملك مصر والشام واليمن.." ثم ردته الي نجم الدين، ولم تزد شيئاً عما بدا في وحهها من السخرية، وما ارتسم فيه من الالم.
_ والتف نجم الدين الي ابي بكر القماش وقال في اهتمام شديد: "حدثنا عن مصر يا ابا بكر؟!".
_ جرت الامور يا مولاي علي النحو الذي يحبه العامة؛ فقد عاشوا اياما بين الذبائح التي تنحر في الميادين وتحت قلعة الجبل، وتوزع لحومها عليهم؛ ابتهاجا بملك مصر الجديد، وماجت الشوارع بالألوف التي خرجت لتشاهد موكب العادل سيف الدين، وهو يشقها الي القلعة بين جنوده واعوانه !
_ وكيف حال الأمراء والقواد يا ابا بكر؟
_ لم يبق في مصر الا ذوو النفوس الخبيثة الطامعة!
_ والملك يا ابا بكر؟!
_ والملك يا مولاي وراء الاستار وخلف الجدران، خبير بالجواري والوان الشراب والترف، لا يفيق الا حين يضع يدة في خزائن الدولة يغترف منها ما يشاء، لينفقه في اللهو والمجون.
وقد تقرب اليه الامراء بما يحب من الجواري ليخظوا عنده بمكانة كبيرة، وكان احظاهم عندة ( داود امير الكرك) الذي اصبح الآمر الناهي في قصر العادل يقصي عنه الناصحين والمخلصين ليزداد تسلطا عليه وتمكنا منه حتي لم يبق حوله احدا من ذوي الرأي والتدبير، فهذا الأمير فخر الدين ابن شيخ الشيوخ مقبوض عليه معتقلا بقلعة الجبل، متهماً بمكاتبتك يا مولاي، وحثك علي الاسراع الي مصر وانقاذها !
الم يعلم مولاي بخبر العادل والجواد نائب دمشق؟ !
يبدو ان العادل اتفق مع داود صاحب الكرك علي ان يعطيه دمشق، واحب ان يحتال علي الجواد لينفذ هذا الاتفاق، فبعث اليه بكتاب يعطيه فيه (الشوبك، وثغر الاسكندرية، وقليوب، وعشر قري من قري الجيزة) في مقابل أن ينزل عن نيابة السلطنة بدمشق، ثم يزيد في الخديعة، فيرجوه ان يسرع الي قلعة الجبل بمصر ليكون بجانبه، يعمل برأيه، فهو في امس الحاجة اليه.
_ وبما اجتب الجواد يا ابا بكر؟ !
_ لم ينطل ذلك علي ( الجواد) وسمعت ان (الجواد) فكر في ان يستعين بمولاي !
_ يستعين بي انا؟! وكيف يا ابا بكر؟
وفيما هما في ذلك الحديث اذا برسول اقبل من عند الجواد برسالة يرجو الرد عليها سريعا، ففضها نجم الدين ونظر فيها، وجعل يقرأ والبشر يزداد في وجهه، ولم يتمهل نجم الدين وامر بدواة وقلم، واعطي الكتاب لشجر الدر فقرأته وهزت رأسها موافقة في سرور، ثم التف نجم الدين ابي بكر وقال في بشاشة: خبر صادق يا ابا بكر ! جاء الكتاب ووافقت علي جميع مافيه ! ثم كتب الرد وسلمه الي الرسول، فانطلق به مسرعا .
وانثني نجم الدين الي ابي بكر وقال: سندخل دمشق يا ابا بكر ! استعان بي الجواد كما قلت، فعرض علي ان اقايضه آخد دمشق ويأخذ هو حصن كيفا وسنجار، وقد اسرعت بالموافقة كما رأيت !
فاشتد سرور ابي يكر وقال في فرح: "سفقة رابحة يا مولاي !". وعقبت شحر الدر قائلة :"زاد الامل اشراقا يا مولاي، فهل بعد دمشق سوي مصر؟! ثمانية عشر يوماً بالسفر الوئيد الهادئ"
_ والعوائق يا شجر الدر؟!
_ وهل يقف امام نجم الدين وعزماته عائق مهما كان؟ !
_ قال ابو بكر والشك يخامره: عدت افكر في هذا الذي صنعه الجواد . فليت يثبت علي رأيه يا مولاي !
واخشي ان يتدبر السفقة ويعرف الفرق، ويرجع وينقض ما ابرم !
_ فعقب نجم الدين مسرعاً قائلاً: لن ننتظر حتي يفكر و يتدبر !
اما انت يا ابا بكر فتعود الي مصر مع القافلة ومعك تعليماتي الي اتباعي من الامراء الثائرين علي ( العادل) وفساده والداعين الي الاصلاح والوحدة وجمع الكلمة، من ينشدون سلطانا قويا حازما، يثقون بعزمه وقدرته علي مواجهة الفرنج والتتار.
كما تحمل سلاما حارا الي (فخر الدين) ابن شيخ الشيوخ المعتقل بقلة الجبل، وتطمئنه علي الخلاص، وكان معه انباء اخري عن تدبير نجم الدين لدخول مصر واقتراب الفرج.
وكام رد نجم الدين بالموافقة على المقايضة قد بلغ الجواد فظن انه وفق، واذاع الخبر في دمشق، فارتاح الناس الي ذلك وارتقبوا وصول نجم الدين.
وفي اول جمادي عام 636 هجريا استقبلت دمشق (الصالح نجم الدين) احسن استقبال وكان علي فرسه الاشهب رافع الرأس باسم الثغر، يحيط به الفرسان الاشداء، وشجر الدر في هودجها سابحة في احلامها تتخيل دمشق ببهائها وجمالها، وتتعجل الوصول اليها .

أنت تقرأ
طموح جارية ( شجر الدر )
أدب تاريخيهذة قصة جارية اسمها شجر الدر ارمنية الاصل اشتراها الامير الصالح نجم الدين ايوب فاعطاها الحرية حين رزقت منه بابنهما خليل في عصر اشتد فيه الصراع بين الامراء الايوبيين علي حكم مصر والشام، كما طمع الروم والتتار في احتلالهما، فعملت بذكائها وحسن تدبيرها ع...