الفصل الرابع (عقبة في طريق الامل)

64 6 0
                                    

وعندما استقر نجم الدين وشجرة الدر في دمشق ، قالت شجرة الدر في سرور : " منزل سعيد يا مولاي ، وما بعده أسعد بإذن الله " ، قال الصالح نجم الدين وهو يسرِّح بصره بعيداً ناحية مصر : ولكن كيف الوصول إلى مصر ؟! أعاننا القدر ودخلنا دمشق بغير أن نرفع سيفاً أو نريق دماً ، أما بعد هذا فالطريق شائك ، ولا أدري ما خُبِّئ لنا فيه من سيوف بني أيوب وكمائنهم وخبث الفرنج ، وتدبير سوداء بنت الفقيه ، وكيد أتباعها الموجودين في صفوفنا .
قالت وبريق الأمل يلمع في عينيها : بعزم مولاي تهون الشدائد ، وبتوفيق الله تزول العقبات وتنهد الرواسي ، وليس مع الشجاعة والعزم الصادق صعب ، ولا مع الإيمان بالحق مستعصٍ .
علينا أن ندبر والله الكريم هو الملهم والموفق ، فالله يرى هذه الأمة ومصابها ، ويعلم حاجتها في هذه الظروف إلى مولاي ، وسيعينه على أن ينتقم من ألئك الغزاة الذين دنَّسوا الأرض الطاهرة .
  قال نجم الدين : " كلام جميل يا أم خليل ، لسانك يقطر شهداً ، وكلامك سكر مُصفَّى ، ويعجبني منك قلبك الثابت ، ونفسك الوثَّابة التي لا تعتريها الكلالة ، ولا تنال منها الشدائد " ، فأسرعت في نبرات واثقة قائلةً : " وكيف لا ، ومولاي نجم الدين الأيوبي هو مصدر قوتي وشجاعتي ، يمنحني العزم والإقدام ، و يفتح أمامي آفاق الأمل ".
وفيما هما يتناجيان ، إذا بالحاجب يعلن لنجم الدين وصول عمه مجير الدين ، وعمه تقي الدين من مصر ، واستئذانهما عليه ، فانصرفت شجرة الدر ، وأذن لهما نجم الدين ، فدخل عليه عمَّاه ، ومعهما بعض أمراء مصر ، وقضوا بقية الليل يحدثونه عن فرارهم من العادل، وعن مصر وما تردَّت في حمأته ، وإلحاح الشعب على أن يمد إليهم نجم الدين يده ، ويسرع بالقدوم وتخليصهم من شر العادل وحاشيته ، ونجم الدين يسمع ويفكر ، حتى صاح به تقي الدين قائلاً في حماسة واستعطاف : الواجب يدعوك يا مولاي ، فمتى تلبِّي داعِيَه ؟! واجب على مولاي أمام الله أن ينهض إلى مصر ، ويطفئ النار المشتعلة بِها قبل أن تحرقها ، إن مصر قوة هائلة يا مولاي ، إذا ضعفت ضعف الشام معها ، إنها القلب النابض لكل جيوشنا فَهَلاَّ عجَّل مولاي بالرحيل إليها لينتشلها مما هي فيه .
فكَّر نجم الدين فيما سمع واقتنع به فهو يعرف أن مصر قوة عظيمة يستطيع أن يضرب بِها الفرنج الضربة القاضية ، وينهي قصتهم في هذه البلاد فهو لا ينسى مآسيهم ولا يغفل عنهم ، ولا يغيب عن باله أنهم أخذوه رهينة في موقعة دمياط التي نشبت في عهد والده الكامل ، حين هاجموا هذا الثغر عام ستمائة وخمسة عشر للهجرة ، ليدخلوا منه مصر .
  لذلك أرسل على عمه إسماعيل يطلب منه أن يسرع إليه ليساعده في دخول مصر ، ولم ينتظر وصول عمه فاندفع بجيشه مسرعاً على مصر ، وظلَّ يتابع المسير به حتى بلغ نابلس فاستولى عليها ثم وقف ينتظر وصول عمه إسماعيل .
