هزَّ الفرح جماعة الإصلاح والوحدة بنجاة نجم الدين، وأقبل بعضهم على بعض مهنئاً، ثم اجتمعوا في دار أبي بكر القمَّاش وجعلوا يقلِّبون الرأي في معاونة نجم الدين على دخول مصر، وإبطال كيد سوداء، واتفقوا على أنْ تَشِبَّ ثورة عنيفة في مصر حين يخرج العادل للقاء نجم الدين، تُلجئ العادل إلى العودة سريعاً دون أن يواصل السير، ثم خرجوا يدعون الناس سراً إلى ما اتفقوا عليه، ويبصِّرونهم بما يجب على الشعب أن يصنعه، للتخلُّص من الحكام الجائرين، ويُبَيِّنون لهم أنَّ البلاد مِلكُ الشعب، وأنَّ الحاكم نائب عن الشعب، يبقى ما عدل، فإنْ ظلم أو انحرف وجب خلعه وتولية من يُصلِح، و أنَّ السكوت على جَوْر الحكام لا يُقِرُّه الشرع، بل يعتبر الساكت عن الظلم شريكاً فيه.
وفي مكان ما من أحد القصور بالقاهرة، كان الأمراء الكاملية وغيرهم من الساخطين على العادل وحاشيته، يتدارسون الموقف ويستعرضون ما انتهت إليه الأمور من السُّوء، على يد العادل وعبثه ولهوه وانصرافه عن شئون الدولة، واحتجابه عن الناس وتركه الزمام للحاشية التي تتجرأ باسمه على الإثم، وتفرض ما تشاء من الضرائب، وتقترف ما تهوى من أبشع الجرائم اعتماداً على قربها منه، وتلك الألوف من الدنانير التي تُنثر على المساخر والعابثين والمُضحكين والسُّمار، الذين تحفل بهم القلعة من أول الليل إلى مطلع النهار، لا يفيقون ولا يعرفون سوى الكأس وبريق الدنانير التي تُلقى إليهم دون رقيب ولا حسيب.
ثم اتفقوا على خلع العادل والقبض عليه، وإرسال بعض الأمراء والكبراء إلى نجم الدين يحثُّونه على الإسراع بدخول مصر، ويطمئنونه بما يَرَون من الشعب، وعندما بلغ نجم الدين ما اتفقت عليه سوداء والصالح إسماعيل خاف أن يحصر بينهما، ولما حدَّثَ شجرة الدر في ذلك قالت : لا أظن شعب مصر يسكت على العادل وعبثه، وقد حدَّثتني يا مولاي طويلاً عن هذا الشعب العظيم وخصائصه الجليلة، وكيف إنَّه يصبر ما يصبر لكنَّه لا يسكت عن حقِّه، ويهدأ ويهدأ ولكنه لا يستكين لغاصبٍ، ولا يذلُّ لمعتدٍ .
ولم يطل بهما الحديث فقد جاء الأمراء الذين أُرسِلُوا إلى نجم الدين يستأذنون عليه، ومن بعدهم أبو بكر القمَّاش، جاء يخبره بعزم الشعب على خلع العادل والقبض عليه، فسُرِّي عن نجم الدين وزال هَمُّه، وجعل يستمع إليهم مشرق الوجه، وبعد غدٍ كان نجم الدين يقطع الطريق مُشَمِّراً إلى أرض مصر، ومعه أبو بكر القمَّاش وأمراء المماليك، وبعض كبار مصر، وداود يفكر في الثمن الذي يظن أنه سيقبضه حين يبلغ مصر، وهودج شجرة الدر يهتز معلناً الفرحة التي تملأ الأفئدة حتى دخل الموكب الرمل بين العريش والعبَّاسةِ، فقابلتهم وفود مصر مُحيِّيَةً مهنِّئةً، ولم ينزلوا منزلاً إلا قدم عليهم طائفة من الأمراء ومن الشعب، مستبشرين فرحين، حتى نزلوا بُلبيس.
وعلى الرمال الصفراء المنبسطة هناك، كانت مضارب الجيش المصري تخفق فوقها الأعلام، أمامها صفوف من الجند وقفت تستقبل الملك الصالح نجم الدين، طبولها تَدُقُّ وهتافها يرتفع إلى عَنان السماء، ونجم الدين وداود يمشيان بينها، حتى بلغا خيمةً كبيرةً حولها جنود أشداء يحيطون بِها في حذرٍ وانتباهٍ، ومن باب هذه الخيمة رأى نجم الدين أخاه العادل في وسطها، مُكَبَّلاً بالأغلال، ذليلاً فاقد الحول والطَّوْلِ، فلوى عنه وجهه وهو يقول مُعتبراً : هذا جزاء الظالمين العابثين بأموال الناس ودمائهم وأعراضهم! " إنَّ الله لَيُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلِتْه."
ولم يتمهَّل وألقى أمره بالرحيل إلى القاهرة، فتحرك الجيش، وصهلت الخيول، واهتزت الهوادج، وقَلْبُ نجم الدين يخفق بالفرح، وقلب شجرة الدر يفيض بالحبور، تودُّ لو طار بِها الهودج وبلغ بِها قلعةَ الجبلِ، قبل أن تُفلِتَ سوداء بنت الفقيه، لتلقى جزاءها.
أنت تقرأ
طموح جارية ( شجر الدر )
Ficción históricaهذة قصة جارية اسمها شجر الدر ارمنية الاصل اشتراها الامير الصالح نجم الدين ايوب فاعطاها الحرية حين رزقت منه بابنهما خليل في عصر اشتد فيه الصراع بين الامراء الايوبيين علي حكم مصر والشام، كما طمع الروم والتتار في احتلالهما، فعملت بذكائها وحسن تدبيرها ع...