المشهد الخامس

45.1K 2K 428
                                    


حافظ على خيط الوقــار الجاد مع زوجته، خلال إشراف مدير المطعم على تلبية طلباته بتفانٍ واضح، ليستأذن بعدها الأخير في تهذيبٍ شديد، متمنيًا شهية طيبة لكليهما. نظرت "تقى" للطعام الموضوع أمامها، كانت الأطباق منسقة كتحفٍ فنية، تخشى المساس بها، حتى لا تفسد لمسة الطاهي المحترف، مطت شفتيها قليلاً، ثم استطردت هاتفة بعدها بربكةٍ ظهرت عليها:

-مش هاعرف أكل، الناس ممكن تضحك عليا.

بإشارة جادة من عينيه قال لها:

-بصي حواليكي، مافيش حد يقدر يزعجك، فكلي زي ما إنتي عاوزة يا حبيبتي.

أوضحت له بتوترٍ لم يخبت بعد:

-أنا اتعلمت شوية حاجات في دروس الاتيكيت اللي بأحضرها، بس مش عارفة إن كان ده صح ولا لأ؟

مد "أوس" يده ووضعها على راحتها المسنودة على الطاولة، احتضنها بأصابعه، ثم نظر لها في عينيها ليؤكد لها:

-"تقى"، أنا بأحبك في كل حالاتك.

ابتسمت في رقةٍ لدعمه، وحاولت أن تتخلى عن رهبتها من التطبيق العملي لما درسته خلال الفترة المنصرمة، لتبدو كسيدة مجتمع أنيقة، لا تحرج زوجها إن اضطرتها الظروف لمشاركته إحدى المناسبات الاجتماعية التي تتطلب حضورها، متذكرة تلميحات "رغد" المريضة عن جهلها، وتخلفها الفاضح، بالإضافة لعجرفتها، ونظراتها الاستحقارية الموجهة لشخصها. هاجمتها أسوأ اللحظات البائسة؛ لكنها نفضت جميع أفكارها السوداوية، المتعلقة بالماضي، عن رأسها، واستمتعت بعشائها الشهي مع زوجها السخي، بدد الأخير لحظات الصمت التي سادت بينهما، ليسألها في اهتمامٍ:

-قوليلي، فكرتي تعملي إيه بعد ما خلصتي دراسة؟

أجابته بعد أن لاكت سريعًا قطعة الطعام الموجودة في فمها:

-في كام كورس كده بأشوفهم، "ليان" هتساعدني أختار المناسب ليا.

هز رأسه معلقًا:

-عاوزة نصيحتي، ما تعتمديش عليها.

قطبت جبينها متسائلة في استغراب:

-إنت بتخوفني منها ولا إيه؟!

علل مدللاً على أسبابه المنطقية:

-لأ، بس دماغها غيرك، ميولها عكسك تقريبًا، إنتو مختلفين عن بعض، وفي النهاية إنتي حرة في اختيارك، أنا مش هامنع.

تطلعت إليه مليًا؛ وكأنها تفكر في أمر ما، والحق يُقال أنه استحوذ على تفكيرها لوقتٍ لا بأس به، وربما جاء الوقت لإخراجه من حيز عقلها، وتطبيقه على أرض الواقع. استجمعت "تقى" رباطة جأشها، ولعقت شفتيها، لتقول له بلعثمة خفيفة:

غسق الأوس ©️ - ليلة دافئة - كاملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن