وعندما استقر نجم الدين وشجرة الدر في دمشق ، قالت شجرة الدر في سرور : " منزل سعيد يا مولاي ، وما بعده أسعد بإذن الله " ، قال الصالح نجم الدين وهو يسرِّح بصره بعيداً ناحية مصر : ولكن كيف الوصول إلى مصر ؟! أعاننا القدر ودخلنا دمشق بغير أن نرفع سيفاً أو نريق دماً ، أما بعد هذا فالطريق شائك ، ولا أدري ما خُبِّئ لنا فيه من سيوف بني أيوب وكمائنهم وخبث الفرنج ، وتدبير سوداء بنت الفقيه ، وكيد أتباعها الموجودين في صفوفنا .
قالت وبريق الأمل يلمع في عينيها : بعزم مولاي تهون الشدائد ، وبتوفيق الله تزول العقبات وتنهد الرواسي ، وليس مع الشجاعة والعزم الصادق صعب ، ولا مع الإيمان بالحق مستعصٍ .
علينا أن ندبر والله الكريم هو الملهم والموفق ، فالله يرى هذه الأمة ومصابها ، ويعلم حاجتها في هذه الظروف إلى مولاي ، وسيعينه على أن ينتقم من ألئك الغزاة الذين دنَّسوا الأرض الطاهرة .
قال نجم الدين : " كلام جميل يا أم خليل ، لسانك يقطر شهداً ، وكلامك سكر مُصفَّى ، ويعجبني منك قلبك الثابت ، ونفسك الوثَّابة التي لا تعتريها الكلالة ، ولا تنال منها الشدائد " ، فأسرعت في نبرات واثقة قائلةً : " وكيف لا ، ومولاي نجم الدين الأيوبي هو مصدر قوتي وشجاعتي ، يمنحني العزم والإقدام ، و يفتح أمامي آفاق الأمل ".
وفيما هما يتناجيان ، إذا بالحاجب يعلن لنجم الدين وصول عمه مجير الدين ، وعمه تقي الدين من مصر ، واستئذانهما عليه ، فانصرفت شجرة الدر ، وأذن لهما نجم الدين ، فدخل عليه عمَّاه ، ومعهما بعض أمراء مصر ، وقضوا بقية الليل يحدثونه عن فرارهم من العادل، وعن مصر وما تردَّت في حمأته ، وإلحاح الشعب على أن يمد إليهم نجم الدين يده ، ويسرع بالقدوم وتخليصهم من شر العادل وحاشيته ، ونجم الدين يسمع ويفكر ، حتى صاح به تقي الدين قائلاً في حماسة واستعطاف : الواجب يدعوك يا مولاي ، فمتى تلبِّي داعِيَه ؟! واجب على مولاي أمام الله أن ينهض إلى مصر ، ويطفئ النار المشتعلة بِها قبل أن تحرقها ، إن مصر قوة هائلة يا مولاي ، إذا ضعفت ضعف الشام معها ، إنها القلب النابض لكل جيوشنا فَهَلاَّ عجَّل مولاي بالرحيل إليها لينتشلها مما هي فيه .
فكَّر نجم الدين فيما سمع واقتنع به فهو يعرف أن مصر قوة عظيمة يستطيع أن يضرب بِها الفرنج الضربة القاضية ، وينهي قصتهم في هذه البلاد فهو لا ينسى مآسيهم ولا يغفل عنهم ، ولا يغيب عن باله أنهم أخذوه رهينة في موقعة دمياط التي نشبت في عهد والده الكامل ، حين هاجموا هذا الثغر عام ستمائة وخمسة عشر للهجرة ، ليدخلوا منه مصر .
لذلك أرسل على عمه إسماعيل يطلب منه أن يسرع إليه ليساعده في دخول مصر ، ولم ينتظر وصول عمه فاندفع بجيشه مسرعاً على مصر ، وظلَّ يتابع المسير به حتى بلغ نابلس فاستولى عليها ثم وقف ينتظر وصول عمه إسماعيل .
ولكن قبل أن يصل كتاب نجم الدين إلى عمه الصالح إسماعيل ، كان كتاب ورد المنى ونور الصباح قد بلغ إسماعيل ، يُبْلِغانه فيه باتفاق نجم الدين والجواد ويحذِّرانه من خطر ذلك عليه ، فردَّ عليهما يحثُّهما على بث الفرقة بين جنود نجم الدين ، ولاسيما من معه من الأيوبيين إلى أن يرى رأيه.
ولم تتمهلا فقامتا على الفور بالاتصال بعميه مجير الدين وتقي الدين اللذين يصاحبانه ، ودار بينهم حديث طويل سخرت فيه ورد المنى منهما ، وهزِئَتْ من صبرهما على الطاعة لجارية من الجواري تأمر وتَنْهَى ، وحذَّرتْهما من البقاء مع نجم الدين ، وخوَّفتهما بطش شجرة الدر إذا تَمَّ لَها الأمر ، مؤكدة لهما أنَّها تسعى للملك لنفسها لا لابن أخيهما نجم الدين وأنَّها إذا وصلت إلى الملك قضت على الأيوبيين صغيراً وكبيراً ، وبخداع المرأة ودهائها ولباقة ورد المنى انخدع الرجلان ، وعاونا على إشاعة الفرقة بين أتباع نجم الدين من الأيوبيين .
وبينما كان الأمير نجم الدين ينتظر وصول عمه الصالح إسماعيل ، أقبلت الأنباء إليه بأنَّ إسماعيل هجم على دمشق بجيش ضخم ، واقتحمها وحاصر قلعتها ، وحصر فيها ابنه المغيث ، الذي تركه حاكماً عليها ، قال نجم الدين لعميه : " ماذا تريان في هذا الموقف الحرج ؟" فأسرع مجير الدين قائلاً في عجب : ماذا نرى ؟! وهل الأمر يحتمل التشاور والأخذ والرد ؟
أموالنا وأولادنا هناك ، أننتظر حتى ينهب الصالح إسماعيل دمشق ، ويقبض على أهلنا ويذيقهم الهوان ؟! . وهكذا أجاب تقي الدين قائلاً : ماذا أرى ؟! ابنك المغيث محصور بالقلعة ، ورأسه قريب من سيف إسماعيل ! أليس من الأفضل أن نعود لإنقاذه ؟!
وكيف نتقدم خُطوةً واحدةً وظهورنا مكشوفة ؟! أنأمن أن يسرع إسماعيل خلفنا ، ويحصرنا بين نارين : ناره ونار العادل وجيوش مصر ؟!
فاشتد عجب نجم الدين لهذا التَّبَدُّلِ من عميه ، وكظم غيظه ، ولم يرَ أمام هذه الظروف العصيبة إلا أن يوافقهما ويقرر العودة إلى دمشق ، وأسرع بِمن معه عائداً حتى بلغ القُصَيْر ، ولم يكن من رأي شجرة الدر أن يعود ، فقد كانت تُفَضِّل التقَدُّم إلى مصر ، ومن هنا يعرف نجم الدين كيف ينتزع دمشق ، ويؤدب الصالح إسماعيل وجنوده .
وعند القُصَيْر أقبلت الأنباء بسقوط قلعة دمشق في يد الصالح إسماعيل ، وقبضه على المغيث بن نجم الدين وإلقائه في السجن ، فعاد نجم الدين يسأل عميه عما يريان فيما صنع إسماعيل ، ويؤكد لهما أنه لا يرى جدوى من العودة ، وأنَّ خطوة إلى الأمام خير من خطوة إلى الخلف ، فأسرع مجير الدين يجيب في صوت ساخر : ونترك أهلنا وأموالنا ؟! نتقدَّم إلى هدف مجهول وندع ما في أيدينا ؟!ولم يتمهل هو وأخوه وأمر أتباعهما ومن أغرياه بالعودة ، فانطلقوا إلى دمشق وتركوا نجم الدين ليس معه سوى مماليكِه وامرأتِه شجرة الدر ، قالت شجرة الدر في غير اكتراث لهذه الحوادث المتلاحقة : " لا بأس على مولاي ، كل ما جرى دون عزم مولاي وشجاعته وصبره ، وما خُلِقَ الرجال إلا ليجابهوا الصعاب ويتغلبوا على الشدائد ".