ولكن قبل أن يصل كتاب نجم الدين إلى عمه الصالح إسماعيل ، كان كتاب ورد المنى ونور الصباح قد بلغ إسماعيل ، يُبْلِغانه فيه باتفاق نجم الدين والجواد ويحذِّرانه من خطر ذلك عليه ، فردَّ عليهما يحثُّهما على بث الفرقة بين جنود نجم الدين ، ولاسيما من معه من الأيوبيين إلى أن يرى رأيه.
ولم تتمهلا فقامتا على الفور بالاتصال بعميه مجير الدين وتقي الدين اللذين يصاحبانه ، ودار بينهم حديث طويل سخرت فيه ورد المنى منهما ، وهزِئَتْ من صبرهما على الطاعة لجارية من الجواري تأمر وتَنْهَى ، وحذَّرتْهما من البقاء مع نجم الدين ، وخوَّفتهما بطش شجرة الدر إذا تَمَّ لَها الأمر ، مؤكدة لهما أنَّها تسعى للملك لنفسها لا لابن أخيهما نجم الدين وأنَّها إذا وصلت إلى الملك قضت على الأيوبيين صغيراً وكبيراً ، وبخداع المرأة ودهائها ولباقة ورد المنى انخدع الرجلان ، وعاونا على إشاعة الفرقة بين أتباع نجم الدين من الأيوبيين .
 وبينما كان الأمير نجم الدين ينتظر وصول عمه الصالح إسماعيل ، أقبلت الأنباء إليه بأنَّ إسماعيل هجم على دمشق بجيش ضخم ، واقتحمها وحاصر قلعتها ، وحصر فيها ابنه المغيث ، الذي تركه حاكماً عليها ، قال نجم الدين لعميه : " ماذا تريان في هذا الموقف الحرج ؟"   فأسرع مجير الدين قائلاً في عجب : ماذا نرى ؟! وهل الأمر يحتمل التشاور والأخذ والرد ؟
أموالنا وأولادنا هناك ، أننتظر حتى ينهب الصالح إسماعيل دمشق ، ويقبض على أهلنا ويذيقهم الهوان ؟! . وهكذا أجاب تقي الدين قائلاً : ماذا أرى ؟! ابنك المغيث محصور بالقلعة ، ورأسه قريب من سيف إسماعيل ! أليس من الأفضل أن نعود لإنقاذه ؟!
  وكيف نتقدم خُطوةً واحدةً وظهورنا مكشوفة ؟! أنأمن أن يسرع إسماعيل خلفنا ، ويحصرنا بين نارين : ناره ونار العادل وجيوش مصر ؟!
   فاشتد عجب نجم الدين لهذا التَّبَدُّلِ من عميه ، وكظم غيظه ، ولم يرَ أمام هذه الظروف العصيبة إلا أن يوافقهما ويقرر العودة إلى دمشق ، وأسرع بِمن معه عائداً حتى بلغ القُصَيْر ، ولم يكن من رأي شجرة الدر أن يعود ، فقد كانت تُفَضِّل التقَدُّم إلى مصر ، ومن هنا يعرف نجم الدين كيف ينتزع دمشق ، ويؤدب الصالح إسماعيل وجنوده .
   وعند القُصَيْر أقبلت الأنباء بسقوط قلعة دمشق في يد الصالح إسماعيل ، وقبضه على المغيث بن نجم الدين وإلقائه في السجن ، فعاد نجم الدين يسأل عميه عما يريان فيما صنع إسماعيل ، ويؤكد لهما أنه لا يرى جدوى من العودة ، وأنَّ خطوة إلى الأمام خير من خطوة إلى الخلف ، فأسرع مجير الدين يجيب في صوت ساخر : ونترك أهلنا وأموالنا ؟! نتقدَّم إلى هدف مجهول وندع ما في أيدينا ؟!ولم يتمهل هو وأخوه وأمر أتباعهما ومن أغرياه بالعودة ، فانطلقوا إلى دمشق وتركوا نجم الدين ليس معه سوى مماليكِه وامرأتِه شجرة الدر ، قالت شجرة الدر في غير اكتراث لهذه الحوادث المتلاحقة : " لا بأس على مولاي ، كل ما جرى دون عزم مولاي وشجاعته وصبره ، وما خُلِقَ الرجال إلا ليجابهوا الصعاب ويتغلبوا على الشدائد ".