وكيف نتصرف اليوم يا شجرة الدر ؟! لم نحسب حساب إسماعيل وخُبثه وأطماعه ، وتركنا دمشق قبل أن نُسَوِّي حسابنا معه ، وكان من الأجدر ألا نخرج منها قبل أن نقبض عليه ونسجنه أو نأخذه معنا .
أجابت في هدوءٍ : وقد كان معنا مجير الدين وتقي الدين وكثير من بني أيوب فهل أغنى شيئاً أنْ كانوا بيننا ؟! من خلفنا يا مولاي عقارب تسعى وأظافر تحفر ، وأمور تُدَبَّر ، وهذه تجربة ساقها الله إلى مولاي ليعلم أنه لا بد أن ينبذ هؤلاء الحاقدين الذين لا تصفو قلوبهم ، ويبحث عن آخرين يحبهم ويحبونه ، لا تنطوي أفئدتهم على حقدٍ أو تفور بأطماعٍ . لن ينفعك يا مولاي سوى غلمانك الذين تُنَشِّئهم على طاعتك ، وتملأ قلوبهم بحبك ، تأتي بهم صغاراً فتكون لهم الأبَ والأخَ والعمَّ ، وتزيد منهم حتى تصل إلى ما تريد
كل بني أيوب يا مولاي طامع في الْمُلك لا حديث لكبيرهم ولا لصغيرهم سوى الحكم والسلطان ، ينبتون في حَمْأة الخلاف والتباغض والتحاسد ، فتنو الفُرقة في صدورهم ، ويشِبُّ كل منهم على حقد آبائه وأطماعهم ، لا يعرف إلا التخاصم والتنازع ، والعمل على انتزاع ما كان للآباء والأجداد والإخوة والأعمام ، دون النظر إلى القوي القادر الذي يحمل الأعباء وينهض بوزر الحكم الثقيل ، كل واحد منهم يا مولاي يعيش في دوَّامة الطمع ، لا يفكر في قدرته واستعداده ، ولا يعرف ثِقَل الحمل الذي يوضع على عاتقه إن قُيِّض له أن يحكم ، حتى الأبلَهِ منهم يا مولاي يظن أنه يستطيع !.
هزّّ نجم الدين رأسه مرات ، ثم قال : معك حق يا شجرة الدر ، وكيف نخرج من مأزق اليوم ؟! تدبير بُيِّت بليلٍ كما تقولين ، فما العمل ؟
الأمل في جانب واحد يا مولاي ، في جانب داود صاحب الكرك .
عجباً ، وهل يُرجَى من داود خيرٌ ؟! إنَّه مرةً معنا ومرةً علينا ، وكل همه أن يصل إلى مُلك الشام الذي كان لأبيه ، وأنا اليوم أشد خوفاً من جانبه ، فإذا علم ما نحن فيه هاجمنا وانتهى مِنَّا .
قالت مسرعةً إنه لن يهاجمنا ، ولن يقضي علينا ؛ لأن ذلك يقوي عدوه إسماعيل ، وأرى أنه في حاجة إلينا لنعاونه على أن يأخذ دِمَشْقَ ، ألا يرى مولاي أن نبعث إليه ونُمنِّيَه بِها ، ونضمه إلينا ونتقوى به في هذا الموقف ، ولا إخاله إلا مستجيباً ! وكان داود في ذلك الوقت في مصر يطلب معاونة الملك العادل على بلوغ دِمَشْق .
وافق نجم الدين على ما اقترحت شجرة الدر ، وشكر لَها رأيها الصائب ، وكتب تواً لإلى داود يَعِدُه و يُمنِّيه ، وأسرع الرسول بالرسالة ، ينهب الطريق إلى مصر .

أنت تقرأ
طموح جارية ( شجر الدر )
Fiksi Sejarahهذة قصة جارية اسمها شجر الدر ارمنية الاصل اشتراها الامير الصالح نجم الدين ايوب فاعطاها الحرية حين رزقت منه بابنهما خليل في عصر اشتد فيه الصراع بين الامراء الايوبيين علي حكم مصر والشام، كما طمع الروم والتتار في احتلالهما، فعملت بذكائها وحسن تدبيرها ع...