وكيف نتصرف اليوم يا شجرة الدر ؟! لم نحسب حساب إسماعيل وخُبثه وأطماعه ، وتركنا دمشق قبل أن نُسَوِّي حسابنا معه ، وكان من الأجدر ألا نخرج منها قبل أن نقبض عليه ونسجنه أو نأخذه معنا .
  أجابت في هدوءٍ : وقد كان معنا مجير الدين وتقي الدين وكثير من بني أيوب فهل أغنى شيئاً أنْ كانوا بيننا ؟! من خلفنا يا مولاي عقارب تسعى وأظافر تحفر ، وأمور تُدَبَّر ، وهذه تجربة ساقها الله إلى مولاي ليعلم أنه لا بد أن ينبذ هؤلاء الحاقدين الذين لا تصفو قلوبهم ، ويبحث عن آخرين يحبهم ويحبونه ، لا تنطوي أفئدتهم على حقدٍ أو تفور بأطماعٍ . لن ينفعك يا مولاي سوى غلمانك الذين تُنَشِّئهم على طاعتك ، وتملأ قلوبهم بحبك ، تأتي بهم صغاراً فتكون لهم الأبَ والأخَ والعمَّ ، وتزيد منهم حتى تصل إلى ما تريد 
كل بني أيوب يا مولاي طامع في الْمُلك لا حديث لكبيرهم ولا لصغيرهم سوى الحكم والسلطان ، ينبتون في حَمْأة الخلاف والتباغض والتحاسد ، فتنو الفُرقة في صدورهم ، ويشِبُّ كل منهم على حقد آبائه وأطماعهم ، لا يعرف إلا التخاصم والتنازع ، والعمل على انتزاع ما كان للآباء والأجداد والإخوة والأعمام ، دون النظر إلى القوي القادر الذي يحمل الأعباء وينهض بوزر الحكم الثقيل ، كل واحد منهم يا مولاي يعيش في دوَّامة الطمع ، لا يفكر في قدرته واستعداده ، ولا يعرف ثِقَل الحمل الذي يوضع على عاتقه إن قُيِّض له أن يحكم ، حتى الأبلَهِ منهم يا مولاي يظن أنه يستطيع !.
هزّّ نجم الدين رأسه مرات ، ثم قال : معك حق يا شجرة الدر ، وكيف نخرج من مأزق اليوم ؟! تدبير بُيِّت بليلٍ كما تقولين ، فما العمل ؟
الأمل في جانب واحد يا مولاي ، في جانب داود صاحب الكرك .
عجباً ، وهل يُرجَى من داود خيرٌ ؟! إنَّه مرةً معنا ومرةً علينا ، وكل همه أن يصل إلى مُلك الشام الذي كان لأبيه ، وأنا اليوم أشد خوفاً من جانبه ، فإذا علم ما نحن فيه هاجمنا وانتهى مِنَّا .
قالت مسرعةً إنه لن يهاجمنا ، ولن يقضي علينا ؛ لأن ذلك يقوي عدوه إسماعيل ، وأرى أنه في حاجة إلينا لنعاونه على أن يأخذ دِمَشْقَ ، ألا يرى مولاي أن نبعث إليه ونُمنِّيَه بِها ، ونضمه إلينا ونتقوى به في هذا الموقف ، ولا إخاله إلا مستجيباً ! وكان داود في ذلك الوقت في مصر يطلب معاونة الملك العادل على بلوغ دِمَشْق .
وافق نجم الدين على ما اقترحت شجرة الدر ، وشكر لَها رأيها الصائب ، وكتب تواً لإلى داود يَعِدُه و يُمنِّيه ، وأسرع الرسول بالرسالة ، ينهب الطريق إلى مصر .

طموح جارية ( شجر الدر ) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن